ليس الهروبُ متاحاً بعد الآن..
فراغ الإطار من الصورة لا يعني سوى "النّهاية"..
الأشياء الفارغة لا قيمة لها.. التماثيل الجوفاء تزول مع الزمن، وتبقى حكاياتها..
انهيار كلّ أحلامي ما كان متوقعاً عندي.. نقيض توقُّع الآخرين..
لتذهبْ كلُّ الأشياء الثمينة والرخيصة.. الرفيعة والوضيعة..
ما بديل هذا غير الهروب إلى سراب.. إلى وادٍ سحيق.. حيث المجهول يختلط بحَبِ التراب الأسود.. كالقطران.. اختزالاً لمصائب السنين..
أينَ أصبحتُ أنا اليوم؟! أينَ كلُّ المدَّاحين والمطبّلين.. والملمِّعين.. وأنا لا آمن الآن على نفسي من نفسي..
فقدت الهواء الرطب المعطَّر الذي كنتُ أتنشّقه...
فقدت كل حاجاتي الصغيرة قبل الكبيرة..
مضيت سالكاً طريق وحدتي، كمن أصابه وباء لا براء منه.
لما سقطتُّ.. سقطتُّ وحيداً.. ومع سقوطي سقطتْ كلُّ الأقنعة المزيفة..
كنتُ أُدرك ما تُخفيه.. وأخفي..
رنينُ الذهب اللمَّاع ساحرٌ أخَّاذ.. به تطوى الحقيقة..
عشرون عاماً وحَوْلي الطبول تدقُّ.. والمزامير تعزف.. والهاماتُ تنحني..
لا يدخل "بلاطي" إلا من يغسل قدميه بماء الذل والطاعة والهوان..
عشتُ هكذا؛ أتلذَّذ بماء الوجوه يلسع الوجنات، ينهمر تحت أحذيتي التي لا أكاد أعرض واحداً منها.. حتى يذوب من بعدُ في ظلام طويل، ربما لا يخرج منه مرّةً ثانيةً..
هذا التلذّذ كان رفيق روحي.. أعشقه كما يعشق الفراش النورَ، أو كما يعشق النّسرُ الفضاء.. أوكما يهيم القطا بعشه..
تكشَّفتْ أماميَ الحقائقُ متأخرةً..
ذلك "المجدُ" الذي بنيته من عذابات النَّاس ما أفادني بشيء..
نعم.. بنيت مجدي على جماجم الآخرين.. صنعتُ أبراجاً من الوهم، صِغْتُ من الظلم أساور وتيجاناً، أُزيِّن بها "جَمَالي".. ولم أعِ الحقيقة إلا بعد مضي الزمن..
ذات مساء..
جاءت إليَّ أمِّي زاجرة:
"ألم أعهد إليك يا بنيّ ألاّ تمثّل الشيطان في الأرض.. ألم أحملك وليداً.. وأربّك صغيراً.. فلمَ كل هذا الظلم يا ولدي؟!!"..
فما زادني ذلك إلا نفوراً..
أمرتُ أتباعي بإخراجها من "بلاطي"..
أبعدتها عني..
بنيت لها مكاناً فاخراً يليق بأمّ من هم "مثلي".. رفضت المكوث في هذا المكان.. وأتباعي كانوا يمنعونها من الخروج دون إذني..
سمعتُها مراتٍ تدعو لي..
"الله يهديك يا بنيّ.."..
كنت أسخر من دعواتها..
حتى زوجتي المسكينة عاشت رعباً متواصلاً.. لم تكن جريئةمثل أمي، تعلم أننَّي مع كلِّ ما أنا فيه لا يمكن أن أؤذي أمي.. أما هي فشيء آخر.. لذا كانت تلوذ بالصّمت بينما أطعنها في قلبها.. في كرامتها..
آتي إليها والخمرة تفوح مني.. وعطر الغواني تخبر عني..
تبكي في سرّها..
حتى البكاء كان ممنوعاً في "حضوري"..
لم أشعر بكل الخطايا التي تموج في داخلي موج البحار..
هل كنت مسحوراً.. أم عميت بصيرتي؟!..
ولدي الصغير "شجاع".. حاول مرة أنْ يقول لي بلطف ما لا يجرؤ أحدٌ على قوله..
نفيتُهُ.. حرمته من كلِّ شيء.. كنتُ أريد أنْ أفعل ما هو أعظم من ذلك، لكن بقايا مشاعر الإنسان في داخلي.. منعتني، وكدت ألا أستجيب لها لولا نصح بعض المقرَّبين مني.. فوجدتْ النصيحة في نفسي هوى لها..
ما حسبتُ أنني سأصل يوماً إلى هنا..
أعمتني أشياء كثيرة عن الرؤية، عن التمييز والتفكير والتقرير..
كنتُ محور نفسي.. ولا دليل لي..
البعض من حولي يرددون كلماتي أكثر مما يرددون كلام ربهم.. وفي السرّ.. ربما، كانوا يلعنونني..
دعوت الأدباء والشُّعراء والفنانين..
أمرتهم.. نعم أمرتهم.. عظّموا شأني كما لم يعظَّمْ أحد قبلي..
لاحظتُ في أعين البعض منهم سخريةً.. فظلّوا ضيوفاً عندي ولم يعودوا إلى ديارهم..
لم يجرؤ أحد عن مجرد السؤال عنهم.. حتى أمهاتهم..
تفننت في السقوط..
أبدعت بشيِّ من يجرؤ على معارضتي.. كان لحم الشِّواء يمتعني..
"فما نفع الإنسان بناظريه.. إذا استوت عنده الأنوار والظلم؟"..
فتحتُ على الحياة نافذةً من صنعي أنا لوحدي.. من أراد الوصول إلى ما يريد عليه أن ينظر إلى الحياة من خلال هذه النافذة ولا شيء سواها..
لم تكن التفاصيل تثير اهتمامي.. العناوين العامة تسكنُ تفاصيلي "أنا".. لا تفاصيل سواي.. وليذهب الآخرون إلى الجحيم..
كل المرايا لا تعكس غيرَ صورتي..
غنَّى المطربون "لي"..
أنشد الشعراء أجمل قصائدهم كرمى لعيوني.. لا لعيون ليلى ولا سلمى..
كتب الطلاب عني أبحاثهم..
اشتغلت المطابع والمسارح والمعاهد..
لا شيء قبلي.. ولا شيء بعدي..
اعتاد الناس عليَّ كما "أنا".. مثلي.. فقد اعتدت عليهم كما "هم"..
سعادتي في تعاستهم..
البعض من حولي ظلّوا يصفقون.. هذه حاجة لا تنقصني.
أغدقت أموالي على هؤلاء "البعض"، والويل.. الويل لمن شذّ، فعاقبته "ناري".
عشتُ سنوات طويلة أسير ظلمي.. أسير هواي..
فقدت "رموش" عينيَّ وما تخليّت عن "كبريائي".
قادني ظلمي إلى كهوفٍ ومزالق..
انكب الناس عليّ من كل جانب.. أيقنت نهايتي.. أيقنت آخر فصولي.. لكنّي لا أنحني.. كيف أتركُ كلَّ هذا المجد الذي صنعته، وأدعه لـ "يتلذذ" به الآخرون؟!
هواجسي كانت تفتك بسنوات ظلمي، لن أرحل قبل أن أقضي على كل شيء.. لن أترك مكاني بسهولة..
فيا جبال اهتزي.. ويا سماء ارعدي.. ويا أرض اخسفي.. ويا بحار تفجّري.. ويا غمام اهطلي.. ويا صواعق اقصفي..
جننتُ.. نعم.. جننتُ.. ومازلت أسمع التصفيق حادّاً.. لكنَّ المصفقين قلّوا.. وبدأوا يتباعدون ويتشتتون كما تتباعد السحب وتتشتت في يوم ربيعي صافٍ..
بقيتُ وحدي..
تذكرتُ أمِّي في "سجنها"..
تذكرتُ ولدي في "منفاه"..
تذكرتُ.. وتذكرتُ.. وتذكرتُ.. وأي "شيء" أتذكر؟؟؟
فما فائدة التذكّر.. وكلّ مَنْ معي ذهبوا.. وبقيت وحدي أجرُّ خذلاني ووحدتي.. ويأسي.. وعاري.. وانكساري؟؟؟..
بعض المرتعدين مثلي ارتبطوا بمصيري.. أمسكوا بي.. كادوا يقتلونني..
وعدتهم بأموالٍ وبنين.. ومجدٍ لا يلين.. ما صدقوا، لكنهم تبعوني..
وفي الطريق كلٌّ هرب من جانب.. لم يمنحوني فرصة جديدة.. أرادوا الفرار بأرواحهم.. فلا أملك لهم ولا لنفسي ضراً ولا نفعاً..
فإلى أين المصير؟!
الشرُّ من أمامي.. والخوف من ورائي.. وما زرعتُ ينبتُ من تحت قدميَّ الحافيتين.
صرتُ أركض كالمجنون هارباً من كل شيء.. هربت حتى من ظلِّي.. لا أريدك أيها الظل "العفن"... لا أريدك.. أنت تعرف كلَّ خفايايَ وأسراري.. انطلقْ.. ابتعد عني.. لا تلبسني.. ارتد هذا النهر أو ذاك الوادي..
وأنتِ أيتها الشمس.. أطفئي نورك.. اخلعي نارك.. اسكني خوفي وجرمي..
صرتُ أتقلب بين الجبال.. أمتطي جواد الفزع والجوع والتشرد.. من كهف إلى آخر..
أصادف "الوحوش".. وحوش البراري.. تشفق عليّ فتتركني..
أكلت أوراق الشجر، حشائشَ الأرض.. حضنتُ برودة البادية.. شربت الماء الموحل.. ارتديت خشونة التراب.. توسدت صلابة الصخر..
وفجأة.. وجدتُ نفسي في قبضة رعاة الأرض.. وحيداً بلا تصفيق ولا تطبيل...
حملوني.. أطعموني.. أسقوني حليب نياقهم..
ألبسوني جلد نعاجهم..
شعرتُ بالدفء.. وبعض الأمل والأمان..
بعضهم عرفني.. لم يفشوا سري.. كانوا ينظرون إلى بعضهم، يعرفون أنّهم يعرفون.. لكنّهم لا يتكلمون..
ربما كانت قلوبهم أرقّ من نسائم الربيع.. أومن أوراق الزهور..
عرفت متأخراً.. لكن ماذا استفدت؟!
سمحوا لي أن أكتب على جلد نعجة وصيّتي.. آخر كلماتي..
كانت جراحي متعفِّنة.. أطرافي متيبِّسة.. الدود يعشعش في كهوف مفاصلي.. يطل برأسه ثم يختفي..
لم يتكلموا..
أحضروا لي جلد نعجة.. وعوداً مقلماً..
غرست رأس العود في جروحي.. ما شعرت..
بللتُ طرفَ العود بدمي.. لأكتب وصيتي.. لأكتب "اعترافي..".
ترفقوا بي.. مع أنّي قد أكونُ سببَ وجودهم في الجبال والوديان..
حنّت عليَّ قلوبهم.. وما "حنيّت".
مسحوا جراحي الكثيرة.. وما "شفيتُ"..
حاولوا تبريد عروقي المحترقة.. وتحريك جوارحي المتبلدة.. وما أفلحوا..
كانوا أكثر مني قوّة.. وكنت أكثر منهم ضعفاً..
كتبت آخر كلماتي.. لكن لمن أكتبها؟؟؟.. لا أحد يريدها.. لا أحد يريد أن يسمع عني شيئاً.. حتى أمِّي.. ربما.. وبمَ أوصي.. لا شيءَ عندي لأوصي به..
حتى الكفن لا أملكه..
لا أقدر على مواصلة الكتابة..
أشعر بثقل العود بين أصابعي.. هذه الأصابع التي فعلت.. وفعلت.. الآن لا تقوى على طرد ذبابة.. آااه.. آاااه..
في الصباح.. اجتمع الرعاة قرب صخور بيضاء.. دعوا الله بسكون، تأمّلوا هذا القبر النائي.. الذي يحتضن صاحب "الجراح" الكثيرة بعدما لفُّوهُ بجلدِ نعجةٍ.. عليها وصيّته.. دفنوها معه.. دون أن يقرأوها.. لم يحتفظوا بها كي لا يقرأها أحد.. نظروا إلى بعضهم.. قرروا إخفاء هذه الذكرى.. أرادوا طمس معالم القبر.. اتفقوا ألا يتكلموا.. ربما "خوفاً" من "بطش" صاحب القبر.. مع أنّه ميت، أو احتراماً للموت نفسه، ساروا بصمت نحو أنعامهم..
ساروا معاً.. يعرفون الطريق الذي يتوجهون إليه، الهدف الذي يسعون إليه، منذ سنوات طويلة.. عادوا إلى بيوتهم التي هجروها.. إلى زوجاتهم.. إلى أهلهم.. إلى أولادهم.. وأخفوا ذكرى ذلك القبر حتى لا يتحدث عنه أحد..
ذهبَ كلٌّ منهم بأنعامه ترعى من جديد بالقرب من بيوتهم، تحفّهم الذكرى.. ويغشاهم الأمل..
أمَّا ذلك القبر.. فقد سحقته صخور الجبال، وهبت عليه أعاصير البادية، وغطّته الرمال.. وأبادته الأحلام.. ولم يعد شاهده يدل عليه..
أمَّا تلك الوصية.. أو "الاعتراف".. فلم تعد تنفع الآن، وجدت الديدان فيها وجبة لذيذة.. فنخرتها حتى طُمست.. ولم يبق من حروفها حرف..
ومرَّت فوق القبر نعاج..
ومرَّت فوق القبر خراف..
ومرّت فوق القبر جمال..
ما عاد لظلمه مكان..
ولا لظلامه مصفّقون ولا مطبّلون.. ولا من "يحزنون"..