وحيدا كقنفذ، أستمتع كل مساء بجلستي تلك في الشرفة المطلة على درب "مونطيرا" بكل حيويته وشعبيته. جئت هاهنا لأدرس فاندمجت تماما مع مجتمع أندلسي هو خليط لذيذ من عرب وإسبان وأناس لا تعرف هويتهم لكنهم بشوشون أيضا، و لا ينقصهم سوى أن ينطقوا الشين سينا كي يكونوا طنجيين (نسبة إلى طنجة) مئة بالمئة. يروقني تساؤل السيدة كارمن الذي تردده كل مساء عندما تخرج لتراقب الحي وتلعن ضوضاءه..
- أين أنت يا أنيسة؟
منذ ثمانية شهور وهي تردد نفس السؤال بنفس اللحن الذي يثير في نفسي قشعريرة لذيذة غريبة. أحيانا، أجدني أردد نفس التساؤل وأنا أعد الشاي أو أراجع دروسي التي لا أفقه منها شيئا. أسأل نفسي: أين أنت يا أنيسة؟ يجيبني صدى صوتي في الغرفة رغم أنني أنطقها بهمس. لاأثاث لدي و لا كثير مؤونة. لافي المطبخ و لا في غرفة الجلوس. على صغره، يكلفني صندوق الكبريت هذا 400 أورو شهريا. السيد ألونصو كان حازما جدا و هو يرفع حاجبيه و يلوح بإصبعه:
- 400 أورو ولامجال للمناقشة. أصدقاؤك الذين ينتظرون أكثر من عدد أصابع يدي مرتين.
فيما بعد فهمت أن السيد ألونصو يسمي كل المغاربة " أصدقاءك".
شارع مونطيرا ليلا يجعلني أتنهد ألف مرة و أفكر في تلك الفتاة الرائعة التي تركتها ورائي. تلك الفتاة التي لا يهاجمني طيفها إلا في ذلك الوقت. عدا هذا، لا أتذكر أنني أحب واحدة. يتهمني صديقي منير دائما أنني متحجر القلب، لكنني أجيبه أنني أخبئ كل الأشعار و التنهيدات و الهدايا والآلام أيضا لزوجتي، فيبتسم ولايعلق.
من هي أنيسة؟ إلى أين رحلت؟ أين هي فعلا؟ أستمتع بغموض السؤال و ضبابية الإجابة. في كل مرة، عندما أعود مساء، أفكر بسؤال الآنسة كارمن عن قصة أنيسة لكنني أتراجع. مساحة اللذة - التي تتركها تلك الإجابات الهلامية التي أضعها - تقمعني.
كارمن تعيش لوحدها. نصحني ألونصو منذ أول يوم أن أتجنبها.
- تلك العجوز الشمطاء ستوقعك في مشاكل لاحصر لها إن فتحت معها أي باب للحديث.
أعرف الآن أن الآنسة كارمن أطيب من ألف ومائة ألونصو. ذلك الوغد أكبر نمام على وجه الأرض. من كثرة ما يغتاب الآخرين أعتقد أنه يوما سيتحدث بالشر عن ألونصو نفسه. ولعمري سيكون ذاك الحديث الصادق الوحيد الذي قاله.
كم مرة نادتني كارمن وأنا عائد من عملي ومنحتني عشاء دسما. أحيانا كانت تعد لي الشاي و ترسله مع "بيترو"، الطفل الغجري الشقي الذي يستطيع أن يقدم لك كل الخدمات :
- هل تريد وسادة سنيور؟ هل تحتاج إلى تلفاز رخيص سنيور؟ أطلب ما شئت وبيترو يحضره لك بأزهد الأثمان. الموروس ( المغاربة) طيبون وأنا أحبهم.
يقدم بيترو خدماته بكل أنفة. في أحد الأيام شج رأس أحد الجيران لأنه تعامل معه بوقاحة كما قال. غاب بعدها لشهر كامل، ثم عاد بعد أن رحل ذلك الجار وتناست الشرطة كل شيء بخصوص الحادث أوتناسته.
الساعة تشير إلى العاشرة ليلا و السيدة كارمن لا زالت جالسة قرب باب بيتها تحيك قميصا من الصوف لم تنهه و لن تنهيه أبدا على ما يبدو.
كان القرار سريعا و كانت خطواتي، وأنا أنزل الدرج، أسرع.
- سيدة كارمن.. مساء الخير.. كيف حالك؟
- كالعادة متعبة ومنهكة، كما ترى، الوحدة قاسية لاترحم.
ثم دست رأسها في مشروعها الأبدي ورددت عبارتها الأثيرة بهمس:
- أين أنت يا أنيسة؟
تقولها بلكنة غريبة. سؤال موجه إلى لا أحد. حزن لذيذ مشوب بأمل عودة في يوم ما.
- ألم تملي من ترديد هذا السؤال؟
كأنني ارتكبت جرما كبيرا، رمقتني كارمن بنظرة حادة. ثم لانت ملامحها ورأيت دمعة تتبع مسارا متعرجا على خدها المتجعد.
- كان يوما مشؤوما...
اعتدلت في جلستي لأظهر لها اهتمامي بالأمر. وهو أمر لم أحتج لاصطناعه على أية حال.
- .. لقد كانت أنيسة سعيدة بالحياة معي. لم أحرمها من أي شيء. وعندما عدت من عملي في أحد الأيام وجدتها – وكانت لأول وآخر مرة تفعلها – تتغوط فوق السجاد. كنت قد نسيت أن أفتح لها باب السطح.. عندها نهرتها بجملتي التي أتمنى لو أنني لم أنطقها: " ماذا فعلت يا أنيسة؟". نظرة واحدة في عيني ثم انسلت هاربة. ومن يومها لم أرها يا عبده. هل تعتقد أن قطتي أنيسة قد تعود يوما؟
ظللت أنظر إلى وجهها المتغضن و عينيها المغرورقتين بالدموع لربع ساعة تقريبا. لم أستطع أن أقول أي شيء وأنا أشعر بغصة في حلقي . تحاملت على نفسي ونهضت مغادرا وأنا أجر قدمي جرا مرددا في همس:
- أين أنت يا أنيسة؟