تجمّد الليل فوق خده الأيمن ، دمعة ، كذلك السكون ، الدمعة صرخة ، والصرخة صفعة في بركان ناضج ، كان الإنفجار شظايا من الخوف والفزع ، وانشطرت الرؤيا دروباُ قاتمة ، تاهت فيها انتقالات الخطى ، تحت جلده اشتعل الخدر وفي كعبيه تثائب الشلل ، تذلل الفتى أمام ازدراء الجدران واختفى في عظامه ضبع مندحر ، سار بلا رأس يفقه الفكرة ، الجدران تبصق في قفاه ، لعابٌ ، صراخٌ ، جحيمٌ ، .... ، همس في ذاته : " إصفع ، إصفع بي أيّها الليل المملوء عِبر ، لعل الثور المتغابي يفهم " ، .. كان الانفجار هائلاً في تلك اللحظة ، شُلّت الذاكرة ، سقطت في سلة النسيان ، في رأسه أسئلة حائرة ، لم يلتفت إلى جوابها ، الجواب المنفلت في شدّة الانفجار ، جرى بين قباب المدينة المعلقة كثريا في السماء ، ترك قدميه تتدلى فوق درجات السلّم المحطمة ، نزولاً في الهواء ، تدك سمعه لعنات الفم الغاضب ، في غرفته المزروعة بالكآبة ، فكّ ربطة عنقه ، شعر بجسده المائع يهوي خلف قدمية ، يُسكب في فراغٍ ضاوٍ بين مسامات العتمة ، كل هذا لم يره من قبل ، لم يسمع به .

أراد أن يقول شيئاً ، رفع رأسه ، كانت الصفعة موت الحروف ، ومثل كلب مهزوم ، كنس ذاكرته ومن جديد هيّأ نفسه ، أراد أن يقول شيئاً ، رفع رأسه ، ربما كانوا ثلاثة وهو رابعهم ، وربما أربعة وهو خامسهم ، لايهم ، إقتربت الكؤوس من بعضها ، كان خارج دائرتهم ، أمال رأسه إلى الخلف قليلاً ، استدرج الفكرة التي تمارس مخاضها ، لحظات صامتة ، شرع ماء وجهه يتململ ، توسّلها ، لم تخرج ، كانت بيضة كاذبة وتخلخل في ضغط الدماغ ، تراخت يده ، تركت الكأس ينقلب ، ابتسم رفاقه ، سألوه : كم تحدثنا ... ؟ ، شاح بوجهه بعيداً عبر النافذة المعبأة بالضباب ، أرسل نظراته دون تركيز ، كم تشاجرنا ولك الرهان ، عليه أن يتذكّر شيئاً ، ملؤا كأسه من جديد وعاد يشرب فشله في الحديث للمرّة الرابعة وربما الخامسة في هذه الجلسة ، " هو هكذا أخرس بلسان طويل وما أكثرهم .." ، علّق أحد رفاقه الذي استطرد قائلاً : " يتأمل الديناصور كثيراً ، معجب بجسده الغريب ، يفضله على النحلة ، كل شيء تصدّع في هذا الزمن وهدد الخوف كل من النحلة والديناصور الهرم ولم يبق ما يحفظ ماء وجه البروسترويكا الحديثة .. " .

ساح النبيذ على سطح المنضدة ، العقد انفرط وأصبحت فكرة الكل كلاسيكية ، رفع رأسه ، زحزح شفتيه ، بانت مقدمة لسانه وبدت نبرات صوته مشحونة باليأس .. ، " كنت أقول له أنني ما زلت طفلاً ، آسف كنت أقول له لم أعد طفلاً ، " ثم انقطع الكلام ، تشظّت الفكرة في رأسه من جديد ، ارتجّ جسده عندما ارتطمت قدمه بحافة الدرجة المحطمة ، لم ير شيئاً ، المصباح المثبت في أعلى السلّم منطفيء ، إحتوت الفضاء المنثور حوله ظلمة مدهشة ، عليه أن يخمن المسافة بين درجة واخرى وإلاّ فمصير قدميه الإنزلاق المفاجيء ، شعر بالغثيان للحظة وأحسّ بثقل رأسه فأسند جبهته المتعرقة إلى حافة المنضدة ، تنخطف إلى سمعه بين آونة وأخرى كلمات حديث طويل ، لم يستطع أن يميز نبراته أهو شجار أم عربدة ، وفي أي زمن يحدث ، هل في زمن الصفحات الصفر التي كان يقرأها إبتداءاً من مجلس أبيه وجده أم يحدث هذا في زمنه الذي لم يستطع أن يحضره ؟ ، وكم عدد الرؤوس التي تحدثه ؟ ، يعتقد أنهم كانوا ثلاثة ورابعهم صادفوه بباب الحانة ، سلّموا عليه ومضوا إلى الداخل ، لكن من المرجح أن تكون هذه كلماته : " لم يعد الإنسان شمبانزي أبله يفرح بالسلسة الذهبية التي تطوق عنقه.." ، ضحك بصوت عال ، وبصق قرب قدميه ، الصعلكة في عصر الكمبيوتر تعني له شيئاً ، قاطعه أحدهم قائلاً : وماذا تعني لهذا الرأس النائم بجانب الكأس ! ، لا تعني اكثر من برنامج منتظم يقدم كلمات وجمل مكررة من يوم تعلّمه الحديث ، اتهموه بهذه الكلمات في وقت استسلم هو للتهم المعلّقة مثل خطاياه ، نعم ياأبي ... نعم يا أمي .. ، نعم لكل شيئ له سطوة في محيطه ، أراد أن يقول نعم لعينين كانتا تحنوان عليه من خلال فتحة النافذة المؤدية إلى بيت الجيران إلاّ إنه فشل لحظة الحسم ، واقنع نفسه بحقيقة واقعه ، لا تنظر هنا ، لا تمش هناك ، لا تطلب ذلك ، وعندما ارتفعت ضحكة ماجنة ، تثائب وحرّك رأسه ثم طرحه على خده الأيسر وراح يهذي كالمحموم " لست دمية .. لست بيدق .. سوف ترى .. سوف ترون ..! " ، سال اللعاب من فمه المفروش بلا انتظام ، وفي مخيّلته ثمة صورة غامضة ، لم يكن متيقناً من عدد الدرجات المتبقية ، تبعثر الوضوح في مخيلته ، مثلما انشطرت حبات الدمع في عينيه وتشظّت الأصداء في أذنيه ، كأن سداً تحطم فجأة ولطم وجهه إعصار موج مدمر ، أو جبلاً تصدّع وتهاوى فوق هامته ، هي صرخة في جسده الهش ، شعوره بالمرارة استقرّ في قعر قدميه حينما فقد يقينه بحقيقة وجود درجة غير محطمة قادرة على استقبال ثقل جسده المتراخي ، كانت نفخة الصور عظيمة ، أفقدته توازنه ، فهو لم يعد مثل بقية الأشياء ، إنجرفت به الأرض وانفلقت فوق رأسه جرّة مليئة بالدماء ، كفّه المتجبسن فوق سياج السلّم ، ذراع ماكنة هرمة ، لم يرفعها منذ زمن بعيد ، ولم يحاول أن يرسم بها علامة استفهام في يوم ما ، فكانت دائماً معلقة في الهواء ، ترتجف شفتاه ، تتقافز رموشه كفار مملوء بالخوف ، يتحرّك بلغة الإشارات وإيماءات العيون ، كان واقفاً في لحظة مجهولة ... أين ومتى ؟ ، لا شيء يستجيب لذاكرة مخدّرة ، تورّم معصمه الراقد في بلل النبيذ ، سحبه أحد رفاقه فوجد رأسه يتجندل فوق كتفيه بدبايس خدر متخشبة ، الكلمات نثار شهب تمس سمعه دون إرادة منه ...، " مثلما قلت لكم ، السلة المصنوعة من سيقان القصب لم تعد ملائمة لفراخ الريبوتات الفولاذية تماماً مثلما حدث في بلاد الصقيع .. " ، عبارة لم يعد لسمعه أي سلطان عليها .

هزّ رأسه متثائباً ، لملم هيئته وأخذ يصغي للحديث الذي أحزنه عدم الإشتراك به ، واكتفى بإيماءة الإذعان فقط ، كانت عيناه توحي بانفعال شديد ومفاجيء بين حين وآخر ، فيرتج جسده ويقشعر جلده كلما سقطت كف أحدهم على سطح المنضدة ، إعتقدوا أنها حالة فسلجية ترافق عمليات الهضم في أحيان كثيرة ، وبدا في رأسه شيء يستدير ، كأنه ينظر إلى الخلف الغارق في ظلام كثيف ، همس : هو ذا الوجه المنقوع بالفزع ، يشرئبّ بعنقه فوق الرؤوس ، " أيها الثور المتغابي الغاطس في الوحل حد أذنيك ، متى تشعر بالراحة وتترك رأسك يحتوي مخيّلة مريضة ؟ ، هو ذات الصمت وذات الأصوات الخفيظة التي تثقب الأغشية بهدوء ، صحو ينتشر في جمجمته ، دقّات خفيفة ، في الرأس ، في القلب ، في الشرايين ، تحولت إلى فحيح بطيء ، تولده أنامله وهي تتحسس الجدار الخشن ، وبعد أن تخلّص من السلّم تاه في العتمة ، نور ضئيل يفر من ثقب دقيق نثر الإرتياح في نفسه ، توسّلته قدماه في خضم فوضىً تأخذه في كل الإتجاهات ، كان الباب جاثماً كالليل الثقيل حينما توهجت في أعماقه زهرة تفاؤل " لا بد أنهم في سبات ، سأترك حذائي وراء الباب وأسير على رؤوس أصابعي .. " ، كبح جماح انفعالاته إلاّ من أنفاس مكبوتة تساق في سبيل ضيق ، " الآن كل شيء هاديء ، وهاهو الوقت يجري كالساقية بين يديك .. " ، التفت لهيأته ، فلمح شبحاً يخدع ظل الأشياء ، يمرق كالريح في السكون ، إبتعد عنهم بحذر ، تجنّب محاذاة الأبواب الموصدة والمفتوحة على السواء ، فقط علّق نظراته بالجدران القاتمة التي توحي دوماً بتلك القامات المجهولة التي تتدلى مع إضطراب المخيلة ، عندما شعر بالخوف يشق صدره ، أسند ظهره إلى الجدار واستسلم لثمة حقيقة تدك يقينه ، ساقان عاريتان ناحلتان تنزلان من فوق وتتوزعان حول كتفيه ، بل تقبظان على اطرافه فيبدو الجحيم أكثر مرارة حينما يسقط تماسكه في صرخة مدوية ، بعد حين يجد رموشه تتعلّق بذؤابات سقف مرتجف ، وصف حالته تلك بـ الخذلان الأحمق ، وراح يتابع خذلانه أو بالأحرى خذلان جفونه وهي تحصر رؤيته في مستطيل الباب الرصاصي المواجه له .. ، تزاحمت قطرات دمه في شرايينه وراحت تضغط من الداخل ، وتأتي أوردته إلى رقبته حبالاً تشكل حلقة تتدلى امام عينيه ، " هل كنت تعتقد بهذه النهاية البشعة .. ؟ ، أيها الثور الحجري .. ، هل لك رأس في نهاية عنقك ..؟ ، أنظر الحلقة .. ؟ ، هي لحظات وينزاح ذلك الباب وتسقط من أسفل قدميك درجات السلّم المتهالكة ثم ينخرط الحبل على رقبتك وينتهي كل شيء .. " ، الصمت يموت تحت شفتيه وتأوهات تغادر رأسه كالدخان ، " .. أيها القدرة الخفية كوني عوناً للثور الذي تورط في حمل جبل على ظهره ، ليت اليد التي تغفو على جلد امرأة تحترق ، ويلك أيها الديناصور الممدد بجانب لبوة متوحشة من خريف العمر الأسود " ، " .. سأكتم أنفاسي وأعبر احتضار أوعيتي ، إنه سكون طويل كالدمعة الجامدة ، لابد أنهما الآن متجانسان ، متوحدان تحت غطاء واحد ، فالليل في آخره والنجوم بعيدة ، سأحمل خوفي وأحاول المرور من نافذة الغضب تلك ، هيا .. هيا .. تحرّك .. تحرّك ياسيزيف فالصبح أوشك الإنبلاج وأنت تسير فوق ظلّك الشفاف .

الآن كل شيء هاديء ، الأجساد يعبث بها دفء الفجر ، متراخية تقبِّل الكفوف والراحات الشبقة ، رأس متوحد يترنّح بإعياء ، نقل خطاه المتخفيّة وراء دبيب خنفساء ضالة ، اقتربت من فتحة النجاة ، ليته يصرخ مثلما فعلها أول مرّة وهو يختنق عبر فتحة الحياة الأولى ويحطم السكون الممتد فوق دبابيس العتمة ، الدرجات بانت مفقودة والسلم رفرف في الفضاء ، امتدت من كتفه يد مرنة ، لم تكن مخدرة مثلما اعتقد باديء الأمر ، بل فوجيء بتلك الحركة التي أنكرها عن يده لفترة طويلة وتحول هذا الإستغراب إلى خيبة ومرارة في آن ، حرّك رأسه فكانت حافة الكرسي الحادة تحز خدشاً في صدغه الأيمن ، وتفتح ملفات حكاية قديمة ، كانت إمرأة القرصان تنام في جسده ، بين ضلوعه ، أيام وليال ، وحينما يشتهيها يغرز خنجره في صدره فتخرج إليه ملفعة بثياب الفجر الشفافة ، تأخذه بعيداً عن العيون والألسن وهناك تبكي حتى يغتسل بدموعها ، وقبل رحيل الظلام تدخل جسده من جديد ، هي حكاية لم يتشبث بكلماتها فآلمه ذلك كثيراً في لحظة إكتشافه لعيني إبنة الجيران معلقة في شناشيل شرفته منذ سنين ، نسيها وراح يدق برأسه كل يوم عل جذوة في الذاكرة لم تزل تحيا إنما دون جدوى ، التفت إلى يساره ، إلى يمينه ، عبث الأجساد يتسلّق الكراسي المنقلبة والكؤوس المحطمة ، رؤوس غادرت الأقفاص البلاستيكية ، سلاسل مقطعة ونوافذ تهشم زجاجها ، تساءل : مالذي حدث ؟ ، اي لعنة حلّت بهذه المملكة الحيوانية ، ربما حلم مقيت أو يقظة ماجنة لم تزل تعيش مراهقة مرّة ، ترك استغرابه واهتمامه بالأشياء وأخذ يسجل نبضه المتسارع ، جسده يرتج في كل إنفعال بيولوجي ، يحيط به السكون الملغوم بالحذر ، الفراغ يعوي في رأسه الذي اقترب من فتحة النجاة ، همس في ذاته : أيها الغبي تخلّص من موتك مرّة واحدة ، تحرّك ، وأطبقت أطرافه على إطار الفتحة ، إنسلّ إلى الداخل ، تاركاً هواجسه ترقص وراءه ، أغمض عينيه وانحدر في جسده ارتياح عميق ، يخرج من داخله جسد متعب ويحتل الفراش البارد ، تتبخر عبر أذنيه ضوضاء حادة ، لم يسمع شيئاً ، لم ير شيئاً ، لم يفكر في شيء ، كل الهواجس توقفت وتحولت المخاوف إلى ارتياحات لذيذة ، وفار خدر في أطرافه وسكن كالبحيرة الهادئة ، تعوم في رأسه انثيالات الفكرة الحالمة ، رفع رأسه قليلاً ، شعر بخفّة ذلك الطوق المجهول المتربع فوق هامته ، تنفس عميقاً وأخذ يتحسس صدره المنتفخ ، ومثل مجذاف يصطدم بصخرة تصلّب فجأة وتثاقل الهواء المسكوب في جوفه ، لم ير شيئاً ، هو الصدى يسقط من السقف ويحدث دوياً كالصرخة في الخمول ، سأله ، دارت الكلمات بين شفّتيه كالرحى ، كم الساعة ..؟ ، كم حماقة ..؟ ، ذهل للحظات ، لم يكن الصدى غريباً عن سمعه ، ارتسمت ملامح الفم المتحرك في الظل ، كانت شفتاه ثقيلتين كشفتي حصان متمرد ، ألصق ظهره بالجدار ، في رأسه غابة من الإضطرابات ، " .. أيها الثور الأحمق ، انها نهايتك ، لا شك في موتك في هذه اللحظة .. " ، صفعته بصداها ، صرخة عاتية ، دكّت رأسه وصدره وعظامه وجرّته إلى الحضيض من جديد.

تأفف سيزيف وأدرك خيبته الأخيرة ولم يعد يسمع ما يصدره جسده إلاّ ارتجاج كئيب ، كانت رحى ثقيلة ، غرست في خده الأيمن شعلة من جمر ، غضب انتشر في جلده كالوباء ، وصار يهذي كالمحموم ، يقوّس الحروف والكلمات ويجري بذاكرته تحت أنقاض سكون متصدّع . يفرد خطاه الفزعة هنا وهناك ، كضبع مهزوم في دمه لهب كالإعصار ، " .. لم تكن سوى صنم صغير ، ربٌ وثنيٌ مخلوع ، بيدق ما عاد لوجودك أثر .. ، أيها الليل الواقف أزاء وجهي كالطفل ، إصفع ، إصفع .. لعل الثور المتغابي يفهم .. " ، صفعة هي ، كرة من نار أزلية ، تقذف كلما تمادت الشياطين في الصعود ، أو محاولة استراق السمع ، كالشهاب المخطوف ، صفعة كالصرخة في الرماد المتطامن تحت هدوء المساء ، ".. أيها السكّير الجبان .. هل نسيت من زرعها فوق خدّك ..؟ ، ولكنك هكذا دوماً .. اشتعال معزول .. " ، واستقرّت الرحى فوق خده الأيمن وأحالته كتلة فحم متّقدة ، انفجرت كالبركان الناضج تحت جلده ، فسالت حممٌ ، حمم ، في التيه ظلّت قدماه ، ارتفع ظلام في عيني الغر الذي لم يستفهم عن حركة اعتباطية كانت تسوقها يد خفية في يوم ما .

سالت فوق خديّه دمعتان ، التفت وراءه ، الباب موصدة وكل شيء مسحور بالصمت ، حاول أن يحرّك رأسه المثقل بالذكريات الطافية على بحيرة النبيذ ، فانقلب هو وكرسيّه ، فدقّ رأسه الأرض ، اعتقد العالم كله يدق معه ، فاستمرّ بالدق حتى غفى فوق أنقاض يده المتورمة ، لم يشعر بحركتهم ولابصمتهم العكر المتقطع في كؤوسهم ، همس : كل شيء تصدّع وما عاد التغيير يجدي في عالم مريض بالشيخوخة .. ، تذكّر أن هذا الكلام لم يكن له بل كان آخر ما سمعه من أحدهم قبل أن يبصق عليه ويخرج ، انحدرت قدماه تتخبطان في ظلمة الفضاء المحتوي على درجات السلّم المحطم ، بين الحذر والتوجس يزرع خطاه المترددة التي تهوي بجسده في الفراغ ، وحينما انطرح جسده يلامس الأرض ، شعر بالإرتياح وهو يحتضن القاع البارد ، رأسه يخوض كالموجة الآتية من بعيد تركبه الفكرة تلو الفكرة ، وعندما يتذكّر أنه ممدد على الأرض ، تخرج طراطيش الفكرة الممزقة من عينيه ، ارتعاشة جفون فزعة ، فيلثم البلاط البارد ، يكاد يشرب رطوبته التي تنغرس مسامير صدئة في لحم شفتيه ، في رأسه شيءٌ ، ذلٌ ، هوانٌ أو من هذا القبيل ، لقد أسقطت من شعوره بقايا الصفعة أن له جسد يسير بساقين وقدمين وتمارس فيه الريح لعبتها الأزلية ، وفوق كتلة الجسد كرة مشحونة بمعلومات تتحرّك بالإشارة ونوابض الأزرار المبرمجة وتستقبل نشاط أجسام البشر الطبيعي دون كلل أو ملل ، وكانت هناك على المدى المرسوم حوله سحب تقترب كأفيال إبرهة ، تحاصره حينما تفلت الكأس المدوّرة من كفه ويسقط الشيطان تحت قدميه ، في لحظة يطول السلّم المحطّم كأنه النفق الصاعد إلى السماء ، وفي لحظة أخرى ينكمش كطي وريقة ذابلة ، أو ينفجر وتتناثر درجاته في الفضاء كشضايا قذيفة مخدوعة ، تأخذ معها نصف ساق مهشّمة وعين دامعة ولفيف أمعاء نتنة وبقايا دموعٌ عكرة ، تقترب السحب ، تتكاثف رمادية اللون ، سوداء اللون ، لم تكن خيراً ، لم تكن بشرى للأرض الجدبة ، كل هذه الإستنتاجات مرّت في كرة رأسه دون توقيت ، الرعد والبرق وأشياء تتكسّر في الحلقوم وسائل يتراجع منكمشاً هنا ، هناك ، في الوجه ، في العينين ، تحت اللسان ، يتهيّب من ظل زاحف تحت أضوية المصابيح المعلقة في واجهات الأبنية وتنحسر أشتات ارتباك شديد ، تتجاذب كالقطرات في بؤرة مالحة ، يمد رقبته لا إرادياً يريد أن يقول شيئاً ، أمال رقبته ، حاول فتح فمه ، إنقلب الكأس وساح النبيذ ، في ذلك الوقت كانت خطاه تتراكب فوق بعضها ، بين فجوات السلّم المحطّم ، تطارده في الأفق ، صرخة ، يرتعش لصداها خدّه الأيمن .

ربّما... انتهت

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية