قبل ساعتين من رفع الستار عن بداية عرض مسرحية "الجريمة الكبرى" وصل الجميع.
ارتكن الممثلون في الطرقات الضيقة بين جنبات الكواليس، يقبضون على مُزق من أوراق النص، يراجعون أدوارهم، انشغل مهندس الإضاءة في اختيار الكشافات، وقد نثرها بحيث لا تسقط إضاءة مباشرة البتة على شخوص المسرحية، انهمك المخرج في اللا شيء، كان يرتطم في الأشياء والناس، دون وجهة محددة، ربما كان أهم إنجاز يشغل الجميع، هو مهمة مهندس الديكور .. أن ينجح في إغراق السفينة، فكان عليه أن يطمئن على إجراءاته بحيث يتم الغرق في أقل الخطوات وعلى مهل وبأمان كامل .. وهي تعليمات المخرج وتحذيراته أيضاً. اكتفت "أم السعد" عاملة البوفيه بالدوران حولهم، حاملة صينية نحاسية متهالكة تعلوها أكواب الشاي الساخن، وقد خصها صاحب البوفيه بالممثلين بعدما قرر أنها شاخت، ولم تعد تصلح لملاقاة جمهور المشاهدين، ثم عيَّن بدلا منها بعض الصغيرات الجميلات.
ولأنها تعلم دهاليز المكان منذ سنين بعيدة في هذا المسرح العتيق، هبطت، انحنت، نجحت في الوصول على مهندس الديكور الغائر تحت مستوى أرضية خشبه المسرح، منهمكا في ضبط خطوات مهمته، ولم يُجبر خاطرها بشرب كوب منها، برر ذلك بعدم رغبته في إلقاء أي شيء في جوفه وإلا ارتجعه عفوا بسبب القلق .. ربما تخذله السفينة فلا تغرق ويضيع مضمون المسرحية كلها وجهد الجميع، لم يمهلها للحوار والإلحاح، تركها وغرب عنها.
أخيراً انتبهت "أم السعد" للعم "كامل" المُلقن الذي فضل البقاء مع مهندس الديكور تحت خشبه المسرح كما اعتاد دائماً، حتى بعدما ألغى المخرج الشاب دوره ومهمته .. وقد ألزم الممثلين بحفظ الأدوار وعدم الحاجة إلى مُلقن، كما كل المسارح الحديثة.
مال إلى إذن "أم السعد" قائلا:
ـ "من ثلاثين سنة وأنا مُلقن، النهارده عيل من دور ولادنا يلغي دوري .. تصوري".
مصمصت شفتيها، مع إيماءة عصبية صامتة، ثم همست وكأنها تحادث نفسها: ـ "ولا بعت كباية شاي واحدة".
أخرج المُلقن علبة سجائره، فانتفضت وقبضت عليها: "ممنوع"، نزع العلبة ويده بقوة: "ما أنا عارف"، أشعل سيجارته في تؤودة وسحب عدة أنفاس متلاحقة عميقة وبنهم لافت، وهو يعلم أنها من المحظورات التي حذره منها الطبيب وإلا ..
بدأ العرض المسرحي بتلك الدقات التقليدية، مع موسيقى عالمية لوشوشات البحر الهادئة مع هديل طيور البحر، بينما يدخل ويخرج الممثلون لعرض المشهد الأول حيث وجدوا قتيلا في قمرته، لم يطل الحوار، قرر الربان ومساعدوه إخفاء الخبر حتى نهاية الرحلة.
انتبه المُلقن وعاملة البوفيه، كما لو كانا يسمعان المشهد للمرة الأولى، كلما حاولت النهوض من جلستها القرفصاء، انقض على ساعديها الضامرتين بكفه المفلطحة الغليظة .. فتبتسم بسمة ملؤها السعادة التي لا تعرف سِرها، وتُعبر عن رفضها بدلال غريب عليها عادة، قائلة: "سيبني يا راجل أشوف أكل عيشي" .. تخاف صاحب البوفيه الذي يزجرها دائماً على بطء حركتها وقلة مبيعاتها، ثم جد عليها أن بدأ يخصم منها قيمة الزجاجيات التي تتحطم عفواً عنها .. حتى بات كل همها لملمة الفارغ قبل حرصها على بيع الممتلئ.
شكت للرجل همها الجديد، وهو ما أثاره، وبرطن بكلمات كثيرة، لم يمهلها حتى تفهم ما يقول، إلا من كلمات أخيرة: "والله أضربه"، فقدمت إليه كوباً من الشاي على نفقتها، لم يعترض، بدأ يحتسي الشاي في روية، لكنه اشترط عليها أن تشاركه بشرب كوب آخر، لم تعترض أيضا، فضلت أن تتربع على الأرض، وإن بقى مقرفصاً غير حريص على ضم ركبتيه المنفرجتين، أصبحا وجها لوجه، وكل منهما يطرق أذنيه متابعاً مشاهد المسرحية فوق رأسيهما.
بسرعة أدخلها الرجل إلى دائرته، عبر لها عن ضجره واعتراضه على ذاك المخرج الذي مزق النص إلى قصاصات ووزعها على الممثلين: "كل ممثل يحفظ دوره، لا هو عارف زميلة ح ينتهي إمتى ولا إمتى هو نفسه ح يبدأ.
بدأ يسرد ذكرياته أيام كان الممثل يحفظ كل المسرحية عن ظهر قلب، لم يصمت إلا عندما لمحها تهم بوضع كوبها الفارغ على الصينية، اندفع بحيوية شاب في العشرين، قبص الكوب الفارغ فلامس عقلات أصابع كفها اليمنى التي لم تعد ناعمة، وإن بدت له كذلك تحت أطراف أناملها الخشنة، للوهلة الأولى لم ينتبه، لكنها قالت: "يا راجل عيب عليك"، ففهم !، انتبهت فيه حمية قديمة ولت منذ زمن، رمى ببصره نحوها فأسدلت جفونها فيما كانت الإضاءة تزداد فوق خشبه المسرح وتتسلل نحوهما من خلال شقوق غامضة بما يكفي أن يتبين له حُمرة بشرتها التي كانت شاحبة، وكأنها عذراء في العشرين.
عاود الرجل سبابه، صب جام غضبه على المخرج الجاهل الذي عدل من النص الأصلي، "بالذمة ده راجل بيفهم فن يا أم السعد ؟"، هزهزت كرة رأسها، ولم تصمت: "والله لو الناس دي بتفهم كنت أنتَ اللي أخرجت المسرحية دي".
ـ "مين يقرأ ومين يسمع".
قالها سعيداً، قبض على كتفيها بأنامله العشرة، يهزهزها، فانجذبت نحوه بشدة، ربما تفوق قوة هزهزته، فانبعجت الطرحة السوداء وانكشف شعرها الليل المصبوغ عند أعلى الجبهة الضيقة.
لم تعد تتابع حوارات الممثلين، طال انشغالها بإعادة إحكام منديل الرأس المشغول بالترتر، وبشعرها الموصول بالمقاصيص وقد خلعت عن نفسها الطرحة والمنديل لتعاود ارتدائهما، شغلتها الطرحة طويلا، تفردها بطولها، تدفعها في الهواء عدة دفعات بلا داع، وبحركة خبيرة تومئ برقبتها لاستقبالها، تسعى لإسقاطها من عل .. تفشل، بعدما ترتطم الطرحة بالرجل، فتنبعج ولا تصل إلى رأسها، وفي كل مرة يقولها الرجل مبتسما: "أحسن"، فتضحك، يضحكان معاً.
وفي لحظة ينتظرها العم "كامل"، أمرها أن تكف المحاولة حتى يسمعا الكلمات التي كان يجب بعدها إغراق السفينة، بقرف دلدلت ذراعيها قائلة: "عرفاها !!" .. إلا أنها صمتت أيضا وكفت المحاولة على مضض.
بإصرار نهض الرجل، جذبها من ذراعيها إلى أعلى، أمرها بالانحشار في تلك الزاوية الضيقة، يطلان من تلك الفتحة الخبيثةَ، يتابعان اللحظة المنتظرة، لم ترفض ولكنها لم تنهض سريعاً، جذبها نحوه بشدة، ووصلا في خطوة واحدة، وهما لا يدريان أنهما أو أيا منهما ضرب بقدمه عفواً صينية الشاي فتحطمت بعض أكوابها، لم تحاول "أم السعد" إلقاء ولو نظرة واحدة للوراء نحو صوت التهشم العالي.
نظرة واحدة من الطاقة، كشفت لهما كل خشبه المسرح فوقهما.
نجحا معا في حشر رأسيهما، رأسها العاري من المنديل والطرحة السوداء ورأسه الذي يبدو وكأنه استطال وتمدد بحيث سمح لرأسها بأن تلتصق برأسه .. وإن تلامست بعض مواضع بارزة من جسديهما، لم يتململ أحدهما حتى انتهى الممثل من جملته الأخيرة والمنتظرة:
ـ "إن الجريمة الكبرى، لا يمكن أن ترتكب، إلا بواسطة مجموعة من الناس، ولأنها جماعة فلا يشعرون بالمسئولية، وتقع الجريمة بسهولة".
بعدها انسل كل منهما من الآخر ببطء وبسكينة، حتى عاودا الوقوف في موقعهما الأول، ومن جديد عاودت محاولة وضع الطرحة السوداء فوق رأسها لتلحق بالممثلين فور إسدال الستار.
لم يمهلها، عاود اعتراض طريق الطرحة فلا ترسو فوق رأسها، ويضحكان ثانية، علت الضحكات وزادت كلما كررت "أم السعد" المحاولة .. فيما كان المخرج الشاب يصرخ من خلف الكواليس:
"أنا سامع صوت ضحك، منين الصوت ده .. أنا ح اجنن ؟!.