كان من هوايات عمتي رحمها الله جمع الخرز بأنواعه ، وكان لكل خرزة عندها اسم خاص بها ولكلٍّ منها تأثير ومفعول لا تتميز به الخرزات الأخرى . ولا يشطح ذهن أحدكم إلى الخرز الحديث أو البلاستيكي الذي نراه في الأسواق ، فالخرز الذي أحدثكم عنه هو خرزٌ من نوع آخر تماماً . فالأودية ومجاري السيول ومياه الأمطار بعد أن تجف هي المناجم الحقيقية لهذا الخرز ، وكانت عمتي عندما تمر من الوادي الذي يفصل بين بيتها وبيتنا تبدأ عيناها تدور يمنة ويسرة ، كَمَن يبحث عن شيء أضاعه ، وهي تتفرس الحجارة الصغيرة بدقة شديدة ، فإذا وقعت عينها على حجر صغير أملس ، تكاد يدها تسبق عينها إليه ، فتلتقطه بلهفة ، ثم تمسحه بطرف ثوبها لتزيل بقايا التراب العالقة به ، وتنظر إليه بإعجاب نظرة من وجد شيئاً ثميناً ، ثم تدسّه في عِبِّهَا بعد أن ترتسم على ثغرها ابتسامة عريضة .
ولا تتابع عمتي سيرها قبل أن تضع في عِبِّهَا حفنة من الخرزات الثمينة ، وعندما تصل إلى بيتنا وقبل أن تدخله من جهة الرواق تنفحنا ببيتٍ من الشِّعْر تعلّق به على ما تراه أمامها ، ولم يحدث أبداً أن دخلت عمتي بيتنا دون أن يسبقها بيتٌ من الشِّعْر تنتقد به ما لا يعجبها من تصرفاتنا . فهي ناقدة في كل الأحوال .
وكنا صغاراً نرى في عِبّ عمتي بعض النتوءات البارزة فنظنها " كعكبان " وهو نوع من الحلوى في ذلك الزمان ، فنجلس بجانبها ونسألها أن تخرج لنا مما يوجد في عِبِّهَا ، ولكن ما أعظم خيبتنا عندما تمد عمتي يدها إلى عِبِّهَا وتخرجها مليئة بالحجارة الصغيرة الملساء وتنشرها أمامها على الفراش .وتوجه كلامها إلى أمي وهي تضع حجراً صغيراً في يدها وتقول: هذي سِمْلِك ، أنظري إليها ، ما أشدّ بياضها ، وتهز أمي رأسها بالإيجاب وكأنها فهمت كل شيء ، أما نحن فنتصور حبَّات الكعكبان في تلك الحجارة الصغيرة ، ولكننا نسأل عمتي بشيء من الفضول : ما هو السملك يا عمتي ؟ وتتابع عمتي حديثها قائلة : يعني إذا زوج المرأة خطب عليها ضُرَّة ، فإنه يخطب ولا يملك ، أي لا تتم خطوبته بل تفسخ قبل إتمامها وكل ذلك بفضل خرزة السِّمْلِك ، وتضيف عمتي : إنها مُجَرَّبَة ، كل النسوان بيلبسنها ، ما في مَرَه في عيلتنا ما معها سِمْلِك !.
وتتابع شرحها وتقول : وهذي سلوى اللي بتحطها في رقبتها زوجها ما بيسلاها ، وهذي قُبْلَة اللي بتشيلها معها جوزها ما بيقبل على غيرها ، وتقول لأمي : خذي لكِ هالخرزتين أحسن ما يتزوج عليك إسماعين ، الزلام ما لهم أمان ، كلهم ما لهم أمان .
ولا تنفع خرزات السملك عمتي ، ولا بقية الحجارة الملساء الأخرى التي إلتقطتها من الوادي فقد تزوج عليها زوجها ، وطردها لتعيش بقية عمرها في بيت أولادها.
تُرى كم من نسائنا تؤمن بك وبسحرك العجيب يا خرزة السملك !