Imageهي مجرد عادة سيئة ألفتها و لم أستطع لها فراقا: دائما عندما أتوصل برسالة أخرج إلى الحديقة العمومية. أجلس على كرسي خشبي، ثم أضع المظروف بقربي و أظل أتأمل العالم و كأنني فيلسوف لا مثيل لي. أخوفٌ هو؟ ليس بالضرورة، فالمظروف الذي بين يدي الآن – على سبيل المثال- من هدى. و هدى مجرد كائن شفاف رقيق لا يجيد تلك المهارات التي نمتلكها نحن من خداع و أكاذيب و نقل أخبار قاتلة يتضح في الأخير أنها كاذبة.

هدى هي التي قلت لها أنني أفكر بالهجرة فظلت تبكي ليومين و كأن الطائرة تنتظرني قرب باب البيت مع أن الحصول على تأشيرة لإحدى دول أوروبا هو من خامس المستحيلات.
لكن الفارق هنا هو أنني سمعت مؤخرا أن أهلها قد قرروا تزويجها لابن عمها كما تفعل جميع العائلات التي تهوى تحطيم قلوب أمثالنا. هل تعتقد أنه أمر يثير الخوف؟
المظروف بقربي، و أنا أضع قدما على قدم رافعا رأسي للسماء، متابعا بنظراتي سربا للطيور يصنع أشكالا جميلة متداخلة، هذا قبل أن يقرر قائد السرب أنه قد حان الرحيل تاركا إياي أحدق في الفراغ مثل أي أحمق.
ثلاث ساعات مرت و أنا لا أجرؤ على فتح المظروف. هي ليست سابقة على أية حال لأنه لدي لحد الآن ثلاث مظاريف لم أفتحها بعد، أقدمها عمره ثلاث سنوات!
هي عادة رديئة؟ أعرف هذا.
هو تصرف لا مفهوم؟ أنا بهذا أدرى.
هي رغبة في الانتقام من شيء ما أو ربما من لا شيء.؟ هذا ما لا أستطيع تأكيده.

يقولون أن أجمل القصص هي التي لم نقرأها بعد. هكذا أعتبر أنه لي الحق في قول أن " أجمل الرسائل هي التي لن نقرأها أبدا". هل يكون مصير رسالة هدى شبيها بالثلاثة؟ لم أقرر بعد.
في الواقع، الأمر لا يتعلق بقرار ما بقدر ما يتعلق برغبة تجتاحني فجأة تجعلني أمسك المظروف و أقوم بكل هدوء بوضعه داخل أحد الكتب بمكتبتي، محاولا ما أمكن أن أنسى أين وضعته. هكذا أتيح لنفسي لذة العثور عليه و قراءته يوما. فما بالك إذا لم أعثر عليه البتة؟ لك أن تتخيل كم سيكون ذلك رائعا.
السابعة مساء و الليل يلقي بعباءته السوداء على ضوء النهار فيجعله شاحبا، راغبا في الهروب بأقصى سرعة تاركا وراءه دماء قانية في الأفق.

السابعة و النصف مساء. الحديقة أصبحت فارغة. الهدوء يملأ المكان.
الثامنة مساء. ثمة بومة تولول في مكان ما محاولة جعلي أتشاءم دون جدوى.
التاسعة ليلا. نفس المشهد العام. فقط غيرت من وضعي فتمددت على المقعد الخشبي و وضعت المظروف فوق صدري.

العاشرة ليلا. صمت رهيب. البومة أصابها الخرس. فقط صوت أنفاسي هو الذي يسمع في المكان.
الحادية عشرة ليلا. غادرت الحديقة. تعرف أن الرجال الحازمين يكونون ثابتي الخطى لذا فهمت أنني اتخذت قرارا.

الحادية عشر و النصف ليلا. المحيط هائج كثور في حلبة مصارعة، أسود كأفكار كافكا. في يدي قنينة زجاجية بداخلها المظروف. أرفع يدي و أنا أهم بفعل ما تفكر به الآن. أتراجع في آخر لحظة. أرفعها مجددا. أتراجع.
تريد أن تعرف ماذا فعلت؟ لا أعتقد أن هذه الأمور التافهة تهمك إلى هذا الحد. ربما أخبرك فيما بعد.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية