وصلا غرفتهما في الفندق الحادية عشر والنصف ليلاً بعد ثمان وأربعين ساعة متواصلة من عمل شاق لاستعدادات حفلة الزفاف والسفر إلى هذه المدينة الساحلية الخلابّة لقضاء أسبوع الزواج الأول بعيداً عن تبريكات الأقرباء وزحمة المهنئين. قال وقد برك على طرف السرير الذي أعد خصيصاً لعروسين:
كيف حدث ذلك يا نادية، أكاد لا أصدق أن كل هذا بدأ بمزحة صغيرة.
نظرت في عينيه وهي تبرك جواره: قل أنت يا منير، ما الذي دفعك لتطلبني للزواج.
قال بعفوية، رغدة كانت الكلمة الأولى، أو لأقل المزحة الأولى.
قاطعته دهشة: رغدة صديقتي؟
-كانت تزور أختي منيرة، عموماً أنا لم أرها حتى الآن..
قاطعته دهشة مرة أخرى: صحيح إنها لم تحضر حفلتنا؟
-منذ يومين اتصلتْ بمنيرة واعتذرت لها عن الحضور بسبب ألم في كليتها، قالت بأنها لا تريد أن تعكر عليك فرحة الزفاف بهذا النبأ السيء وأنك في زحمة المباركين لن تفطني لغيابها، بدأت تهز رأسها وهي تصغي إليه: وقعتُ على ألبومها على طاولة منيرة ولي علم أن ألبوم أي فتاة لا بد أن يحتوي على صور لفتيات فائقات الجمال، أو كأنهن يتبارين بجمالهن وأناقتهن.
وقعت نظراتي على صورة لك قرب شجرة ورد، قلبت الألبوم ورأيت صورا ً أخرى في لقطات بديعة أسحرتني ولا أدري كيف خرجت من شفتي كلمة: هي.
كانت منيرة مستغرقة في قراءة مجلة، فانتبهت إلى سماع الكلمة وقالت: هل قلت شيئاً يا منير؟ أريتها صورة وقلت: من هذه؟
أمعنتْ في الصورة، ورفعت رأسها قائلة: والله لا أعرف، علها إحدى صديقات رغده.
-: من هي رغدة؟
-: ألم تر رغدة التي تزورني أحياناً، وقبل أن أجيب أردفت: آ، صحيح، أظنك لم ترها، كيف تراها وهي فتاة محافظة جداً.
قلت بشيء من المزاح وأنا أتأمل الصورة:
هي البدر حسناً والنساء كواكب وشتان ما بين الكواكب والبدر
لقد فضلت حسناً على النساء مثلما على ألف شهر فضلت ليلة القدر
نهضت منيرة قائلة: مهلك، مهلك يا أخي ألا تعرف من هي أولاً.
قلت مخاطباً الصورة:
عذبة أنت كالطفولة، كالأحلام،
كاللحن، كالصباح الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء
كالورد كابتسام الوليد.
قالت منيرة: ما أعجبك فيها؟
قلت متأملاً وجهك:
فالوجه مثل الصبح مبيض والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسناً الضد يظهر حسنه الضد
قالت منيرة: تمهل حتى تراها
قلت:
سأظهر في هواك إليك سري وما أدري أ أخطئ أم أصيب
أرى هذا الجمال دليل خير يبشرني بأن لا أخيب
فلم تجد منيرة بداً من أن تخبر رغدة لتعرف إن كنتِ مرتبطة أم لا وذلك بطريقة بعيدة عن إعجابي بك، وكان ما قالته رغدة لأختي دافعي الأكبر لأنظر جدياً في أمري.
رأيتني ماضياً في مسار جاد نحو مملكة الميثاق الغليظ عندما عرضت الأمر على أمي التي هي أقرب وأغلى الناس علي، وقد زادت قرباً وغلاوة بعد ذهاب أبي إلى الرفيق الأعلى. بالنسبة لي كان القرار منتهياً من خلال رؤيتي الصور ومعرفتي أنك غير مرتبطة، لكن أمي رأت أن ننتظر أياماً لتتخذ هي أيضاً قرار الموافقة على أن يبقى الأمر في سرية تامة ما أمكن. في البدء رأت أن تذهب منيرة مع رغدة في زيارة قصيرة إليك دون أن تعلم رغدة دافع هذه الزيارة حتى يبقى تصرفك تلقائياً فتراك منيرة كما أنت دون استعدادات للقاء كهذا.
-أنا فوجئت بها تخبرني أنها ستزورني مع إحدى صديقاتها، وبالفعل استقبلتهما دون أن أي ترتيب وأذكر أنني قدمت لهم شاياً مع قطع كاتو، وجلست أمي معنا لدقائق ثم انصرفت بدون أن يخطر ببالي أي شيء مما تقول لأن رغدة لم تلمح لي حتى بإشارة صغيرة، كانت منيرة غارقة في الهدوء لا تتحدث إلا عندما تضطر لذلك.
-بعد عودة منيرة بانطباع مشجع عنك، أمهلتنا أمي يومين آخرين استعانت فيها بصديقتها المحببة التي تربط بينهما صداقة حميمة منذ الطفولة، وهي امرأة ما تزال تحافظ على جمالها ورشاقتها وتتمتع بروح الدعابة والنكتة رغم بلوغها الخامسة والخمسين. أذكر أنها كانت تزور أمي منذ أن وعيت على الدنيا، كانت في طفولتي دوماً تحمل لي معها الحلوى، وما من مرة أتت إلا وأعطتني قطعة نقود.
-كانت تمضي ساعات طويلة مع أمي وأحياناً كنت أرى أبي يشاركها الجلوس، يدخنون جميعاً ويحتسون القهوة تارة، وأخرى يشربون الشاي. كانت أغلب زياراتها لنا بعد الغذاء، وفي أوقات منقطعة ونادرا تأتي في فترة الصباح وتعود إلى بيتها وقت الغذاء قائلة أنه وقت رجوع زوجها من العمل وأولادها من المدرسة.
علمت فيما بعد أنهما كانتا في حيين مجاورين في المنطقة التي تبعد عن بيتنا نحو مئة كيلو متر،وشاءت الظروف أن تسكنان في حيين مجاورين في زواجهما أيضاً، ولذلك عندما تزور أهلها فإنها تزور أهل أمي وتأتي بأنباء وسلام وما ترسله جدتي معها. وتفعل أمي ذلك عندما تقوم بزيارة أهلها.
-شوقتني إلى هذه المرأة، ما اسمها ؟
-اسمها غالية، أعلمتها أمي بذلك فذهبتا تسألان عن طبائع هذه العائلة وعن ماضيها وعدد أفرادها وسلوكهم وأعمالهم وكان ذلك من خلال امرأة تقرب لزوج غالية بالقرب من بيتكم لا أذكر اسمها رغم أنني سمعته أكثر من مرة, ولكن بدون أن تعرف شيئاً عن سبب هذه الأسئلة لأن غالية كانت تقذف الأسئلة بطريقة غير مباشرة فتلتقط أمي المعلومات.
بعد انتهاء هذه المهلة اقتنعت أمي بك وقالت بأنها مستعدة أن تمضي في ذلك على نحو أكثر جدية، كانت الخطوة الأولى أن أرسلت غالية لأمك تخبرها عن شاب يريد خطبة ابنتها وهي تقدم لها كافة المعلومات عني .
-فاجأتني أمي بهذا النبأ وصرت في دوامة، فمن يكون هذا ..وأين التقاني، طلبت منها أن تمهلني يومين حتى أفكر ولا أكون متسرعة في قرار أراه، زادت حيرتي في هذين اليومين، فمن سأسأل وأنا أجهل كل شيء عنك، بدوت لي لغزاً غامضاً، كان من الحمق أن أرفض بدون أن أعلم شيئاً ولو يسيراً عنك، وكذلك من الحمق أن أبدي موافقتي. واهتديت إلى أن نلتقي في بيتنا فتبدأ معرفة عن قرب. فعرضتْ أمي الأمر على أبي وأعطته ما قالته تلك الزائرة المفاجئة من معلومات عنك. اندهش أبي خاصة وهو يعلم بأنني لم أره ولو مرة واحدة، ولا توجد لي أي سبق معرفة به، وقد تفاجأت كما تفاجأوا.
-في المساء تم طرح الموضوع بشكل علاني على كل من في البيت بعد أن حضر أخي المتزوج الذي يسكن في بيت منفصل عنا، فانتهى بهم النقاش إلى معرفة معلومات عنك من خلال الجوار الذين يخبرونك عن قرب.
-عندما أتت غالية بخبر رفضي نسيت مسألة الزواج وصار هاجسي فقط معرفة السبب الذي منع والدك حتى من استقبالي في بيته وهذا بذاته سبب لي توتراً منعني من نسيان الموضوع والانصراف عنه، الآن لديك انطباع سيء عني ولا أدري ما نوعه وإذا رغبت صرف نظري عن الارتباط بك فيكون ذلك بعد أن أصحح هذا الانطباع السيء، وإذا كانت ثمة سلبيات يعلمها الآخرون وأجهلها في شخصيتي فسأعمل على معالجتها. لكنني أمضيت شهرين من أسوأ شهور حياتي دون أن أصل إلى نتيجة، وبدوت أمام نفسي مهزوماً، أو لأقل ضائعاً. عندها راودتني فكرة الاتصال بك لغايتين، أولهما رغبت معرفة رأيك بشخص أراد الارتباط بك دون سبق معرفة ومعرفة موقفك الشخصي من هذا الرفض، وثانيهما لأعرف منك السبب الذي دفع والدك إلى رفضي.
-أي فتاة تكون في حلم أن يأتي فارس أحلامها فجأة وهو يطلب أن يخطبها، قيل لي أن هذا الفارس ظهر وطلب أن يزور بيتنا ليراني وأراه، ولكن أبي كان له رأي أن يسأل عنك قبل أي خطوة لأنه لا توجد بين عائلتينا سبق معرفة، ولم تحدثني رغدة بأي معلومة عنك.
-بعد أيام قال أبي بأنه كلف أخي الكبير بمهمة السؤال عنك، وقد سأل تسعة أشخاص حتى تتبين الحقيقة. فكانت النتيجة أن خمسة أشخاص تحدثوا بسلبية، وقال شخصان بأنك حسن ولا بأس بك، واثنان راوحا بين السلب والإيجاب. هذا ما أخاف أبي وأخبرنا في جلسة عائلية ضمت كل أخواني وأخواتي كباراً وصغاراً بهذا الذي حدث، وكان شبه إجماع على الرفض باستثنائي واستثناء أختي الصغيرة الطالبة في الصف الثالث، لقد قالت ما لم أجرؤ على قوله بأن يسأل أبي نفسه أشخاصا آخرين.
-قلت لأختي أن تأخذ رقم هاتفك من رغدة دون أن تخبرها رغبتي في الاتصال بك. لم يبق أمامي غيرك لتدلني على سلبياتي، ولا أخفي بأن صوتك الذي سمعته في الهاتف لأول مرة كان له وقع الصاعقة في قلبي، وأنت تتحدثين صرت كلي رغبة في أن أراك.
-يومها فوجئت باتصالك ولكنني قلت في نفسي: إذا أغلقت السماعة سأكون في نظره امرأة غبية، سيقول: لو لم تكن غبية لعرفتني بنفسها ومن ثم حكمت علي عن معرفة.
-هذا بذاته زادني إعجاباً بك فقلت في نفسي: أي امرأة ذكية هذه، تقف موقف حكمة. ولكنني أخفيت هذا وقلت بأنني فقط أريد أن تساعدينني في معرفة السلبيات التي وصلتك عني.
-أتعرف، يومها صُدمت بقولك هذا, ولأول مرة أمعنت في كلمات أبي، فهو بالفعل قال أن أحدهم قال لأخي بشكل حاسم موجز: أخي، أنا لو كانت لدي قطة لما أعطيتها لهذا الشخص، إن أردت إعطائه أختك فذنبك على جنبك.
وقال آخر: سيء للغاية.
وقال آخر: لا يصلح أن يربي دجاجة.
وقال آخر: لو كان ابني لطردته من كل هذه البلاد.
وقال الخامس: أنصحك الابتعاد عنه.
لا تتصور كم شعرت بالخجل منك وشعرت بقصر نظر والدي أمامك، فهذه كلمات خالية من أفعال، فما هي أفعالك التي دفعتهم لقول ذلك. وأيضاً ما هي التي دفعت الشخصين الآخرين ليقول أحدهما: إنه شخص هادئ.
والثاني: تمنيت لو رزقني الله ولدا بمثل رزانته.
وكما تقول أنت، فقد ولد في أعماقي هاجس لأعرف هذه الأفعال، حتى لو كانت فقط من أجل الاستطلاع.
ورأيت أن أعيد أخي وسيم إلى ذات الأمر، فقلت في خلوة بيني وبينه: يا أخي أرى أن أعلم شيئاً عن سيئات وحسنات ذلك الشخص الذي نظر في خطبتي منذ شهرين، أريد أن تعود إلى من ذهبت إليهم أول مرة فتعلم براهينهم عما قالوا، فإنه والله لم تهدئ لي نفس من يومه وأنا شاردة، وما زاد في اضطراب نفسي أنه حدثني في الهاتف الشهر الفائت يريد أن يعرف ما جعل والدنا يرفض لقاءه.
حينها لمس وسيم اضطراب حالي وأبدا لي بأن الأخ الأكبر يشعر ببعض أبوة نحو أخواته، فأشفق بي وبدا متفهماً لما قلت وهو يعدني أن يأتي بما أرى.
مرت ستة أيام على حديثي معه فاختلى بي ظهيرة اليوم السابع في غرفتي وأغلق الباب، علمت بأنه أتى بأمر في شأني وكان في حالة إرباك فعاجلته:هه أخي؟
رفع نظره إلي وهو يقول: ليتني ما دخلت هذا الأمر أبداً، إني مستاء لما وصلت إليه وما كان علي أن أعجل في أمر رآه الله خيراً.
قلت وأنا أنظر في وجهه المضطرب: وما الذي رأيت.. أخي؟
مد خطاه نحو النافذة وراح ينظر في بعض زهرات بجانبها، ولبثت واقفة مكاني أنتظر ما يبدر منه.
قال وهو ما زال ينظر في الزهرات وأنا أنظر إليه مولياً ظهره إلي: قال لي السمان: لا خير فيه لأنه يمر بجانب دكاني فيشتري حاجاته من أبعد دكان إليه، أنه يعصي دينه الذي يقول:" الأقربون أولى بالمعروف".
تركته ورحت اللحام فقال: برهاني أنه ما اشترى يوماً مني حاجته، ألست أولى بالمنفعة وأنا على قرب خطوات من بيته. تركته ورحت النجار فقال: لا خير فيه، برهاني أنه قام ببناء غرفتين وجلب نجاراً دوني ومن يومها أتحاشى حتى السلام عليه، إنه في اعتقادي خرج عن دينه الذي يقول له:" الجار قبل الدار" .
تركته ورحت العجوز الذي يفترش الرصيف وهو ينتظر موته عليه فقال: برهاني أنه شخص مهووس بقراءة الكتب، ما رأيته يمشي يوماً إلا بيده كتاب، وبلغني أن به شيء من الظن فهو يحرم أمه وأخته الجلوس أمام الباب كسائر أهل الحي.
تركته ورحت الحلاق فقال لي: كان في البدء طيباً يتردد إلي كل شهر فأحلق شعره، مرة ضاقت بي الأمور فعرضت عليه أن يقرضني ديناً فلم يفعل ومن يومه ما وطأت قدماه محلي.
قلت: فأكمل مهمتي. ذهبت إلى المدرس الذي يسكن قبالة بيته فقال: برهاني أنه شخص هادىء خلوق هو أنني ما رأيته يوماً إلا وبيده كتاب، وهذا دليل أنه يمضي فراغه في المطالعة والمعرفة. مرة قالت زوجتي لأمه: ما لكما لا تقعدان معنا في الشارع. قالت أن ولدها يقول: لنترك للطريق حرمته. فعلمت أن علمه دفعه إلى هذا وبدأنا نمتثل لقوله. مرة أخرى جاء يسألني عن عمل جارنا النجار الذي بنى لي غرفة. فقلت له بأنني ما ندمت على شيء كندمي على يوم أتيت به لبناء غرفة، لقد كان سيء الخلق وجاهلاً بأصول البناء ومضاعفاً للأجر.
تركته ورحت الموظف المتقاعد فقال: ما رأيته يوماً إلا وقلت: ليت الله رزقني بولد مثله، برهاني أنه حكيم ورزين، مرة جاء يخبرني أن الحلاق طلب منه ديناً، فنهيته عن ذلك لأن الحلاق مدان منذ ثلاث سنوات لشخص وينكر عليه دينه. وهو شخص مؤمن لأنه عمل بما أمر الله: " ولا تأتوا السفهاء أموالكم". ورأيت أن أدله على سمان ولحام يبيعان بهدي الله.
توقف أخي عن الكلام وهو ما يزال لا يوليني وجهه، ثم بعد برهة صمت قال وهو يستدير ماداً خطاه نحو الباب ليخرج: هذه براهينهم يا أختي، فانظري ماذا ترين.
لحقت به وقد بلغ عتبة الخروج: أرى أن تحدّث أبي فنعيد النظر في الأمر كله.
عند ذاك تناهت ضربات خافتة على الباب أعقبها صوت منخفض:هذا موعد الفطار.
قطع الصوت استغراقهما في عمق الحديث، وانتبها للتو إلى الشمس داخل الغرفة فقال: ألا ترين بأننا نسينا شيئاً هاماً في ليلة زواجنا الأولى.