غريبة؟!
لا، ليست غريبة، بل مدهشة..
لقد استطاعت تلك المرأة الريفيّة البسيطة أن تتفوَّق على الرجال، وتجعل من عظيم شأنها أنموذجاً تستقيه الأنفس التوّاقة؟ نحو السناء الوارف، وغدت سيرة عطرة تتطيب بها الألسن.
لا، ليست المرأة بهذا الوصف.. بل هي أكبر من ذلك.
بإرادة فذّة وإصرار فريد جمعت أكثر من مليون دولار بعد حملة قادتها في بلدتها والبلدات المجاورة وساندتها مجموعة من النساء الثريات، فهي كانت معروفة في ذلك الريف البعيد وجميع النساء يثقن بها وبأخلاقها. حَمْلتها لجمع التبرعات كانت واضحة.. "ادفع دولاراً تنقذ إنساناً"، وذلك بعد أن تناهى إلى سمعها بأن هناك جماعات إرهابية غريبة تجمع التبرعات تحت شعار "ادفع دولاراً (تقتل) مسلماً".
كان هدفها نصرة "الإنسان" في الشيشان بعد أن انقضَّت عليه جيوش التركة الشيوعية البغيضة لتفتك بهم وتدمر مقدساتهم وتعتدي على نسائهم وتشرّد أطفالهم وشيوخهم.
فهل كان تصرفها غريباً ومدهشاً بحق؟!
لا على العكس من ذلك تماماً.
فزوجها الطبيب كان على رأس فريق طبي يدخل المناطق المحاصرة، تطوُّعاً، غير هيَّاب للمنايا، وكان الفريق طليعة الفرق الطبية العالمية التي تطوَّعت من بلاد شتى لنصرة "الإنسان" في الشيشان.
زوجها دخل حقل الألغام بقدميه، لم يرغمه أحد، عرَّض حياته للموت، خاف على زوجته يوم أخبرها عن قراره.. لكنه لم يفاجأ من موقفها المؤيد والمؤازر.. "اذهب يا زوجي ولكنني حزينة لأنني لن أذهب معك"، قالتها بغصَّة بالغة.. وصدق.. وحرارة..
ابنهما الشاب كان في المرحلة الثانوية، كان فخوراً جداً بوالده.. تنازل عن مصروفه الخاص من أجل ضمه إلى التبرعات التي جمعتها أمه.. وقام هو أيضاً يحمله داخل مدرسته، وأيَّده في ذلك كل طلاب المدرسة من الابتدائية حتى الثانوية.
واتسعت الدائرة.. كانت مثل وباء استشرى، أو نقطة ماء سقطت، فأتبعها سيل عرم.
هل اكتفت هي وابنها الوحيد بذلك؟
لا.. أبداً.
كانت مصرّة على اللحاق بزوجها العزيز.. تاقت مثله إلى نصرة النساء في أرض تحترق.. فهي أيضاً مثل زوجها طبيبة، ونساء الشيشان وأطفالهن بحاجة إليها.
فجأة.. وبعد اتصالات كثيرة جاء من يزف إليها النبأ: "هيئي نفسك.. قبلت للذهاب إلى الشيشان ضمن فريق طبي"..
أصرَّ ابنها على الذهاب معها، فهو ذو خبرة جيدة في تضميد الجراح وبإمكانه نقل المصابين وتوزيع الطعام.. وافقت الأم دون تردد.. "فالابن سرُّ أبيه".. وسافرا معاً، كانت فخورة بابنها مثلما فخرت بأبيه، قالت له كما قالت لأبيه من قبل: "كنت سأحزن كثيراً لو تقاعست عن واجبك المطلوب منك".
لملمت حاجاتها.. ودَّع أصدقاءه.. وسافرا على أول طائرة..
تذكَّرت كل ذلك.. وجالت بفكرها بكل خشوع حول ما رصدته من دمار وأشلاء وجراح وموتى.. وأفاقت على صوت المذيع يعلن في مطلع نشرة الأخبار، أن العالم كله انتفض من أجل تماثيل "أفغانستان"..
من أجل كومة من أحجار قلبت شفتيها بأسى..
نظرت إلى مكتب زوجها في ركن من أركان المنزل وتنهدت أمام ولدها الذي كبر ودخل كلية الطب.. قائلة: أين كلّ هذه الحميَّة كانت عندما سالت دماء الأبرياء؟!
ابتسم الشاب وقال لأمه بفخر: أبي الشهيد الراقد في أرض الشيشان أفضل من كل هؤلاء، حبذا لو نصروا أطفال ونساء وشيوخ الإنسان في الأرض.. بدل التباكي على صخور لا حياة فيها.
ضحكت الأم من أعماق قلبها.. ألم تقل قبلاً: "إنّ الابن سرُّ أبيه".

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية