نظرتُ ، بريبة التـائه ، اللوحة الزرقاء المعلقة بأول الشارع ، مرَّتْ عيناي ببطء علي
الحروف البيضاء المتشابكة عليها ، لأتأكد أن قدميَّ لم تخطئا الطريق إليه ، إنه نفس
الشارع القديم ، " شارع الشاكوشي " الذي كانت قدماي الطفلتان تدبان علي أرضه منذ سنوات
بعيدة  ، لقد تغـيَّر كما تغـيَّر كل شيء ، لم يعـد هو نفس الشارع القـديم .. 

كانت هنا علي قمته " سرايا الشاكوشي " ، والحديقة التي طالما تسلقتُ سورها العالي ،
لأقطف ثمر أشجارها في غفلةٍ من حارسها ، وعلي الجانب الآخر ، كانت عربات الحناطير
بخيولها النافرة واقفة بالقرب من الأكشاك المتجاورة : " طُرشجي الأمانة"  و "شاكر
الكُونترجي " و " بقالة العربي " و " بسيوني الفاكهي " .. كان هنا " مقهى الطويل " ،
الذي كانت تتناثر كراسيه الخيزرانية وطاولاته النحاسية الصغيرة في الفراغ المتسع أمامه
.. كان أبي هناك جالساً مع أصدقائه عندما مررتْ عليه وناداني ، ووضع ساعـده علي كتفيَّ
، وشعرتُ ـ أنا الصغير آنئذ ـ بوطـأة ثقلـها وهـو يهـزُّني :
ـ " تشرب عنَّـاب يا ميمو ؟ " .
هززتُ رأسي موافقاً ، وجاء الرجل الطويل جـداً علي عجل ، وسحب كرسياً لي ، وقـدَّم لي
كوب المشروب البـارد ، الذي يتـألق احمراره في ضوء النهـار :
ـ " تفضل يا أستـاذ أيمـن " ..
أمضي بقدميَّ علي بلاطات الرصيف ، أمام المحلاَّت الجـديدة ، الملونة واللامعة ، الضاجة
بالزبائن .. محلات السوبر تكييف ، مكاتب تسفير العمالة .. مطاعم " التيك آواي " الحديثة
.. ، تخاطبها عيناي برجاء مؤمل ، أن تخرج من جوفها الأكشاك القديمة والرجل الطويل من
مقهاه .. بلا جـدوى ، كانت تخرج لسانها لي من أبوابها وتقـول ساخـرةً :
ـ " ما فـات قـد فـات .. نحن أبنـاء اليـوم " .
مضى علي استلامي العمل بمـدينتي القديمة عدَّة أيَّام ، واليوم أبحـث عمَّا فـات ..
أين البيت ذو الطابق الواحـد الذي كنَّا نسكنه ؟ ولا بيت من بيوت الجيران والأصدقاء باق
في مكانه !! ، أشرتُ بيـدي لأحـد المارَّة استوقفه ، أسأله السؤال الذي أعرف إجابته ،
بيقين من يخـدع نفسـه بالأمـاني :
ـ " هـو ده  شـارع الشـاكوشي ؟ " .
يهـز الرجلُ رأسـه من أعلي لأسفـل هـزَّةً عظيـمةً :
ـ " هو يا سعادة البيه " .
ومن بين المباني الحديثة العالية وجدتُ بيتاً قديماً من طابقين ، وقفتُ أمامه كأنني
وجدتُ كنزي الضائع ، كان الطابق العلوي مهجوراً ، ونوافـذه المفتوحة علي العتمة المظلمة
محطمةً ، ومحل الطابق الأول المجاور للباب مفتوحاً علي اتساعه ، تعلوه لافتة حديثة
مكتوب عليها بخـط متعرج " جولـدن فنجـرز " ..، تأملت التناقض البيِّن بين المحل
واللافتة الغريبة ، أسعفتني ذاكرتي من جوف الماضي  باللافتة الخشبية القديمة التي كانت
مكانها ، وأنا أتهجَّى حروفها وأتعلم قراءة كلماتها بالخط الثُلث الجميل : " صالون
العـروبة " .. وتحتها بالبنط الأصغر " راجي عفـو الخلاَّق .. الأسطى أنيس الحلاَّق " ..
اقتربتُ من ضلف الباب البنيَّة المركونة علي الحائط الذي تساقط طلاؤه ، وغاصتْ أصوله
منخفضة عن مستوى الشارع ، بمقدار ثلاث درجات خشبية حديثة لم تكن موجودة في الماضي ..
نعـم .. هو بالتأكيد صالون العم " أنيس " المزيِّن ..
وضعتُ قدميَّ بحرص علي أول الدرجات الخشبية النازلة ، فنقلتـني علي الفور لآخـر مرَّة
دخلت فيها هـذا الصالون ، لم أكن بصحبة أبي الذي اعتدت منه أن يصحبني إلي هناك ، لكني
كنت بصحبة أمِِّي هـذه المرَّة ، كان أبي قد نُقـِل للعمل في بلـد بعيـد ، استلزم منه
أن يبقى هناك حتى يـدبِّر لنا مسكناً مناسباً ، ومن ثم يعـود ليصحبنا معه ، كان الشعـر
الطويل " موضة " ذاك العصر ، والسراويل " الشارلستون " ذات الفتحات الواسعة تضيق علي
سيقان الشباب ، وكنا نحن الأطفال نحاكيهم ونقلدهم في سلوكهم ، لهذا كنت سعيـداً بغياب
أبي ، وغـير متحمس بالمرَّة للذهاب مع أمِّي للحلاَّق ، بالطبع لم يكن لـدي ترف امتلاك
" الشارلستون " ، لكن امتـلاك الشعـر الطويل ، كان أمراً سهلاً مع مضي الوقـت ..
قالت أمِّي :
ـ " إن رجع أبوك وشاف شعرك الطويل تبقى مصيبة ! " .
قلتُ لها بضيق :
ـ " شعري ويعجبني طوله .. كل أصحابي شعرهم طويل " .
قالت :
ـ " اسمع الكلام ومش تعانـد .. أبوك راجع ياخـدنا معاه .. إن شاف شعرك حيسيبك هنا ومش ح
تيجي معانا " .
قلت بعناد آخر :
ـ " مش عاوز أروح معكم .. سيبوني هنا " .
ضحكتْ أمي من إصراري وسذاجتي :
ـ " ومن يجهـز لك أكلك .. ويروح معك المدرسة .. ويغسل لك هِـدمتك .. و .. " .
قلتُ لها بتحـدٍ :
ـ " أنـا راجـل يا أماه " .
أكدَّت علي كلامي بوجهٍ فرحٍ :
ـ " طبعـاً راجـل .. وستـين راجـل " .
ثم قالت باستنكار :
ـ " لكن الرجال مش يطولوا شعـر رووسهم " .
وسألتني بصوت حنون :
ـ " تقـدر تستغني عن أمّـك حبيبتك يا ميـمو ؟ " .
ولأني أحبُّها قلـت علي الفـور :
ـ " لا " .
اكتستْ ملامحها بالرضـا ، ومضيتُ معها لصالون عم " أنيس " ..
لكن أمـر نقل أسرتي مرَّة أخرى حيث عمل أبي الجديد كان يشغلني ، كان عليَّ أن أواجه
فـراق الجيران والأصدقاء وزملاء الفصل بالمدرسة ، أن أغادر مرتع طفولتي الذي ارتبط به ،
وكل الأماكن التي أحبها وأتردد عليها ، وكنت أكره كره العمى لحظات الوداع التي لا تخلو
من حزن ودموع ، لحظات لا أملك فيها زمام نفسي ، ولا أستطيع فيها كبح مشاعري الحزينة ،
حيث يركبني الخجل ـ من قمة رأسي لأخمص قـدميَّ ـ من دموعي التي تسيل علي خدَّيَّ رغم
أنفي ، أتمنى لحظتها لو تنشق الأرض وتبتلعني ، الجارات اللائي يوصين أمِّي ـ بحق العيش
والملح ـ أن تبقي علي الود والتواصل بالزيارة ، وإن لم تقدر بالرسائل ..
" العشرة مش تهون إلاَّ علي أولاد الحرام .. وأنتم والله أبناء الأصـول " .. هكذا
يقولون ..
كم مرة حدث هذا في طفولتي ؟ ..
ويكون عليَّ في البلد الجـديد أن استكشف معالمه ، أن أعقـد صداقات جديدة مع أطفـال
آخرين ، أن أتآلف مع الوجوه والأماكن والأشياء والأرض والسماء والهواء الذي أتنفسه ..

عندما شكوتُ لخالي " عبد الحميد " ، الذي كان حريصاً علي زيارتنا في المواسم والأعيـاد
في أي مكان نـستقر إليه ، ربت علي كتفي وقال:
ـ " كل البـلاد بـلاد ربنـا يا أيمن يا بني " .
وداعب أبي ضاحكاً :
ـ " وأبوك يحب التغيـير " .
وضحك أبي ، ولكني لم أضحـك ..
كانت لأبي أسبابه الكثيرة التي لم تكن مقنعة لعقولنا الصغيرة  ..
أحيانا يكون النقل بأمر الحكومة ، وأبي هو موظفها الصغير الذي يسمع كلامها ، ولا يخالف
لها أمراً ، فهو عبـد " المأمور " كما تدافع عنه أمِّي ، فالحكومة هي التي تعطـيه
النقـود التي يصرفها عليـنا ويسترنا ويعلمنا ، ليكـون لنـا شأن في قـوادم الأيـام ..
هكـذا كان يخاطب عقولنـا الرافضة الحرون .. فأسـأله بضيق :
ـ " فين المأمور ده يا بابا وأنا أقتـله ؟ " .
فيضحك من أعماقه وهو يأخذ رأسي تحت إبطه بحنان ، ويـرد عليَّ مثبطاً من عزيمتي :
ـ " كان غيرك أشطر يا ميمو" .
أحياناً أخرى ، كان هـو الذي يسعى للنقل ، بل ويوسِّط أناساً لهم شأن أو مكانة ،
ويستعين بهم علي هـذا ، وعندما ينجح في مسعاه ، كان يقول لنـا :
أن هـذه المدينة التي نسكنها بلـدة ضيقـة ، تضن بالرزق ، وإن الله أمرنا بالسعي ، بل
والهجرة طلباً للرزق ، أو أن أخلاق أهل البلدة منفلتة ، وهم أناس لا يعرفون الأصول
والواجب اللذين تربَّى عليهما بين أهلـه في قريتـه ، التي ترجـع أصولنا إليهـا ..
صرنا نؤمن بالاعتياد أن أمر النقل .. أي نقل ، طالما أنه ليس الأول ، فإنه لن يكون
الأخـير ..
لقد تكرر هذا مراراً وتكراراً ، من بلدة إلي أخرى ، إلي أن خرج أبي إلي المعاش ، فعاد
بأمِّي للقرية ، وتفرقنا نحن الأبناء بعد تخرجنا وعملنا في البـلاد المختلفة ، ولم يكن
أمر الغربة فيما بعد شاقاً علي نفوسنا لتمرسنا عليه ، بل إن كـثرة التنـقل التي أوجبها
عملي ضابطاً للشرطة ، كنت أراها ـ عكس زملائي الآخرين ـ  أمراً عادياً ، لم تكن تسبب لي
أي ضـيق أو حـرج ، بل إنني كنت سعيـداً هـذه المرَّة ، لنقلي لهذا البلـد الذي نشـأت
فيـه طفـلاً ..
رحل أبي منذ أعوام ، ولحقت به أمي بعد عام ..
عندما وضعت قدميَّ علي الدرجة الخشبية الأخيرة المؤدية للصالون ، تناهى لي صوت الراديو
بأغنية " فايزة أحمد " الشهيرة : " ست الحبايب يا حبيبة " .. فانبثقت أمّي للتو بجانبي
تنفي ترددي وتقيل عثرتي ، وكانت تقبض علي معصمي ، وتقودني للكرسي الجلدي أمام المرآة ،
وترفعني عليه ، وتوصي عم " أنيس " هامسةًً كي لا أسمع : أن يزيل شعري الخنافس كله من
جذوره بالماكينة نمرة خمسة ، لأنه بهذا الطول الذي يغطِّي قفاي ووجهي لابـد أن يتسبب في
وجع عينيَّ .. 
استرقتُ السمع لما قالته ، وانتابني غضبٌ شـديدٌ ، ووددتُ لـو أفـر هرباً من هـذا
الصالون ..
خطوتُ للداخل .. أين العـم أنيس ؟ .. بحلقتُ في الظلام الخفيف ورأيته ، كان هناك مكوماً
بالركن علي الدكَّة يغفو ، ربما كان ينتظر زبوناً للصالون يعرف أنه لن يأتي ، هو الذي
كان يقف علي قدميه من الصباح حتى المساء ولا يتعـب ..
" يا حنينه وكلِّك طيـبة .. يا رب يخلِّيكي يا أمِّي
   يا ست الحبايب يا حبيـبة .. حبيـبة "
ليس ثمة شيء سوى صوت الراديو القديم يملأ المكان ..
ـ " سـلامُ عليكـم يا عـم أنيس " .
انتفض الرجل شيخاً هرماً ، تضاءل جسـده وتقلَّـص كثيراً ، نحيفاً كما كان ، شعـر رأسه
الغـزير المرجل للخلف بالفازلين اللامع ، انحسر متراجعاً عنـد الحافة الدائرية ، تاركاً
مساحة صلعـاء جرداء لامعـةً ، ووجهاً ملآن بشبكة من التجاعيـد ..
ـ " سلام ورحمة الله وبركاته .. تفضَّـل يا سعادة البيـه " .
ردَّ ببطء المفاجأ ، وهو يتأملني بحذر وخوف وضيق ، وأفسح لي مكاناً علي الدكَّـة ، لابد
أنه خمَّن من هيأتي أنني لست زبوناً لـه ، ماذا تعني زيارة ضابط شرطة لصالونه ؟ لا بـد
أنّها زيارة لا تحمل معها إلاَّ الشـر ، لا بـد أنها مخالفة ما لا يعرفها ، لجهة ما لا
يعرفها أيضاً ، جهة من الجهات الكثيرة التي تـدقُّ أبوابه في الآونة الأخيرة : محافظة
ومحليات وطرق وضرائب وتأمينات و..
كدتُ أقـول له مشفقاً لأنزع عنه هواجسه ووساوسه :
لولاك ما كنتُ ضابطاً للشرطة يا عم أنيس .. أنت السبب ..
ارتعـش صـوته بحياد :
ـ " تشرب سعادتك شاي ولاّ قهوة ؟ " .
لكنِّي اتجهت للكرسي الذي كنت أجلس عليه طفلاً ، ونزعت الكاب عن رأسي ، فزادت الريبة في
عينيه الصغيرتين المتأملتين .. إنه نفس المقعـد القديم وإن ازداد قدماً ودبَّ الوهن في
أوصاله وهو يصر تحت ثقلي ، المرآة المستطيلة المرشوقة أمامي مغـبرة بالغبش المصفر ،
مبقعة بالسواد في أكـثر من موضع ، الحامل الخشبي الممتد أسفل المرآة حائل اللون ، تتراص
عليه ماكينات حلاقة نمرة خمسة ونمرة عشرة ، وعلبة بودرة معدنية ، وأمشاط مختلفة الأحجام
تساقطت بعض أسنانها ، وأمواس مستقرة في جراب جلدي قديم ، و صبَّانات كاوتشوكية حمراء
اللون أو معدنية مطفأة اللمعة ، معاجين حلاقة وفرش للذقن وزجاجات كولونيا فارغة ذات
ماركات منقرضة ، وانتبهت لمروحة ذات ريشات عريضة تقشر طلاؤها تتدلَّى من السقف ، كانت
تلهث بصوت متعب في دوران بطئ لا نهائي ، وحوض الماء في الركن كما هو ، لونه مصفر ويعلوه
صنبور نحاسي قديم ، والدكَّة الخشبية الأرابيسك يعلوها علي الحائط برواز زجاجي قـديم
لفريق الأهلي الذي كان يشجعه في الستينيات .. رفعت الفناجيلي وصالح سليم ونجوم بهتتْ
ملامحهم وأسماؤهم ، كثيراً ما سمعت هذا الراديو العتيق الذي يغني لست الحبايب مضبوطاً
على درجة الصوت العالي أثناء مباريات الدوري أو الكأس ، وتعليقات عـم " أنيس " الكروية
تتقاطع مع تعليقات الكابتن " لطيف " في وصفه التفصيلي للمباراة . بجوار البرواز برواز
آخر بالقلم الفحـم للعم " أنيس " في شبابه ، صورة تضج بالحيوية والعافية ، أهداها لـه
فنَّـان " بورتريه " رائع من زبائن الصالون ..
ـ " لا شاي ولا قهـوة يا عم أنيس .. عاوز أزيِّن شعـري " .
وازدادت حيرته وريبته أكـثر ، عندما رآني بالمرآة وأنا أحدِّق في محتويات صالونه ..
وأنا أنظر للدكَّة الخشبية وابتسم لأمي التي تنتظرني عليها ..  ولمعتْ عيني بدمعة حائرة
انفلتتْ رغم أنفي ومسحتها براحة يدي .. ، وكأنما بغريزة الاحتراز ، أراد أن يكسب وقتاً
آخـر للتفكير والفهم ، اتجه للراديو وتشاغل بخفض الصوت أو البحث عن محطَّة أخرى ، وكرر
يؤكد العزومة :
ـ " لازم تشرب حاجة .. أجيب لسيادتك حاجة ساقعة " .
لكنني أشرت لـه بيـدي أن يترك الأغنية ، وصوت " فايزة " الصدفة ، يغـوص في دمي ، ويعيـد
لي أمّي ..
" أنام وتسهري .. وتباتي تفكَّّري
وتصحِي من الأدان .. وتيجي تشقَّري
يا رب يخلِّيكي يا أمِّـي
يا ست الحبايب يا حبيبة .. حبيبة "
ووصيتها للأسطى " أنيس " أن يخلص رأسي من شيطان الخنافس الذي سرح فيه بالشعـر الكثيف
ترن بمسمعي ، وهو يتأمل شعري ويهـزَّ رأسه بالسؤال الاستنكاري :
ـ " خنافــس ؟! " .
لم أجـد رداً ، وأنا استنشق رائحة الكولونيا من ثوبه . وعاود الكلام عن الشباب "
الخنافس " ، إنهم ليسوا رجالاً بالمرَّة ، الشعـر الطويل هو تاج المرأة والعقل هو زينة
الرجل . وأقسم بأيمان مغلظة لأمي أنه رأى مجموعة " خنـافس " بالشارع ، لم يستطع التعرف
عليهم إن كانوا ذكـوراً أم إناثاً إلاَّ من سوالفهم الطويلة التي تشبه " البُلـغ
الفلاَّحي " ..
وانفكتْ ملامح وجهي العبوس عندما ضحكتُ ، وضحكتْ أمِّي وهي تسـتزيده :
ـ " قـل له يا أسطى أنيس ووعيِّه الله يخليك " .
ـ " أهو سامع .. من عيني يا أم أيمن " .
ولمَّا انتهى من نصائحه وأيقن من دخولها عقلي ، سألها بعفوية :
ـ " سمعت إنكم ناويين تفارقونا وتسيبوا البلـد يا ست أم أيمن .. صحيح ؟ " .
ردَّت أمِّي عليه بأسـى :
ـ " أمـر الله يا أسطى أنيس " .
