عقارب الساعة تعانق الثانية بعد منتصف الليل.
تحاول النوم , فلا تستطيع، تنزعج من الصرير الذي يُصاحب تقلبه على سريره الحديديّ المُتهالك.
بصعوبة تـنهض من سريرها , تنتعل حذائها الرث وتتجه نحو حجرته المجاورة.
ظلامٌ مُخيف يجثم على أرجاء الشقة , وخطوط النور تزحف من تحت باب غرفته.
صوتٌ مزعج يُصاحب فتحها للباب , تقترب منه وتهمس بصوتها الحاني: -          سالم , ابني العزيز , مالك لم تنم بعد ؟

-            وهل استطيع النوم ؟ ألا تعلمين يا أماه بأن نتائج الاختبارات النهائية قد تخرج في أي لحظه !

-          لا تخف يا بُنيّ أمثلُك يعتريه القلق من نتائج الاختبارات , تاريخك الدراسي ولله الحمد يشهد لك بالتفوقِ والتميزِ والدرجات العُلى

-          ولكنها السنة النهائية , يا تـُرى هل ستتحقق آمالي أم ستخيب , كم من الدرجاتِ حصدت ؟ هل سأحصل على المُعدل الذي يؤهلني لدراسة الهندسة الذرية , هل سأصبحُ عالمًا فريدًا في دولتنا ؟ , لا استطيع أن أكف عن التفكير , كلما أغمضت عيناي رأيت النتائج مُعلقة على جُدرانِ المدرسة .!

 

تقترب منه وتجلس بجانبه على طرفِ السَرير , بيدها الدافئة تداعب خصلات شعره قائلةً :

-          سالم , سالم  , نـُم يا حبيبي ولا تخف , استعذ من الشيطان وتأمل كلَ خير , قد أكثرت لك الدعاء والتضرع للمولى عز وجل , وأنا موقنةً بالاستجابة , ألا تذكر تلك الليالي التي سهرتها معك وأنت تستعد للامتحان , وكل تلك الأوقات التي أفنيتها في الدراسة والمُذاكرة ؟ أتضن بأن الله سيخيبك بعد كل ذلك ؟

-          نعم أذكر أذكر أذكر ..

تَمسحُ على رأسه , تتلو بعض الآياتٍ القرآنية  وتدعو الله , يتمتم هو ببعض الكلمات المتقطعة والغير مفهومة ,  يردد – امتحان , نجحت , رسبـ .. , أ أأ .. –

تُرصعُ جبهته بقـُبلتها العذبة بعدما تأكدت من ولوجه في النوم .

 

 تُعودُ إلى غرفتها وترتدي ثوبها الابيض الملائكي لتتبتل إلى الله , تفرش سُجادتها على الأرض , تطيل النظر إليها وتتنهد بعمق , تسترجع الذكريات الجميلة .

-          آآه , تلك الأيام ليتها لم تُغادرنا , ليتها كانت حاضرًا لا ذكرى !

زوجي العزيز رحمك الله , مازلت أذكر الرحال التي شددناها لزيارة البيت العتيق , ومازلت أحتفظ بهذه السُجادة التي أهديتني إياها بمُناسبة أدائنا لمناسك الحج , كُلما وضعت جبهتي عليها رويتها من دموعي , ودعوت الله تعالى أن يجمعني بكَ في جنانٍ وارفةِ الظلال , زوجي العزيز , ها هو ابننا وقُرت أعيننا قد أنهى سنواته المدرسية , ليتك كنت بجانبي لتشاركني الفرحة بحفل تخرجه , أتعلم .. قد أصبح رجلاً وسيمًا يُشبهكَ حين تقدمت لخطبتي !

تبتسم بألم .. ترفع يداها بصعوبة لتُكَبِر , وتبدأ بالصلاة

 

الظلام بدأ بحزم أمتعته والمغادرة , فقد طردته أشعة الشمس من سماء القرية ,

عقارب الساعة حَطت رِحالها عند أعتابِ الخامسةِ صباحًا .. صوتٌ مُرتفع !

-    لا لا , إنها ليست درجاتي , ليس أسمي المُدون هنا , لم أرسب لم أرسب , لن أعيد العام الدراسي !

صرخاتٌ مُدويّة تهزُّ الجدُران من حوله

-          أين ! أين أنا , يااه حمدًا لله لم أزل في سريري , ياله من كابوسٍ  مريع !

يلحظ أشعة الشمس المتطفلة من بين الثقوب التي تملأ ستارة شرفته , يبحث يُمنةً ويُسرى عن ساعته فلا يجدها , تقع عيناه عليها مُلقاةً في زاوية الغرفة , ينهض مُسرعًا باتجاهها

-          إنها الخامسة لماذا لم يتصل أحمد ليوقظني من النوم , ؟ تبًا , لقد نسيت أن هاتفنا مقطوعٌ عن الخدمة , كيف كيف استلمت للنوم !!

النتائج ! نعم نعم بالتأكيد قد عُلقت على جدران المدرسة ..

يُسرع بارتداء حذاءه ويهرول نحو الباب , يَقفزُ على السلالم ليتجاوزها كما يتجاوز الزمن الذي يفصله عن لحظات الوصول !

يتعثر بنهاية الدرج ويسقط

-          سُحقًا لهذه العِمارة , أوليس فيها حجرًا سليمًا !

يحمل نفسه , يتجاهل الألم الذي في ساقيّه , يقفُ للحظات ..

سكونٌ مُهيب , يفرض سطوته على طُرقاتِ القرية , وكأن الحياة قد احتبست أنفاسها في عوالم الصمت ..

يُزلزل ذلك السكون بوَقْعِ خطواته المُزعجة , يمشي مُتثاقلاً بسبب الألم , يرى الطريق طويلاً والوقت كالسُلحفاة !

يهرّول , يحاول اختصار المسافات ومُسابقة خطواته , يجري فوق هامات الزمن ليقتحم اللحظات المُقبلة , يدوس بقدميه الخطوات ليسحقها !

تـَقِل , تَقِلُ أكثر , تتلاشى وتنعدم , هاهو يقف أمام البوابة مُتسمرًا , تتخطفه الظنون , وتملأ رأسه التوقُعات , يحاول طردها , ويتقدم للداخل ..

يُذهله ذلك المنظر , يقف حائرًا بوسط الزحام , أوراق النتائج لا تكاد تُرى من سواد الرؤوس , يحاول إقحام نفسه بين تلك الكُتل البشرية , ولكن دون جدوى , فذلك يدفع بيَديّه وهذا يجر الآخر من قميصه , والجميع يتدافعون بقوة لرؤية الدرجات .

ينزوي عنهم بعيدًا حتى يخف الزحام , يُراقب الوجوه وما يرتسم عليها من تعبيرات ..

هذا احمد إنه فرحٌ مستبشر الوجه , وذاك خالد يحتضن أبويه من فرط السعادة , وهناك محمد يجري مُتهللاً سعيدًا نحو منزله ..

من يكون ذلك الفتى ؟

إن قسمات وجهه تومئُ بالحزن والخذلان , وصاحبه بجانبه يُقاسمه ذلك الإحساس المُرعب , يا تُرى كيف سيكون حالي بعد رؤية النتيجة , هل سأكون مثل احمد وخالد ومحمد ؟ أم سينتهي بيّ المطاف غرقًا في دموع الألم ؟

- خواطر كانت تعصف بسالم في تلك اللحظات -

لحظات الانتظار ثقيلة , تدُق نواقيس القلق مع نبضاته , يترقب رحيلهم , ليدنو ببطء من قدره الذي كُتب هناك , وأخيرًا , هاهو يقف بين تلك الأسماء والأرقام , لا يحول بينه وبين اسمه سوى البحث !

يبحث مرة , مرتان , يكرر البحث , لا يجد اسمه !

- تبًا , تبًا لهم , أين أنا , أين اسمي , أين درجتي , أين الليالي التي قضيتها بالسهر , وكل تلك الكُتب التي حفظت تعرجاتها ونقوش أوراقها !

يضرب الجدار بقوة ,

-          سالم , ما بكَ يا سالم , أجُننت ؟

-          أحمد , كيف أنت يا صديقي , مُباركٌ لك ما جنيت من نجاحٍ وتفوق , ولكن أين اسمي , لا أجده هنا

-          هههه , بالطبع لن تجده , إنه هناك في قائمة الأوائل , ينتحل شخص الوصيف , وينالُ شرف المركز الثاني ..

-          يااااه , أحقـًا ما تقول ؟

ينطلق بسرعة نحو القائمة الأخرى , يُكذب عينيه , يفركها مرةً تلو أخرى , يقفز , يقفز للأعلى , يكاد يفقد صوابه من الفرح , يحتضن زملاءه , يُصافحهم يهنئونه , يحملونه على الأكتاف , وينثرون التهاني حوله ..

من بين صخب الفرح وضجيج الضحكات , تطل عليه أطياف أمه , يُصغي لهمساتها الحانية , ويتذكر دعواتها الخاشعة , يترك هذا العالم ويجري ليحتضن قلبها الذي يهتف له .!

الطريق نفسه الذي جاء منه , كان رماديًا , صامتًا , وموحشًا لدرجة الاحتضار , ولكنه الآن يتراقص , يُغني ويتمايل طربًا , اكتسى أكاليل الزهر , وتحلّى بعقودٍ من الأمنيات ..

يقف أمام العمارة , يُعانقها كما عانقته منذ مولده , يُقبل بوابتها ويُحلق فوق سلالمها , يُمسك بخيالاتِ أمه , ويزفها سعيدةً مع الخبر ..

يقف أمام باب شقته , يحاول أن يجد عبارةً يبدأ بها الكلام , يُقلب الكلمات في ذهنه , يُحاول ترتيبها وتنميقها , يقترب بخطواتٍ هادئة حتى لا يوقظ أمه , يصل إلى غرفتها ويتعجب من النسمات الباردة التي تخرج منها ,

- لماذا يطل زمهرير الشتاء من غرفة أمي ونحن في لهيب الصيف ؟

يدخل الغرفة , فيجد أمه نائمة على سُجادتها , يبتسم

-          أمي , ما أروعك , كالملاكٍ تنَزَّل من السماء أنتِ

يقترب منها , يُقبل رأسها ويهمس لها :

- أماه قومي , إن النوم على الأرض يُتعب جسدَكِ المريض , أمي , أمي كم مرة قلت لكِ لا تنامي على الأرض

يهز كتفها بلطف , ويُداعبها :

-          أماه , إن قمتي الآن فستسمعين أروع خبرٍ في حياتك , قومي لأخبركِ فأنا لا أطيق أن اكتمه أكثر وأحرمك من هذه الفرحة ,

أمي لماذا لا تجيبين , لماذا أنتِ نائمة , استيقظي , أريد أن اسمع أنفاسك لماذا أوقفتها , افتحي عينيكِ , أنظري للفرحة التي تسكُن عيناي , شاركيني البسمة في شفتي !

لا , لا , لم يحن الوقت بعد , لم تقومي بوداعي قبل أن ترحلي , أماه أنتِ لم ترحلي .

يلقي بنفسه على جسد أمه المُمدد فوق السجادة , يقبلها بقوة ويُبلل ثيابها بدموعه , يبكي بحرقة , بألم , بمرارةٍ وحزن , يرثي فرحه الذي اُغتيل على يد الموت في مهده , وعاجله القبر في صباه , يرتفع صوت بكاءه ونحيبه , يجتمع الجيران حوله , يضربون كفًا بكف , وتردد ألسنتهم – لا حول ولا قوة إلا بالله , إنا إلى الله وأنا إليه لراجعون –

 

تمضي أيام العزاء ثقيلة ً مُتباطئة , تجرُ لحظاتها جرًا في هاوية الألم , ساكنة ً بلا روح , صامتة ً بلا همس , مُريعة كالكابوس الأسود , تنهش بقلبه الصغير , وتغرسُ الحزنَ والوحدة َ في حياته .

.

.

يتمدد على سرير أمه , يندس تحت غطائها ويستنشق عبقها الذي مازال  يملأ الغرفة , ينبش في ذكرياته ويصرخ

-          ذلك المرض اللعين , الحقير , سرق أبي من أحاضنها , وسرقها اليوم من حياتي , ومن يدري من سرق غيرهما ! , وكم سيسرق ويسرق من أنفاس !

أمي لا تحزني , نامي في عالمكِ الآخر قريرة العين , ومرتاحة البال , أنا هنا مازلت أتمرغ في هذا العالم , أقدم له التنازلات  وأخضع لأقداره , أتعلمين يا أمي , لن أحقق حلمي وحلمكِ وحلم أبي , لقد تخليت عنه !

لن أخوض مجال الهندسة الذرية , ولن أصبح عالمًا يندر وجود مثله , سألتحق بحقل الطب , سأنتقم لكِ ولأبي , سأنتقم من ذلك المرض الحقود , الذي يتصيّد الأرواح الطاهرة , فلا تقوى مُصارعته والقضاء عليه .

.

.

تنقضي أيام العطلة الصيفية كئيبة , يتنقل فيها بين الوحدة والذكرى والتفكير , التفكير الجاد بالانتقام والأخذ بالثأر !

قرأ العديد من الأبحاث عن ذلك المرض , ووقوف كبار الأطباء عاجزين أمامه بكل ما آتاهم العلم من أدواتٍ وأجهزة وتطوّر , استسلموا له , وتخاذلوا أمامه , وانكسرت جهودهم الجبارة أمام سطوته وجبروته ..

 

بدأت فترة التسجيل في الجامعة , قدم أوراقه للدارسة في قسم الطب , فقـُُبل على الفور , ومنذ أول يومٍ دراسيّ لاحظ الجميع ذكاءه وفطنته , وسرعة بديهته وقدرته الرهيبة على الحفظ والاستنتاج , مرت أيام الدراسة بالجد والاجتهاد , كان يحصد إعجاب وتقدير الجميع كما يحصد أعلى الدرجات والمراكز , أصبح مُقربًا من أساتذته , ومتفوقًا عليهم في بعض الأمور , لم يكتفي بالمناهج الدراسية , بل عكف على دراسة آخر المستجدات في الطب العالمي , والاطلاع على أحدث التقارير خصوصًا المتعلقة بذلك المرض , فثورة الانتقام مازالت تغلي في صدره ولم تهدئ قط !

كانت صورة أمه الأخيرة حاضرةً في ذهنه دائمًا , وتأوهاتها المؤلمة تتردد في أذنه طوال الوقت ..

حاول إجراء بعض التجارب على المرض في الجامعة , ولكن جميع محاولاته باءت بالفشل الذريع , وعانى كثيرًا من استهزاء زملاءه , كما عانى كذلك من نقص التجهيزات وقلة كفاءة المختبرات ,

- أستاذ عمر , أنقذني أرجوك , أكاد أجد الدواء الذي يُعالج ذلك الداء المُستشري , ولكن , ولكن هنا هنا يختبئ سرٌ غامض , أرشدني أرجوك

- ياسالم , كُف عن التفكير بذلك المرض , لقد أعّيا كبار العلماء قبلك , فهل ستجد الإجابة عندي أو في عقلك ؟

- يا ليتني أملك المال للسفر والدراسة في إحدى الدول الغربية , أريد أن التقي مع ذلك العالم الكبير , أتمنى لو أجابني على التساؤلات التي تشل فكري , وأرشدني إلى بعض المعادلات الغامضة , إنها كالضباب تمنع الفهم عني !

- لا تقلق ياسالم , اجتهد الآن , لم يتبقى أمامك سوى سنتان , لتنهي دراستك بمعدلٍٍ مرتفع , وتبعثك الدولة للخارج .

لم ييأس , استمر بالتفكير في إيجاد العلاج , أفنى أوقاته بين جدرانِ المختبرات , أصبح نحيل الجسد , مُصّفـَر الوجه , غائر العينين , تحيط بهما آثار السهر وتحاصرهما باللون الأسود ..

يعود لشقته , فتحكي له تشققات الجدران عن هول الألم , وتصحبه الوحدة إلى وسادته !

 

كزحف الجبال , انقضت سنوات الدراسة , الجميع مُستعد لحفل التخرج والتكريم , كل زملاءه جاءوا بصحبة أهلهم ورفاقهم , وجاء هو بصحبة طيف أبويه وذكراهُما .

يُنادى باسمه مسبوقًا بلقب الأول على الدُفعة , يتقدم بخطواتٍ باهته , يجبر شفتيه على الابتسام , يفكر بأمه ,

-          لماذا لستِ معي الآن , يا تـُرى , هل تطُلين عليّ من هناك  ؟

 

 

 

  تخلو القاعة من صيحات الفرح وأهازيج السعادة , لاشيء سوى تصفيقٌ رتيب , مُجاملةً له !

 

ما إن استلم شهادته حتى طار بها إلى إدارة البعثات الخارجية , قدم طلبًا وحدد موعدًا للمقابلة , يدفع الأيام دفعًا ليحين الموعد , يستعد , ويسترجع كل معلوماته للمُقابلة .

مجموعة من الأسئلة , وإجاباتٌ مميزة منه , تدل على حدة ذكاءه وتفوقه

-          مبروك , ستكون في كندا بعد شهر

تلك العبارة , حملته في فضاءات الأماني والأحلام , ترددت في ذهنه مئات المرات إلى ان وصل لشقته , أخذ بالدوران , القفز , ردد كُل اغنيات النجاح , حمل بيديه وسادةً وأخذ يرقص معها , بينما هو في نشوته , سقط نظره على صورة أمه المُتشبثة بصدر الحائط وقد اعتلاها غُبار السنين .

-          أمي , أمي , أخرجي من ذلك البرواز الأثريّ , تعالي لنحضن هذا الحلم معًا , تعالي نتقاسم الضحكة , اسكني في ذاكرتي خالدةً مُخلّده , ها أنا يا أمي أقترب من قاتلك , أوشك أن ألف حول عنقه حبل المشنقه !

 

.

.

 

يحزم أمتعته ويستعد للسفر , يضع صورة أمه في أعلى الحقيبة ويُغلقها , يرمق الشقة التي ترعرع فيها بنظراتِ الوداع , يلوّح بنبضاته لكل تلك الزوايا التي احتضنت ذكرياته , يطل على غرفة أمه فيخالها تُصلي على سجادتها بكل طُهرٍ ونقاء , يمسح دمعته , يدير ظهره , ويُغادر الشقة ..

صمتٌ وتأمل , تملّكاه إلى آخر لحظة , لا يقطعهما سوى صوت مُحرّك الطائرة ,

-          مرحبًا بك سيدي على متن خطوطنا الجوية , أترغب بوجبة العشاء ؟

-          لا شكرًا , أريد غطاءً لو سمحتي

-          بكل سرور , تفضل

-          شكرا !

يُغمض عيناه , ويستسلم لقارب الأفكار , يبحر به في محيطات الذكرى وبحار المستقبل المجهولة , انتهت الرحلة , واتكئت الطائرة على اليابسة ..

عالمٌ جديد , يراه لأول مرة , لم يسبق له رؤية أجناسٍ بشرية بهذا التنوع والاختلاف , بل لم يسبق له قط مُغادرة قريته الصغيرة , إلا مرة واحدة عندما زار صديقًا له في القرية المُجاورة !

.

.

استأنف دراسته الجديدة في جامعة من أكثر جامعات العالم تميّزًا ورُقيًا , يجتمع في أروقتها عباقرة العالم , وتحتضن في قاعاتها صفوة العلماء والباحثين ,

وسرعان ما أوجد لنفسه مكانةً كبيرة في وسط هذا الزخم الثقافي المُتألق , أعجب به أساتذته أيما إعجاب , وأبهرهم بنتائج أبحاثه السابقة التي أجراها في دولته , فهي تكاد تجد العلاج وتقترب منه

وفي إحدى الليالي التي اعتاد أن يقضيها في المختبر عندما يخلد الجميع للنوم والراحة , دخل عليه استاذه الكبير على كرسيٍ مُتحرك وتعجب من سهره إلى هذه الساعة المتأخرة

-          مالك يا سالم لا تُفارق هذه المُركبات والأنابيب والمجاهر !

-          لن أفارقها أبدا حتى أحل اللغز واجد الدواء , أستاذي الكريم , لقد جئت في الوقت المناسب , ما أحوجني إليك في هذه الساعة , ماذا لو استخدمت المركب الأحمر في بحثي السابق بدلا من ذلك الذي استخدمته ؟

-          امم , لا لا لن يمتزج بالصورة المطلوبة , ولكن سأطلعك على سر , أخفيته عن الجميع , وعاهدت نفسي على ألا أبوح به إلا لمن يستحق , ولن أجد أجدر منك للاحتفاظ به والعمل عليه .

-          يااه , لقد أشعلت قلبي اشتياقا وفضولاً لمعرفته , فما هو ؟

-          إن الدواء الذي نبحث عنه منذ أعوام , عثرت مُصادفةً على نصفه , ولكنني عجزت عن إيجاد الشق الآخر , وها أنا أجده اليوم في أبحاثك وتجاربك , فخذ مني خلاصة خبرتي وتجاربي , وأضفها على بحثك الأخير , وستجد الدواء حتمًا , فأنا كبرت كما ترى , وأراني عاجزًا عن إجراء المزيد من البحوث والتجارب , سأذهب الآن , وسنرى غدًا نتيجة التجربة ..

 

 

 

 

امتلأ قلبُ سالمٍ فرحًا , ورأى الأحلام تتحقق أمام عينيه , وأخيرًا , هاهو يُداعب هدفه ويُلامسه !

قام بخلط المُركبيّن , واحتفظ بالزجاجة إلى يوم الغد , عاد إلى منزله وارتمى على سريره , بدأ بالتفكير ,

-          يااه , كل ذلك التعب , السنين , العمل , التجارب والأبحاث , الغُربة والوحدة والأحزان , لا طعم لهم , لا وجود , المشاعر الحجرية التي رافقتهم بدأت تتلاشى , لا أشعر بها , لا أرى سوى فراشات الحلم الزهريّة تُداعب ربيع عُمري وتحضن أزهاره .

 

أطلت الشمس بضيائها , وأيقظت الحياة في المدينة , ارتدى ملابسه وذهب مسرعًا إلى المستشفى , قدم بحثه والمركب الذي أنتجه إلى رئيس المستشفى , الذي ذُهِل مما رأى , اثنى على مجهوده وشجعه , قاموا بتجربة الدواء على مريضٍ مُتطوع .

كان سالمٌ مُرتبكًا جدًا خلال فترة العلاج , لا يشغل تفكيره سوى النتيجة , أتكون كما يُريد , أم تخونه كما خانته الأيام الماضية , النتيجة هي من ستحدد مستقبله , لقد أعياه التعب وتمكن منه الإحباط , قرر أن تكون هذه آخر تجربة , إن فشلت فسيعود لوطنه مُحمّلا بالخيّبة والمرارة , وإن نجحت فسيُرصع هذا الإنجاز اسمه بجانب الثُريا ..

أيامٌ مُمِلة , أيام الانتظار !

ولكن النتيجة كانت اختفاء المرض والقضاء عليه بعد أسبوعين من العلاج .

كاد أن يسقط مغشيًا عليه عندما تلقى الخبر ,

-          معقول !! لا أصدق , كيف , كيف نجحت , أهي مُعجزة أم مُعجزة , لست أفهم

يا رب , يا رب حمدًا لك ,

أمي , ها أنا قد أوفيت بوعدي , فلتهنئ الآن رفاتك في القبر , وروحكِ في العالم الآخر !

سأنتقم من المرض الذي أبعدكِ عني

لا يتمالك نفسه , يقفز داخل سيارته , وينطلق بسرعة جنونية إلى منزل أستاذه الكبير , يقرع الجرس , يضرب الباب بقوة , يركله , يصرخ مناديًا

-          لماذا , لماذا لا تفتح لي الباب , أنه أنا , أنا سالم , لقد نجحنا لقد نجحنا أخيرًا , تحقق الحلم الذي راودنا لسنوات

يطل عليّه أحد الجيران من المنزل المجاور ,

-          لقد أزعجتنا وأقلقت راحتنا , أصمت , الأستاذ مات فجر اليوم وحملته سيارات الإسعاف إلى مثواه الأخير

-          مستحيل ! كم أكره الموت الذي يسلبني شَطر أحلامي !!

.

.

هزّة علمية عنيفة عمت أرجاء العالم , شابٌ عربيّ يكتشف علاجًا أعجز عباقرة الطب وفطاحلته , صغيرٌ بالعمر , ولكن بعقله ثروة علمية لا تقدر بثمن , انهالت عليه الجوائز العلمية , والإكراميات والهدايا والعروض , تتخطفه المؤسسات العلمية من كل جانب , صوره تصدرت الصفحات الأولى من الجرائد , وتوالت عليه العروض التلفزيونية من كُبرى المحطات , الكل يتقرب منه ويحاول شراء اكتشافه ..

 أدار ظهره لكل ذلك , وأبتسم أمام شاشة التلفاز حيث شاهده الملايين وقال

-          حلمي قد تحقق , وأوراق اكتشافي سأحملها وأعود بها إلى وطني !

 

يجمع بريق إنجازه , ويُلملم عظمة اكتشافه , يزج به داخل حقيبته ويركب الطائرة , مرة أخرى يغمض عينيه , ويفكر بالمستقبل الذي ينتظره هناك , يحلم بجمعٍ غفير من الناس يملئون قاعات الاستقبال في المطار , يهتفون باسمه ما أن يطأ برجله أرض الوطن , مُكافآت وترقيات ومناصب , تهاني تملأ صفحات الجرائد , وأخبار تعصف بالمحطات المحلية , لقاءات وندوات واحتفالات , يبتسم ويغطُ في نومٍ عميق ,

يستيقظ على أصوات الضجيج وتدافع الناس للنزول من الطائرة , يتمدد بنشوة , يُسرع بالنزول ليستنشق هواء

وطنه العذب .

-          وطني , خمسُ سنواتٍ مضت ولم نلتقي , أتراك مُشتاقٌ للعناقِ مثلي ؟

ها أنا عُدت لكَ ابنًا بارًا مُحبًا , أريد أن أُقبلَ ثراك , وأحتفي بهوائك , عُدت لك مُحمّلاً بغنيمةٍ ثمينة , أعليت بها شأنك بين الأمم والديار ..

 

 

يدخل إلى المطار , يختم جوازه, يحمل أمتعته وحقائبه , ببطء يتقدم نحو قاعة القادمين والأفكار تتزاحم في ذهنه , يُفكر كيف سيتصرف إن طلب أحدهم التصوير معه , أو عاجله صحافيٌ بسؤالٍ عن اكتشافه , أو أهدته طفلةٌ جميلة باقةً من الأزهار , يقف أمام الباب الكهربائيّ مُغمضًا عينه , يفتحها فيجد القاعة كما توقع تعج بالمستقبلين , ينزل رأسه تواضعًا ويتقدم , يتقدم , يتقدم ..

-          أين المُهنئين , أين أضواء المصورين وأوراق الصحفيين , أين الجمهور الغفير الذي احتشد لاستقبال العالم الشاب المُكتشف !؟

ياااه , ربما لم تعلم الصحافة بمجيئي , أو أن أخبار اكتشافي لم تصل لهذا العالم الثالث !!

كل من نزل معي من الطائرة , يجد أشخاصًا يستقبلونه ويفرحون بمجيئه ,  ولكن .. لا أحد بانتظاري , لا أحد يشاركني فرحة المجد الذي جلبته لوطني , ماذا لو كنت مُغنيًا وأحرزت جائزة في إحدى المُسابقات الغنائية , أكنت بهذا الحال !؟

بينما هو يغرق في أعماق حزنه وتساؤلاته يلمح في آخر القاعة  شخصان ينظران إليه ويتهامسان , يقتربان منه ويسألانه باللغة انجليزية

-          عذرًا سيدي , لقد رأيت صورتك في إحدى المجلات الأجنبية  , ولكن لا أذكر بالضبط ما هو الخبر , أأنت الممثل الجديد الذي  سيشارك في بطولة أقوى أفلام هذا الموسم ؟

-          ههه !! لا بل أنا إنسانٌ عادي , عاديٌ جدًا في هذا البلد !!

ترتسم على شفتيه ابتسامة ساخرة , يتركهما ويمضي في طريقه , يمتلئ ذهنه بعلامات التعجب والاستفهام .!

يركب سيارة الأجرة عائدًا إلى شقته القديمة , يتأمل هذه الطُرق التي غاب عنها لسنوات , يسترجع ذكريات صباه السعيدة , ذلك الحائط الذي كان يختبئ خلفه عندما يهرب من عقاب والده , والدكان الذي لطالما سرق منه قطع الحلوى , هناك .. تلك الساحة الترابية التي قضى فيها أمتع الأوقات مع رفاقه , يتساءل أين هم اليوم , وفي أي اتجاه ألقت بهم الحياة ؟

تُداهمه ذكريات الألم عندما تقف السيارة أمام باب العمارة , يتسمر كجذع نخلةٍ نخرت بأجنابه رياح السنين , كأنه لم يُغادرها إلا بالأمس .. وكأن تلك السنين مُجرد لحظاتٍ عابرة كلمح البصر !

يحمل خطواته المتثاقلة على السلم , يفتح باب شقته التي ملئها غُبار النسيان والإهمال , يجوب بنظره أرجاءها ويهمس لها بلطف

-          ها قد التقينا مُجددً

يشعل الأنوار ويستلقي على الأريكة , يبدأ التفكير بجولة الغد , سيعرض اكتشافه المُذهل على المؤسسات الطبية الكُبرى, سيحصل على الموافقة العاجلة , مُكافآت كبيرة سيتلقاها من أعوان الدولة , ورعاية خاصة ستُعطى له للمزيد من الاختراع والبحث ..

لا ينقطع تفكيره إلا مع بزوغ الشمس , يرتدي ملابسه , يحمل أوراقه ويخرج ليبدأ المشوار ..

يصل قبل المُدير , ينتظر , ينتظر , لا يأتي إلا بعد الساعة العاشرة , ويرفض استقباله لحين انتهاءه من قهوته وقراءة الجريدة !

يدخل عليه بعد انتظار طويل , يخبره بكل فخرٍ واعتزاز عن اكتشافه

-          نعم نعم , لقد قرأت عنه قبل أسبوع في إحدى الصُحف , خبر معدود الأسطر , عن شاب عربي يتكشفُ دواءً لمرض العصر , يسرني لقاؤك , امم لدينا وظيفة شاغرة لطبيب في قسم الأورام , أتراها تناسبك ؟

-          لا بأس , ولكن لم آتي للتقديم على وظيفة , بل للبحث عن مؤسسة تحتضن اكتشافي وتقوم بتصنيع الدواء وتوفيره للمرضى , أتعلم , هذه الصفقة ستدر الملايين , لقد حاولت معي كُبرى المؤسسات الطبية في الخارج ولكنني رفضت .

-          هاهاهاها , ماذا , ماذا قلت , عرضوا عليك ورفضت ! أتراني مجنونًا لأصدق ما تقول , يا بُنيّ أنظر لحداثة سنك , وقلة علمك , أنت بحاجة للدراسة سنوات وسنوات , والخبرة العملية كذلك , وإن كان اكتشافك نادرًا ومُهمًا , أتظن بأن لدينا مختبرات ومصانع تستطيع أن تُنتجه أو شركةً تقوم بتبنيه ؟

-          شكرا لك , سأبحث عن مكانٍ آخر , وشخصٍ آخر يُقدر العلم ويحترمه !

-          لا تجهد نفسك , لن تسمع غير ردي هذا !

يخرج من عند المدير , يتذمر ويتأفف من هذه المُعاملة السيئة , والرد الغير متوقع إطلاقًا !

يطرق أبوابًا أخرى , فتوصد في وجهه , ويُرد عليه بنفس الرد , عذرًا لا مكان لك هنا, ولا مجال لتبني اكتشافك ..

يعود لشقته , ولآخر مرة !

يفكر .. يفكر .. ويفكر لأيام وساعات مُتواصلة , قرارٌ أخير لن يتنازل عنه , يحزم أمتعته , يجمع أوراقه , يلملم شتات يأسه وحزنه , يركب الطائرة , يصل  ليوقّع العقد مع الجامعة التي درس بها في الخارج فقد قررت احتضان اكتشافه !!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية