كانت الساعة تشير إلى الخامسة إلا أربع دقائق .. ثمة عصفور يحط على أرضية الحديقة . يلتقط شيئا ما .. يكتشف أنه مجرد قطعة حصا فيغادر دون كبير يأس.
السماء غائمة كما أحبها ، أحيانا تسقط قطرات غيث ثم ما تلبث أن تتوقف .. مجرد غزل لذيذ يروق لي بشدة.
عندما أشارت ساعتي اليدوية إلى الخامسة بالضبط كان أحمد قد بدأ يلوح لي من آخر الشارع .
- في ميعادك بالضبط .. فقط أنت لا تلهث هذه المرة كعادتك .
- لا يمكن أن تلهث في موعد خططت له منذ سنة !
نظرت إليه محاولا استشفاف ما يدور في باله لكنني فشلت.
- ما آخر أخبار طليقتك ؟ ألن تستسلم و تردها أيها الولهان ؟
- علينا أحيانا أن نقتل أحاسيسنا قبل أن تقتلنا هي .
- هل أنت جاد ؟
- ربما لم أكن جادا مثلما أنا عليه اليوم .. لا تنظر إلي هكذا وانتبه كي لا ترتطم بعمود الإنارة ذاك !
إنها رغبة و سأحققها . هذا ما كان يقوله لي منذ سنة و أنا أحاول أن أبدو بمظهر المتحضر فعلا فلا أسأل عن شيء و لا عن سر هذه الرغبة و كنهها . منذ يومين فوجئت به يطرق بابي ..
- أحمد ! مرحبا ، لم أعتدك زائري في هكذا وقت .
- لنقل أنني لم آت لأزورك بل فقط لأخبرك أن موعد تحقيق رغبتي قد جاء .. يوم الأحد على الساعة الخامسة مساء بالضبط . أرجو أن أجدك بانتظاري كالعادة.
- مهلا ، لكنك لم تخبرني عن المكان .
- حديقة العشاق.
و ها نحن نحث الخطى معا لأرى سر رغبة أحمد هذه و ليرَ هو كم سأنبهر بذلك.
كان منزلا منعزلا ذاك الذي فتح أحمد بابه . في الداخل كان هناك عدد كبير من المقتنيات من الزجاج و الخزف و الخشب .
- ما هذا ؟ هل غيرت هوايتك و أصبحت جامع تحف ؟ أعرف أن لا هواية لك سوى التدخين !
لم يبد عليه أنه سمعني و هو يقوم بترتيب تلك الصالة بلمسات أخيرة .
أخيرا ، ابتعد لبضعة أمتار و سألني :
- ما رأيك الآن ؟
نظرتي الذاهلة، الغبية، المتسائلة ، جعلته – أخيرا – ينتبه إلى أنني لا أفهم شيئا .
قال :
- ليست هذه مقتنيات ثمينة إنها مجرد قطع بالية اشتريتها من سوق الخردة و قمت بتنظيفها بعض الشيء. طبعا لاحظت أن المنزل ككل فارغ من أي أثاث و هذه الصالة لا تحوي سوى ما ترى . هل لاحظت عاملا مشتركا ما بين هذه المقتنيات؟ أرنا ذكاءك هيا .
- لا أكره شيئا في هذه الدنيا مثل هذا النوع من الأسئلة الذي يخوله لك وقوفك خلف المدفع . أنت الآن في موقف قوة . تعلم ما لا أعلم و تحاول أن تبدو أذكى. هذا ليس مقياسا. أنت تذكرني بطفولتي عندما كنت أضع شيئا في كفي و أغلقها قم أبدأ بالسؤال : من منكم يعرف ما في يدي ؟
- حسنا ..حسنا .. أنت جهبذ في الإجابات الملتوية ، لكنك الآن ستشهد على حدث سترويه للجميع و لن تنساه أبدا . أرجو أن تتراجع قليلا. فالعامل المشترك بين هذه الأشياء أنها قابلة للكسر. هل أنت مستعد ؟
أومأت له برأسي أن نعم.
من تحت حصير مهترئ أخرج هراوة حديدية . و بدأ يقوم بآخر شيء أتوقعه ..
طراخ ..آنية تتكسر ..كراش.. مرآة تتهشم .. بوم .. كرسي يتحول إلى فتات ..
لمدة عشر دقائق لم يتوقف أحمد عن تكسير كل شيء بقوة و بجنون لم أر لهما مثيلا حتى أنني أصابني بعض الخوف فاقتربت من الباب تحسبا لأي تصرف أرعن من طرفه.
خيرا ، هدأت العاصفة و جلس أحمد متكئا على الحائط و هو يلهث ..
رجل منهار وسط شظايا أحلام متناثرة .. هكذا بدا لي عنوان اللوحة التي رسمها أحمد لحظتها ..
- يا الله ! كم هذا مريح . أخيرا حققت رغبتي . منذ مدة و أنا أشعر أن هناك ضغوطا أقوى مني .. أحداث قاسية تحيط بي .. كنت أرغب في الصراخ، في التكسير.. لكن أين و كيف و أنا – كما تعلم – أجبن من دجاجة ؟ حسنا .. ربما هذا تفسيري البسيط لما حدث .. ربما هناك دوافع أخرى ، ربما ترغبون جميعا في أن تفعلوا ذلك لكنكم تخافون مثلي. لكنني أختلف عنكم في أنني استطعت أن أحقق رغبتي و إن بهذا الشكل. لقد قرأت شيئا عما قاله أوسكار وايلد عن الفن للفن و ما قاله ليلوش عن الحياة للحياة.أهي إذن رغبة في التكسير لأجل التكسير؟ ربما. لكنني – بصراحة - لا أؤمن بهكذا عبث.
ظللت أنظر إليه لثوان . بدا لي هادئا جدا و مرتاحا . و لنقل إنني لم أكن أطلب أكثر من هذا . هاهو رجل آخر يحقق حلما، و لعل أحلامه تلد لنا أحلاما . من يدري ؟
المهم أنه طلب مني أن أحكي ذلك للآخرين . و ها أنا أفعل ذلك معكم.