أمسك بالمشط وهـزَّه ببال فارغ :
ـ " ونعـم بالله .. رزق هنا رزق هناك .. الرازق هو الله " .
قالت أمّي وهي تتململ علي الدكَّـة بجوار الباب ، وترمقني بعينيها :
ـ " مكان ما يروح أبو أيمـن .. إحنا معاه " .
وردَّ الأسطى ، وهو يمـرر المشط بغـابة شعري بصعوبة :
ـ " أصيـلة وأميرة يا بنت الناس .. ربنا يسهِّل لكم الأمـور إن شـاء الله " .
وآلمتني رأسي بشدَّة ، وكاد الدمع يقفز من عينيَّ ، عندما ترك المشط بشعري وهرول صوب
الباب ، وكان يصيح بحرارة :
ـ " يا ألف مرحباً .. أهـلاً وسهـلاً .. " .
ولمحتُ في المرآة شرطياً سميناً يصطحب طفلاً عرفته علي الفور ، الطفل " وليـد " ابن
ضابط الشرطة الجـديد بالمركز ، زميل المدرسة والفصل ، وتجهم وجهي فأنا لا أطيـقه ، فأنا
أتفوق عليه في الدراسة ، وهو خائب ، لكنه يظن نفسه أفضل مني لكون أبيه ضابطاً ، ويشعر
بالغيرة منِّي .. ، قـاده الأسطى علي الفور للمقعد المجاور ، وانفلت من الباب يجري ، ثم
عـاد وفي يـده باكـو شكولاته ، قـدَّمه لـه وهو يرسم علي فمه ابتسامة عريضة ..
ـ " تفضَّـل يا وليـد بيـه " .
لم يرد عليه ، وتطوع الشرطي بالشكر ، وراح " وليد " يفض غلافها باستهانة ، ويقضم منها
علي مهل وهو يرمق صورتي بالمرآة ، ويتطلع في عينيَّ بجرأة ، كأنما يؤكـد لي مكانته
الحقيقية المستمدة من مكانة أبيـه ، وما تفوقي عليه في الفصل إلاَّ تفوق زائف لا قيمة
له ، ولا يعطينني أية مرتبة استحقها حتى  لدى الحلاق ..
أبعدتُ ناظري عن المرآة حتى لا تلتقي عيناي بعينيه ، والأسئلة الحزينة تتصادم برأسي
بوطأة ثقـل الشعر : هل نسيني العم أنيس ؟ وإن كان قـد نسيني أنا قليل الشأن في نظره ،
كيف ينسى أمِّي القاعـدة بجوار الباب والتي كان يكيل لها المديح والثناء منذ لحظات ؟ ما
كـل هـذا النفـاق الرخيص لهـذا الولـد الخائب المتعالي " وليـد " ؟ ..
قلتُ لنفسي : لا بأس يا عـم " أنيس " .. المهم تقـص شعري وأترك لك صـالونك بمن فيـه ..
لكن الذي حـدث أن الأسطى " أنيس " جـذب درجاً تحت المرآة ، وأخرج فوطة جـديدة حمراء ،
نفضها وبسطها حـول رقبـة " وليـد " فبدا كديك صغير ، ومشطاً جـديداً راح يمرره برفـق في
شعـره الكثيف حتى لا يؤلمه ، وصـوته الثرثار وهو يسامره يخـترق أذنيَّ ..
ـ " كيف حال بابا ؟ .. سلمت لي عليه المرَّة اللي فاتت ؟ " .
فلا يـرد الولـد عليه إلاَّ بحرفين من حلقومه المحشو بالشكولاته وهو يتلمظ :
ـ " آه " .
ـ " ما رأيك في طعم الشكولاته ؟ .. حلـوة .. صح ؟ " .
ـ " آه " .
كدتُ أصرخ فيـه : ما هـذا الذي يحدث يا عم " أنيس " ؟ إنني صاحب الـدور في الحلاقة إن
كنت قـد نسيت ؟ كيف تهملني وتتركني هكذا ؟ لماذا تعطي كل هـذا الاهتمام لهذا الولـد
الخائب ، حتى ولـو كان أبـوه ضابطاً ، أو حتى مأموراً للمركز كلّـه ؟ .. كيـف يا عـم "
أنيـس " ؟ ..
كان داخلي يصرخ وأنا أحاور نفسي بالمرآة ، وأشعـر بقـدر هائل من الذل والإهانة والحزن
والكآبة ، وأفكر ، لا بـد أن " وليـداً " سينتهزها فرصة ، ويحكي كل هـذا لزملائي بالفصل
بالتفصيل الممل ، ليصغر من شأني ..
كنت عاجزاً عن التصرف ، غير قـادر علي اتخـاذ قـرار ، أود لـو انشقَّت أرض الصالون
وابتلعتني ، ولا أرى نظرة الانتصار الشامتة تطل من عيني غريمي في المرآة أمامي ، النظرة
التي تغرس سمومها في بدني النحيل فتشعـله بحرارة العجـز ..، كنت في حـال يصعب وصفها
بالكلمات ، حتى أنني نسيت وجـود أمِّي للحظة ، وعندما تذكرتها ، والتقتْ عيناي بعينيها
لثانيـة واحدة ، انكسرتْ نظرتي رغم أنفي صـوب الأرض ..
كيف قرأتْ أمي صفحتي وهي الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب ؟ كيف عرفتْ حالي في هذه الثانية
العصيبة المنفلتة من عمر زمني ؟! كيف أنقـذتني من هواجس ضعفي وكوابيس عقلي الصغير
وترهات تفكيري القاصر ؟ كيف رفعتْ رأسي وأعـادتْ لي كرامتي المسلوبة في لحظـة ؟! ..
هـل هـو السر الذي يسكن قلـوب الأمهات ؟ ..
جاءني صوتُها الحنون من جوف قلبها يخترق ظهري ، ويستقر بصميم فؤادي ، عندما ضربتْ صدرها
بكفِّها ، وهتفـتْ ملهـوفة :
ـ " يا حبيـب قلبي يا بني " .
وهبَّتْ واقفةً كنمرة ثائرة أوشكتْ علي فقـد وليـدها بغتة ، أمسكتْ بمعصمي بقـوَّة
تستعيدني وتضمني إليها ، انتزعتْ المشط من شعري وألقته أرضاً ، ونظرتْ للأسطى " أنيس "
ـ بعينين لامعتـين ـ بنظرةً لن أنساها ما حييت ، وكان وجهها يتضرج بحُمرة الغضب ، عندما
قالتْ لـه بعتـاب لا يقـبل الصفـح :
ـ " كدا يا أسطى أنيس .. ده يصـح يعـني ؟ " .
ولم تنتظر منه رداً ، انفلتتْ بي خارجةً بين ذهول الرجل ، الذي أفاق للحظة وانتبه
لوجودنا ، فوقف يشيعنا بنظرة صامتة ، غير قادرة علي الإتيان بأي فعـل أو حتى رد فعـل
..
كانت لحظة قاسية ، تفجَّـر فيها وعيِّي الصغير ، حيال الكثير من أمور الحياة العجيبة ..
لم تكن هـذه هي المرَّة الأخيرة التي أرى فيها الأسطى " أنيس " ، كانت عربة النقـل
الكبيرة التي تحمل أغراضنا المنزلية واقفةً ، وكان أبي وأمِّي بين جمع الجيران الذين
جاءوا لوداعنا ، ولأني كنت أكـره لحظات الوداع بكل ما تحمله من ثقل نفسي لم أكن أطيقه ،
فقـد انفلتُ متسللاً لكابينة العربة وجلست بجوار السائق ، وفي اللحظة التي توقعتُ فيها
أنني قـد أفلـتُ ، لمحتُ الأسطى " أنيس " يهرول لاحقاً بأبي بين الجمع ، وراح يحتضنه
بقوَّة ، انزلقتُ بجسدي الضئيل علي كرسي العربة وداريتُ وجهي حتى لا يراني ، لكنني رأيت
باب العربة يُفتح فجأة ، ثم والأسطى أنيس يصعـد بقدميه نحوي ، ويأخـذ رأسي ووجهي
بكفَّيه ويغمرني بالقبلات وهو يقول :
ـ " إيَّاك لسَّه زعلان مني ؟ .. خد بالك من دراستك وخليك شاطر .. وأنت تبقى أحسن من
وليد واللي خلفوه "
ولم استطـع آنئـذ كبح جماح دموعي التي انهمرتْ علي خـدَّي بغـزارة ، وغمرتني اللحظة
بشـلاَّل من الحزن ، ظـلَّ رفيـقي طـوال الطـريق ، لم أستطع زحزحته عن كاهلي إلاَّ
عندما خايلتني نفسي عبر زجاج السيارة ، ورأيتني ضابطاً للشرطة بحجم الفضاء كلّه ،
فافترتْ شفتاي ببسمة واهنة لذلك الطيف البعـيد ..
" سـت الحبـايب يا حبيـبة .. حبيـبة "
قفلـتْ الجملة الموسيقية الأغنية ، مسحتُ دمعة أخرى ببطن كفِّي ، والعم " أنيس " جذب
الـدرج وأخرج فوطة نظيـفة بسطها حــول رقبـتي ، أمسك بالمقـص والمشـط ، وسألني سـؤالاً
متـردداً خجولاً :
ـ " لا مؤاخـذة .. العتب علي النظـر .. حضرتك تعرفني يا سعـادة البيه ؟ " .
ابتسمتُ لسـؤاله ، وقـلتُ له :
ـ " طبعـاً أعرفـك يا عم أنيس .. من أربعـين سنـة أو أكـثر " .
بادلـني بسمة اطمئنان تجمع بين الدهشة والأسى ، ومرر المشط برفق في شعـري ، ومـطَّ
العبـارة التي رددها بعـدي :
ـ " من أربعـــين سنـة أو أكثر ؟ " .
قلـت له بمرح يُسقط كل الحـواجز :
ـ " طبعـاً.. وأنا عارف إنك مش جولـدن فنجـرز .. حضرتك : راجي عفـو الخــلاَّق ..
الأسطى أنيس الحـلاَّق " .
توقف لبرهة يتأمل وجهي ملـياً ، لم أتيقن من غضون وجهه إن كان قـد عرفني أم لا ؟ لكن
الشيء المؤكـد الذي شعَّ من ملمحه العجوز هو طيف ابتسامة فرحة رفَّتْ علي شفتـيه ، وأن
بريقاً من السعادة لمع في عينيه الخابيتين ، وأنّـه استحال فجـأة لفراشـة راقصـة حولـي
..
يمرر المشط ، يسحب شعري بأنامل تعرفه وتألفه تماماً ، كأنه الشعـر الذي نبتَ من بطونها
من أربعين عاماً خلتْ ، يقص بالمقص ولا يكف عن الطقطقة ، يرفع ذقني في محيط نظـرته
ويتأمل وجهي فابتسم له ، ويبتسم لي ، ويضبط الفودين والسالفتين ، يزن تدرج الشعـر
بجانبي رأسي بموازين خـبرته ..
يتـم كـل هـذا بسـرعة عجيـبة ..
وكنتُ أتأمل وجهه بالمرآة عندما اختفتْ وتلاشتْ تجاعيـده ، وعادتْ إليه نضارته وحمرة
شبـابه ، ورأيتُ رأسه متوجاً بالشعر الأسـود الغـزير ، ومرجلاً للـخلف بالفازلين اللامع
، واستنشقتُ بأنفي علي مهل ـ بيقين لا يقبل أي شك ـ رائحـة الكولونيا الذكيَّـة ، التي
تتضوع من ثنـايا ثـوبه .. 

ـــــــــــــــــــــ
* قصة من مجموعة ( امرأة وألف وجه ) سلسلة خيول أدبية 2006 م

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية