إذا أوغلت في الصحراء فسترى السماء منكفئة فوقك كناقوس ضخم ، والنجوم المنتثرة في الفضاء ستصبح ثقوبـًا تستطيع أن تطل منها على فضاء الكون الرحب ، وتمد يدها لك لتريك نواقيسـًا أخرى ، حاضنة أناسـًا آخرين ، وسترى في النهاية مجموعة من القباب المرتفعة ، بينها ممرات تؤدى إلي بعضها البعض وأنت تدخل من واحدة لأخرى ، مستهلكة منك سنينـًا طويلة ، ستظل عمرك كله تائهـًا بين تلك القباب ، في متاهات لا حصر لها بحثـًا عن روحك ، وربما في النهاية تجدها معلقة فوق رأسك ، مشدودة بشعاع ضوء واهن يجذبها لأعلى دون أن تكتشف أو تفهم شيئـًا مما حولك . تلك فقرة في كتاب الكون قرأتها لصديقي شريف إسماعيل ونحن ذاهبان في مهمة عمل إلي الصحراء الغربية المصرية ، في نهار مشمس من أيام الشتاء ، رأينا التضاريس من بعيد منبسطة وناعمة إلي درجة أن تموجها في الهواء الهادئ أنعشنا ، أجلى صدورنا ، فتخيلنا أن البحر انساب على الرمل ، بَثَّ هوائه في فراغاته ، وحين اقتربنا من تلك الهضاب والتلال أصابها تغير مفاجئ فأصبحت حادة ومدببة بشكل يشق الجلد ويقطع الأطراف إذا ما مستها .
كانت العربة تحملنا فوق الارتفاعات وتلقينا إلي المنخفضات الخفيفة فتشهق أرواحنا من تلك الرجفة التي تلامسنا والعربة تنساب لأسفل ، وتتحول إلي أرجوحة هوائية تخلط الاتجاهات الجغرافية وتغيرها ، أو تدفعها أن تتعامد مع أشعة الشمس فتبدو أنها سوف تنطلق في السماء ولا ترتد .
ركز شريف عينيه في شاشة جهاز الـ " جى بى إس " الذي يدلنا على المسار الصحيح ، عن طريق اتصاله بشبكة الأقمار الصناعية ، فيتعرف على خطوط الطول وخطوط العرض ، إحداثيات النقطة التي نقف عليها ، يحسبها بدقة متناهية في كل قدم نتحرك فيها مع رسم مسار بخط أسود على شاشته منذ أن تحركنا من مقر الشركة ، قاطعين شوارع المدينة في اتجاه منطقة الامتياز الخاصة بشركتنا – التي تبحث وتنقب فيها عن البترول والغاز – رغم صغر حجمه الذي لا يتعدى حجم ثلاثة أصابع من أصابع الكف مضمومة إلي بعضها ، إلا أنه مرشد أمين ، وعلى درجة فائقة من الذكاء .
كنا في زيارة إلي موقع قديم لأحد الآبار الجافة التي لم نعثر فيها على البترول ، فهُجر بعد أن أُغلق بوضع صبة خرسانية على فتحته التي لا تتعدى نصف متر مربع ، تلك الفتحة دائمـًا تقع في قلب كتلة خرسانية أكبر تبلغ حوالي أربعة أمتار مربعة تكون مجهزة قبل حفر البئر لكي تقف عليها البريمة ثابتة أثناء عملية الحفر ، وبجانب تلك الكتلة توجد هوة عميقة تستقبل الماء المشبع بنواتج الحفر ، من مواد طفلية وصخور مفتتة بجميع أنواعها المتراكمة تحت سطح الأرض حتى عمق أربعة كيلومترات ، وبعد هجر البئر غطت الأتربة والرمال التي تذروها الريح تلك الهوة فتموهت مع الصحراء من حولها ، أصبح ظاهرها جافـًا ، وباطنها تحول إلي مستنقع أسن يحتاج إلي وقت طويل حتى يتصلب .
مصيدة بهذا الشكل ، وعربة حديثة مجهزة بالسير في الصحراء الوعرة تنطلق نحوها بسرعة ، ولا يدرك شريف ما تحت الرمل المنبسط أمامه ، وهو يضغط على دواسة البنـزين ، ولا شئ يدل على ما في الباطن ، لا شئ يدل على أن هناك خلل تحت السطح على هيئة فم مفتوح في انتظار ما يبتلعه ، وماء أسن من الممكن أن يُنتج كائنات وحشية ويُطلقها في طبقات الصخور لتأكل كل ما يقابلها ، تخطت العربة ونحن بداخلها الحدود الخرسانية ، حاول شريف أن يُوقفها ، لكنها سحبت نفسها وحطت عجلاتها فوق سطح تلك الهوة العميقة وترنحت ببطء ثم بدأت في الغوص المتسلل .
سقطت العربة في الحفرة كما يسقط حجر في برميل صمغ فتُسد مسامه ، حاولنا أن نفتح الأبواب كُلّ من ناحيته فلم نستطع ، حتى استقرت في القاع ، نظرنا للرعب الذي سيطر علينا ولون وجوهنا بالدم ، صرخنا فاندفع الصوت ليفجر آذاننا ، ويفصلنا عن بعضنا .
كان الماء قد تفاعل مع صخر القاع الذي فيما يبدو أنه حجر جيري فشققه ونفشه ، صنع فيه ممرات وفجوات بدت كمسالك مدينة عربية قديمة ، كسرنا زجاج العربة وخرجنا ، أمسكت بكتف شريف ، اتكأت عليه ، تركت له يدي ، وكم كانت الصدمة مروعة حين بدا كالأعمى وهو يسحبني لننـزلق عبر فالق كبير يشق الأرض إلي نصفين ، هوينا وأيدينا انفتحت كمظلة هوائية ، نبشنا أظافرنا في الفراغ ، ومن شدة سقوطنا ومحاولة تشبثنا أحسسنا أننا قد سلخنا قشرة صخرية وتدلينا بها في الفراغ بين الأرضين ، نزلنا فوق أرض ثالثة مطوية فوق بعضها كقشر فاكهة القشدة ، مشينا فوق تلك النتوءات ، دخلنا في فتحة تؤدى إلي أسفل ، والرعب بدأ يخفت من ملامحنا ونحن نبحث عن مخرج .
بدا التفكير في ذلك الواقع أكثر حكمة من الجذع والهلع ، نظرنا تحتنا وفوقنا فوجدنا أن المسافة إلي الأسفل أقرب كثيراً من الصعود إلي الأعلى ، نزلنا وأيدينا تلامس جدران لا نراها ، ومن آن لآخر نرى بريقـًا ولمعانـًا لمعادن مختلفة تحيا في مناجمها المغلقة عليها والتي لم يستكشفها أحد ، قلت لشريف أن يحفظ خارطة تلك الأماكن جيداً قدر ما يستطيع ، فضحك ضحكة تضخمت وظلت مدة طويلة عالقة فوقنا ، قبل أن تنسحب بترددها فى الفراغات والتموجات التى ترسم الحوائط والطبقات وترصها فوق بعضها البعض .
شرع يتحسس تلك المعادن ويتذوق طعمها بطرف لسانه كعادة الجيولوجيين في التعرف على بعض الصخور التي تقترب في شكلها من هيئة الملح .
هالنا ما سمعنا من أصوات تقترب تارة ، وتبتعد تارة أخرى ، كأنها تصدر عن صخر بعينه ، يقف حارسـًا لتلك الكنوز المستترة فى الباطن الساخن ، أسرعنا في حركتنا بجوار تلك الكتل الكبيرة المكونة للبريق ، والمتناثرة في الصخر كأناس واقفين في الشوارع والأسواق ، أو الممتدة في عروق تتفرع في تكوينات صلدة ، بعضها يصبغ الأكف والوجوه بألوان غريبة .
شممنا رائحة غاز يخرج مندفعـًا من فتحة في الصخر ، كاد أن يخنقنا لولا أننا جرينا بعيداً عنه ، ضغط علينا الهواء فأصبحنا فاقدين القدرة على التنفس ، قفزنا قفزة هائلة ، غطسنا في سائل البترول الذي وجدناه تحت أقدامنا ، لم نصدق ما نحن فيه والبترول يغرقنا ، ويدفعنا إلي أسفله ، نشهق دائخين ، على وشك أن نفقد وعينا أو فقدناه فعلاً ، لم نميز ، فقد كنا في انعدام وزن ، والدهشة تُخرس لسانينا ، ورغم أننا في أسفل ما يكون إلا أننا شعرنا أننا نطير في الفضاء متحررين من جاذبية الأرض ، في جو ساخن .
كدنا أن نذوب من شدة الحرارة ونحن نهبط طيات الأعماق ، تركنا أنفسنا بدون مقاومة نبديها ، أحسسنا أننا سقطنا في جهنم ، فأغلقنا عيوننا على ما آل إليه حالنا ، تأهبنا لخوض تجربة الآخرة ببعض الوعي العالق في رموشنا المتعبة .
ذلك السائل اللزج النائم في باطن الأرض حين رأنا قد هبطنا إليه عبر طبقات الصخور وطياتها الكثيرة التي اختبأ تحتها لمئات الملايين من السنين شعر بالدهشة في أول الأمر فتناثر ، وسرعان ما تماسك وتموج صانعـًا دوامات لا حصر لها ، ضحك ضحكة ترددت بقبقاتها في آذاننا بشكل أرعبنا ، ففهمنا أنه قرر أن يغرقنا في لزوجته ، نظرنا حولنا ، حاولنا أن نهرب ، لكننا لم نستطع ، سلمنا أمرنا ودخلنا عباءة الاسترخاء حين وجدنا الحصار محكمـًا للغاية ، وجنوده تصوب رشاشاتها الساخنة على جسدينا .
خمنا أنه قد تبادر إلي ذهنه أول ما رأنا أنه قد تعرف علينا ، عرف أننا من هؤلاء الذين ينقبون عنه ، فيرسلون موجات صوتية تخترق الصخور لتكشفه لهم ، وحين يستدلون على بيته ومخبئه يحفرون الأرض بالبريمة التي تقف فوق السطح بثبات ، تلف دقاقها بسرعة مهولة مخترقة الطبقات الأرضية المتراكمة فوق بعضها منذ ملايين السنين ، وبمجرد أن يلامس ذلك الدقاق دمه بعد أيام من الحفر ، ينـزلون مدافعهم في تلك الفتحة ويفجرون الصخر الذي يحتمي به ، فتصنع الطلقات ممرات يسحبونه منها بقوة الضغط التي تدفعه للخارج بتدفق ، فيخرج عن طريق مواسير لها نهايات مثقبة ، يشفطونه منها إلي خارج بيته ، وعلى سطح الأرض يأخذونه ويجمعونه في براميل ، وسريعـًا يحللونه عن بعضه ، يكررونه ويفرقون دمه في سياراتهم وآلاتهم وأفرانهم ، ويفرشون المتبقي منه – جلده الأسود – على طرقهم صانعين ممرات الإسفلت في كل مكان ، ومكتسبين أنماطـًا من الحياة لم يعرفوها من قبل ، تتحول الصحارى إلي مدن مبهجة ، تزلل رائحته صعوبات الحياة تحت أقدامهم ، بما يجنونه من مال مقابل بيعه كالعبيد إلي بلدان باردة بعيدة ، ما يلبث أهلها أن يحرقوه بنهم ليحصلوا على طاقته ، ولينعموا ببعض الدفء .
مرات كثيرة استطاع أن يهرب لفترة ليحافظ على كميته وجنسه من الانقراض والنضوب ، نتيجة للشفط المستمر ليل نهار فكان حين يشعر بما يرسله هؤلاء المنقبون من موجات صوتية يستشف الخطر فوق رأسه فيجمع نفسه وأهله وعشيرته ويرحلون بسرعة ، يهاجرون من مكان لآخر عبر الفواصل والشقوق والمسام الصخرية المنتشرة في الأحجار الرملية ، والجيرية ، يهبط أودية ، ويصعد جبالاً ، يترك نفسه طافيـًا فوق الماء ، مهاجراً ومستقراً في أعلى الأماكن معتمداً على كثافته الخفيفة ، فالماء يعطيه فرصة أكبر للهرب والتخفى في مكامن مسقفة بأنواع من الصخر مثل الأحجار الجيرية والطينية ، وتلك الصخور تعزله عما حوله فيأمن هؤلاء العابثون ، الذين يبحثون عنه ، ولا يكّلون سواء في البحر أو في الصحراء ، يطلقون موجاتهم لمعرفة مكانه واصطياده .
في أحيان كثيرة وهو يهاجر يجد نفسه محاصراً في مصيدة صخرية في أماكن عديمة المسام أو ضيقة لا تسمح بمروره ، والماء من تحته يرفعه ويحصره فيندم على أنه لم يتحرك بحذر وحيطة بعد أن يكون قد وقع في تلك المصيدة ، ويظل المنقبون يحومون حوله بما يرسلونه من موجات حتى يمكنهم أن يحددوا مكانه ويصلوا إليه ، عندئذ تبدأ رحلة هلاكه في الخارج بعيداً عن باطن الأرض ولكنه لا يستسلم ، فبرغم تحليله وتكريره وتوزيعه في بلدان مختلفة إلا انه يتفق فيما بينه على أن يتجمع مرة أخري في السماء ، فيطير في أدخنة تخرج من الآلات والسيارات والمصانع ، يتجمع في سحب دخانية ، تحملها الريح على أجنحتها وتدخلها مصانع السماء لتضخها في حزم حلزونية تنتشر في الأجواء ، وتعبق بكثرتها بلدانـًا وقارات ، قاضية على الأخضر فيها ، رد فعل تلقائي تلتزم به تلك الأبخرة الدخانية المحترقة تجاه غيرها ممن يحرقونها ، ترفع لسانها كعلم تلم به أجزاء المشردين والتائهين بعيداً ، وصلت رفرفة تلك الراية إلي عنان الفضاء الخارجي ، اخترقت الأوزون ، فى محاولة لثقب الكرة الأرضية وبعثرتها فى التمدد الكوني .
فجأة فلتنا ، خرجنا من قاع السائل اللزج إلي ماء دافئ ، حركنا أذرعنا فتموج ، هللنا في رقصة الفراشة الطائرة التي يسبح بها أبطال السباحة في سباقاتهم ، غسلنا جسمينا مما علق بهما ، نادى كُل منا على الآخر كأننا نجرب أصواتنا التي نسيناها ، لم يكن هناك سبيل إلي الصعود فسبحنا إلي أسفل ، خرجنا من قاع الماء ، تحسسنا ما تحت أيدينا مباشرة فكانت الأرض تتحول إلي مناطق بعضها مبلل ، وبعضها جاف .
في المنطقة الجافة وجدنا أشجاراً من العروق الضخمة ، متفحمة ومتشعبة إلي عدد لا نهائي في غابة كثيفة لا آخر لها ، مكونة مدنـًا من الفحم .
ولم يكن هناك مخرج يلوح في أي اتجاه ، لذا تعمقنا وتتبعنا تلك العروق ، دخلنا في دهاليزها النائمة أفقيـًا في مسلك متدرج إلي تحت . كنا نمشى على أيدينا أو أرجلنا أو رؤوسنا لم نكن ندرى فى أي وضع نحن بالضبط ، فقد كنا نتتبع الهواء الخارج من فاهينا .
غلبنا التعب ، نمنا في نفس اللحظة التي نظرنا فيها لبعضنا .
بعد ساعات أو يوم أو أعوام مرت سمعنا وقع دقات منتظمة تأتى من بعيد .
لم نصدق ما نحن فيه ، تلاقت أعيننا وارتدت إلي مصدر ذلك الدق ، زَيتّنا أرجلنا بالحك وأوقفناها عنوة ، نشطناها في المكان ، جرينا في اتجاه الصوت ، الذي علا مع اقترابنا منه ، دفعتنا رغبتنا في الخلاص من حالتنا تلك ، فتشبثنا بالجري باستماتة حتى كادت الدقات المستمرة أن تثقب آذاننا ، على بعد خطوة من مصدرها مباشرة وقف شريف في مواجهتي ، قال :
هل تصدق ذلك ؟!
أومأت برأسي ، وقبل أن أنطق هوى شيء فوق دماغينا ، فوقعنا مع كتل منهارة من تلك الأشجار الفحمية التي كنا نقف بجوارها .
حين رأنا الدقاقون ألقوا مطارقهم وفروا مذعورين ، ركبوا العربة التي ينقلون بها الفحم وانطلقوا متزاحمين في ممر ضيق يؤدى إلي نور في نهايته .
نظرت إلي شريف فرأيته أسود ، ضحكت وضحك ونحن ننفض الغبار عن وجهينا وجسدينا . صعدنا إلي عربة ثانية - تركوها عند خروجهم - خرجنا فوق القضيبين الحديديين من نفس الطريق الذي فروا منه ، رأينا لمبات الإضاءة معلقة على الجدران الصخرية ، ودعامات خشبية تصطف على الجانبين وتحمل السقف على رأسها بما فوقه من ثقل الجبل والدنيا من أعلاه .
وعلى مرمى البصر كان النهار واقفاً في انتظارنا ، والفارون اصطفوا أمام مدخل منجم الفحم وأيديهم مستندة على ركبهم ، ورؤوسهم تطل علينا بعيون جاحظة وأنفاس مشدودة ، في انتظار العربة التى تحملنا وهى خارجة من حديقة الفحم .