وقدْ قيلَ أنّ سَبَبُ الدّعوى التّي قدمَت ضدّه ، أنّهُ مرّ ذاتَ يومٍ على إحْدى دكاكينِ شاهْ بنْدر التّجار في سوق خنفسانِسْتان فتلاقَتْ عَيناهُ بأجْمَلِ العُيون في المَدينة وهيَ عيونُ ابنةِ الشّاه بنْدر وكانت تُدْعى سُلاف ، فأُعجب بها أشدّ الإِعْجابْ كَما أُعجِبَت بِهِ ولاحَظ ذلك والِدُها الذي تأبّط شراً وغَضِبَ شَديدَ الغَضب ، لأنّه كانَ يُريدُ تزويجَها بِرَجُلٍ يليقُ بمُستوى ابنتِهِ ومكانتها المرْموقة ، فَسَبقَ أنْ تقدّم لها الملياردير سَفروت الملقّبِ بـ وحش السوق فرفضتهُ رفضاً قاطِعاً كمَا تقدّم لخِطبتِها الفارسُ الشّهم خمّاس بن محْماس ولم توافِق عليه أيضاً ، واستمرّ طرثوثُ بالمجيءِ إلى دُكّانِ والِدها حتّى يَراها ويلتقي بها ، إلى أنْ وَشَى بذلك أحد حُرّاس الشاه بندر فغضِبَ غضباً شديداً ممّا دعاهُ إلى نَصْبِ المكائِدِ لطرثوث وإلصاقِ التّهمِ إليه ووصل الأمر به أن اشتكاهُ إلى القاضي ولكنّ ذلكَ لمْ يكُنْ لِيحولَ بَينَهُ وبينَ سُلاف ، فقدْ أعلنَ القاضي بِأنّهُ بَريءٌ بَراءةَ الذّئبِ مِنْ دَمِ سيّدِنا يُوسف وذلك لِعَدم اكتفاء الأدّلة والقرائِن بلْ أنّ القاضي رفَضَ ثلاثة شُهود بِدعوى أنّهم يشهدونً الزّور ، وقيل أنّهُ استطاع أنْ يَعرفَ ذلك بفراسَتهِ كما قِيلَ أنّه كشفهُم مِنْ خِلال جهاز كشف الكذب آنذاك ، هُـنا تهللّت سُلاف وانشَرَحت أساريرُها فرحاً ببراءتِهِ وخُروجِهِ منَ السّجن لكن ظلّت هيَ محبوسة في مَنزِلِها معَ رقابةٍ مشددةٍ فرَضَها والِدُها عليها لأنّها لا تنْصاعُ لأوامِرهِ ونواهِيه ..
قرّرَ طرثوث بن كمخان أن يُهاجر إلى مدينة أخرى حتّى ينْسى عِشْقهُ لسُلاف فقد علِمَ أنّه من المُستحيلِ أن يتزوّجَها ولكنّ ذلك القرار لمْ يُعجب أخيه مَحروس وظلّ يبكي لأنّه تعرّف على أصدقاءٍ جُدُد في مدينة خنفسانِسْتان ولا يرغب بالرّحيل عنْها ، ولمّا علِمت سُلافُ بذلك مَرِضت مَرَضاً شديداً كادَ أنْ يُودي بِحياتِها ونَصحَها الحكيمُ بالأكلِ جَيّداً وأخذِ الدّواءِ اللاّزم وملازمة الفراش عشر ليال ، ندِمَ والِدُها لمّا رأى حالتها وهوَ يعرف تماماً أنّه السّبب في ذلك ولكن لم يَجد حيلة غير البحث عن طرثوث في المُدنِ المُجاورة من خنفسانِسْتان مثل فراشستان وجرادستان ودودستان علّها تراه وتعودُ لِصِحّتِها كمَا كانت ، ولكنْ لمْ يُفلح أحدْ في العثور عليه ، وراجَتْ إشاعة في المدينة أنّه ذهَبَ ليُقاتل جِنكيز خان ليثأرَ لعائلتِه التي قُتِلت ، ومرّت على هذه الحادثة شهور طويلة تَعافَت فيها سُلاف ودبّت الحياةُ فيها من جَديد وهيَ لا زالتْ تحفظُ حُبّها لطرثوث وعاشت على ذِكراهُ وهيَ تأمل بأن يعودُ إليها في يومٍ من الأيام وإنْ طالت بِها السّنون .
قيل أنه في اليَومِ الذّي غادَرَ فِيهِ طرثُوثْ مَدينة خُنفسانِسْتان وهوَ يَحملُ مِنَ الهَمِّ ما لا يُطيق ، ومِنْ حيرةِ الظّنونِ التّي قَضَّت مَضْجَعَهُ آنـاءَ اللّيْـلِ وأطرافَ النّهار ، شَدَّ على سَاعِدِ أَخيهِ الأصْغَرِ مَحروس وقالَ لهُ : إنْ كانَتْ لكَ رغبَةٌ في البَقَـاءِ في هذِهِ المَدينَةِ فلنْ أسْتَطيعَ إرْغامَكَ على الرّحيلِ مَعي ، ولَقَد يَعِزُّ عليَّ أنْ أودَّعَ شَقيقيَ الوَحيدْ الذّي بَقيَ لِي مِنْ أهْـلي ، وأوصِيكَ ونفْسي بِأنْ تُراقِبَ اللهَ في سَكناتِكَ وحَرَكاتِكَ فَما زِلتَ يافِعاً والأيّامُ مليئَةٌ بِمَا يَسُرّكَ مِنْها ومَا لا يَسُرّ ، سَأرْحَلُ حتّى لا أكونَ سَجيناً لأحْلاميَ التّي لنْ أنالَ مِنْها سِوى لوْعَةِ الذّكرى وغصّاتِ الحَنين ، لا تبْخلُ عليَّ بِأخبارِكَ وأخبارِ مَنْ تَركتُ لهَا قلبِيَ الذّي يَنْبِضُ بالعِشْق ، وروحي التّي تَرْفُـلُ بالمَحَبّه ، عِدْني بِذلكَ يا مَحْروس !!.
كانَ لِهذِهِ الكَلِماتِ وَقْعٌ كبير في نَفْسِ الطّفلِ الألْمَعِيِّ مَحروس ، الذّي لمْ يَتَجاوَز عُمرُهُ العَشْرَ سَنوات ، وهوَ يُودِّعُ أخَاهُ الأكْبَر ويَبْدأ حياةً جديدة يَعتَمِدُ فيها على نَفسِهِ فَقالَ وهوَ يُمسِكُ بِيَدِ طرثوث والدّمعُ يُزاحِمُ جَفْنَيْه : وإنّي لَيَعُزُّ عليَّ يا أخي أنْ تُفارِقَني وأنتَ بهذِهِ الحَال ، وإنّي لأدْعو اللهَ أنْ يَرزُقَكَ ما تصْبو إليه ، فلقَد عِشْنا سَويّاً في هَذِهِ المَدينةِ ونَحنُ في كلِّ فَجرٍ جدَيد نُعاهِدُ أنفُسَنا بأنْ يكونَ يوماً أفضَلُ منْ ذِي قَبْـل ، وعَن نَفسي فَلنْ أبخَلَ عليكَ بالدعاء وكتابة أخبارِ المَدينة وكُلَّ منْ تركتَ لهُم بَقايا مَشاعر أو أطلالُ ذِكرى ، هُنا تعانَقا والدّمْعُ يَهْمي مِنْ مُقلَتيْهِما ، فَهيَ المَرّة الأولى التّي يَفْترِقانِ فِيها ، لكنْ في ذلكَ العَصْر كانَ العَمَلُ على بِناءِ الذّاتِ واعْتِمادُ الشّابِّ على نَفْسِهِ وبِناءُ كَيَانِه هوَ دليلٌ على رُجُولةِ الشّابْ وبِناءُ كَيانِه الشّخْصي ، لا سِيما في مُجتَمَعٍ مَدَنيّ بَسيط لا يَعيشُ فِيهِ إلاّ الأقْوياء فَخفّفَ ذلكَ مِنْ حِدّةِ الفِراق ، بَلْ أصْبَحَ ذلكَ دافِعاً لِمُواجَهَةِ الحَياةِ مِنْ جَديد ، والعَمَلُ على إحْياءِ الطّموح ومُمارَسَةِ التّحدّي للوُصولِ إلى أمنِياتٍ تسْتَحِقُّ العَنَاء ..
.
أرادَ طَرثوث أنْ يُوَدِّعَ مَليحَةَ الحُسْنِ وآيَةَ الجَمَال "سُلاف" النَّبْتُ المَلائِكِيِّ في التُّربَةِ الشَّيْطانِيَّة ، لأنَّ سُلاف بالنّسبَةِ إليْه حازَت صِفات النّفْس التّي تَرقى إلى دَرَجةِ العَالم المَلائِكيِّ حيث يَعيش الطّهْرُ والجَمَال بأسْمَى صُورَةٍ وأرْقى مَنظَر ، ولكنّها نَبَتَت في تُربَةِ أبيها الذّي وَرِثَ منَ الشّيْطانِ كِبرَهُ وغُرورَه ، وأخَذَ مِنَ العَالمِ الإبْـلِيسيِّ دَنَاءَةُ الحِيلة وخُبثُ المَكيدة ، حتّى يُشبعَ الطّمع في نَفسِه وتَتَغذّى أوْرِدَةُ الجَشَع في دَمِه ، مَرَّ طرثوث عِندَ دارِها وهُوَ آسِفٌ لِحالِهِ مِنْ شِدّةِ ما كانَ يُقاسِيه في ليَالي البُعد والتّنَائِي ، لمْ يَكُن باسْتِطاعَتِهِ تَجاوُز هَذِهِ التّجْرُبة لوْلا إيمَانَه العَميق بِأنَّ الصِّدقَ لا يَموت وأنّ المَشاعِر الطاهِرَة تَبقى ثِيابُ زينَةٍ لا تَبْـلى مَهْما تَقادَمَ الزّمانُ عليْها ، ثم ودّعها دون أن يراها وامْتطى جَوادَهُ الذّي أهْداه له أحَدُ الأغْنِياء عِندَما كانَ يَعملُ في اسْطبلِهِ قاصِداً عاصِمَةَ الثّقافَةِ في عَصرِه ، بِلادُ العَجائِبْ التّي لَطالَمَا حَلُمَ بِزيارَتِها لِما سَمِعَهُ عنْ هَذِهِ المَدينَة مِنْ رِيادَةٍ ونُضوجٍ فِكريّ لِكلِّ باحِثٍ ولِكلِّ طالِبِ عِلم ، فَمدِينةُ خُنفُسانِسْتان تَبْعُدُ عنْ بِلاد العَجائِب الكثيرسَيقطعُها طرثُوث في شَهْرٍ أو شهْرين ..
.
مَرَّ وهوَ في الطّريقِ على قَريَةٍ صَغيرةٍ يَعمَلُ مُعظمُ سُكانِها في الزّراعَة ، فأرادَ أنْ يَستَريحَ بِها لَيْلتهُ هَذِهِ حتّى يُكمِل في الفَجرِ رحلتَهُ الشّاقة إلى بِلادِ العَجائِب ، فَباتَ الليلة عِندَ رَجُلٍ يُدعى دِرْباس بن مِكناس وهوَ رَجلٌ شَهْمٌ كريم كانَ يَعرِفُ طرْثوث منْ قَبْل وهوَ رجلٌ في العِقدِ الخَامِس منْ عُمره ، أخَذَ طرثوث يُحاوِرُهُ في ما كانَ لديْهِما مِن وَقت بَعدَ وَجبةِ العَشاءِ المُتواضِعة فَقالَ له : هلْ سَمِعتَ بِالفارابي أيّها الشَّيخ دِرْباس ؟ فقال له : يا بُنّي لقَد جَاءَت إليْنا أخبارَهُ وَوَصلت إليْنا بَعضُ رَساِئلِه ولقدْ كُنتُ أتمنّى أنْ أراهُ حتّى أحدّثهُ عنْ مَسائِلَ كثِيرة ، فَرَدّ عليهِ طرثوث : حقاً ، لقدْ سرّني ذلك وإنّي لأرْجُو أنْ أصِلَ إليه ، فقالَ دِرباس بعد أن عدّلَ من جَلستِه : هلْ أنتَ طالبُ حِكمة ؟ أوَ سَفَرُكَ هَذا بُغْيَةَ تَحْصيلِ العُلوم ؟ فَقالَ طرثوث : نعم إنه كذلك ، لقَد أرْهَقتنِي الحَياة أيُّها الشَّيخ وصَعُبَت عليَّ حَوادِثُها فَرأيتُ أنْ أفْهَمَ نَوامِيسَها وأتَعَرَّفُ إلى حَالاتِها وأجِدُ ما لمْ يَجِدهُ انْسانٌ قَبلي فَتَحلو الحَياةُ ويَزْدانُ العَالمُ إنْ أبْحَرتُ في مُحيطاتِهِ وغُصْتُ في أعْماقِه فردَّ عَليْه دِرباس وقال : إنْ كُنتَ كذلك ، فَاسْمَع ما أقُولُهُ لكَ ، يَقولُ الفَارابي : إنَّ الذّي سَبيلُهُ أنْ يَشْرَعَ في النَّظَر- أيْ الفَلسفَة - يَنْبَغي أنْ يَكونَ لهُ بِالفِطرَة اسْتِعدادٌ لِلعُلومِ النَّظريّة ، وهيَ الشّرائِطُ التّي ذَكرَها أفْلاطونُ في كِتابِهِ في السّياسَة يقول : أولاً أنْ يَكونَ جَيّدَ الفَهمِ والتّصورِ لِلشّيء وللشّيءِ الذّاتيّ ، ثُمّ أنْ يَكونَ حَفوظاً وصَبوراً على الكَدّ الذّي يَنالُهُ في التّعلمِ وأنْ يَكون بِالطّبعِ مُحباً للصّدقِ وأهلِه ، والعَدلِ وأهلِه ، غَيرَ جَموحٍ ولا لَجوجٍ فيمَا يَهْواه ، وأنْ يَكونَ غَيرَ شَرِهٍ على المَأكولِ والمَشروبِ ، وتَهونُ عليْهِ بِالطّبعِ الشّهواتُ والدّرهَمِ والدّينار ومَا جَانَسَ ذلك .
.
وأنْ يَكون كَبير النّفسِ عمّا يُشينُ عِندَ النّاس ، وأنْ يَكونَ وَرِعاً سَهلَ الإنْقِيادِ للخَيرِ والعَدلِ ، عَسرَ الإنْقِيادِ للشّرِ والجُورِ ، وأنْ يَكونَ قويَّ العَزيمَةِ عَلى الشّيءِ الصّواب ، ثُمّ بَعدَ ذلكَ أنْ يَكونَ قَد رُبّيَ على نَوامِيسٍ وعَلى عَاداتٍ تُشاكِلُ مَا فُطِرَ عليه ، وأنْ يكونَ صَحيحُ الإعتِقادِ لآراءِ المِلّةِ التّي نَشَأ عليْها مُتمَسّكاً بِالأفعَالِ الفَاضِلةِ التّي فِي مِلّتِهِ غَيرَ مُخِلٍ بِكُلِها أو بِمُعظمِها ، وأنْ يَكون مَعَ ذَلكَ مُتمَسّكاً بِالفَضَائِلِ التّي هِيَ في المَشهُورِ فَضَائِل ، غَيرَ مُخِلٍ بِالأفعَالِ الجَميلةِ التّي هِيَ في المَشهُورِ جَميلة ، هكَذا يَجِبُ أنْ تكون يا بُنَيّ ، قالَ طَرثوث بَعدَ أن حازَ من الحكمةِ نفيسَها : لقَد هَزَزْتَ بِجذع النّخلة يا دِرباس فاساقَطَت رُطبَاً جَنيّا ، لكَأنّمَا نبض لي عِرقُ الفَهم ، ودرَّ لِي شِريانُ العِلم ، وقَد كُنتُ أظُنّ بِأنّ قليل الإلتِماحِ مِنَ النّظَرِ يَزيدُني ، ويَسيرُ المُطالَعَةِ مِنَ الكُتُبِ يُفيدُني ، فَبَعدَ كلامِكَ هذا انْهالَت ليَ العَجائِب ، كما انْهالَت عَليَّ الرّغائِب ، وما علِمتُ بأنّ ذلِك يَتَطلّب كلّ ما ذَكَرت !!
.
قالَ دِرْباس : أُريدُكَ يا بُنَيّ أنْ تَخلُدَ للنّوم فَجهدُ السّفرِ يَبدوعَليْك ، وسَتكونُ لنَا بِإذن الله جَلسةٌ أخرى عِندَ الفَجر لَعلّ الحَديثَ يَطول ولَنْ تَترُكنا شَهّيةُ الأسْئِلة ومُتعة الحَديث من أخْذِ الرّاحَةِ ، نوماً هانِئاً يا بُنَيّ ، قالَ طرثوث : مَا زالَ اللّيلُ يَحلو بِحديثِكَ يا دِرْباس ، تصبح على خير ، نام طرثوث بعد التعب ، واستراح بعد عناء وهدأ من بعد شرود ..
فَاجأتْهُ سُلاف بِالحُضُورِ إلى القَرية مَعَ أخِيهِ مَحْروس مِنْ مَدينةِ خُنفسانِسْتان وهُما يطلبانِ الأمانَ مِنْ دِربَاس ، لأنّ مَجموعَةً مِنَ الرِّجالِ كانَتْ تُلاحِقُهُم سَعياً ورَاء إرْغامِهِم على العَودَة ، فَبَادَرَ طرثُوث بِأخذِهِم إلى الحُقولِ المُجاوِرَة التّي كانَت بِالقُربِ مِنْ القَريَة التّي هُوَ فِيها ، وفِعلاً اسْتطاعَ أنْ يَختَفي عَن الأنْظار وَمَعهُ سُلاف ومَحروس ، حَيثُ قالَ دِرباس للرّجالِ أنّهُ لمْ يَرَ أحداً جاءَ إلى القَريَة وقالَ لهُم أنّهُ لا يَسمَحُ بِبِقاءِ الغُربَاء فِي هذِهِ القَريَة ، وفِعلاً عادَ الرِّجالُ مِنْ حيثُ أتوا وَانتَهى الحَالُ إلى ذَلِك ، فَقالَ طرثُوث لِمحروس : أيّها المَجنُون مَا الذّي فَعلته ؟ ألمْ نَتعاهَد على أنْ تَبقَى فِي المَدينة مِثل الرّجالِ الرّاشِدين ؟ وأنتِ يا سُلاف لِماذا خَرَجْتِ عَن طَاعَةِ أبيكِ ؟ ما الذّي جاءَ بِكِ إلى هُنا ؟ أخبِروُني مَا الذّي جَاءَ بِكُم ؟ .
قالَت لهُ سُلاف : نَقطَعُ كُلَّ هَذِهِ المسَافةِ ونُعَرّضُ أنْفسَنا لِلخَطرِ والإقْصاء مِنْ أهلِ المَدينَة فَتسْتقبِلنا كلمَاتَكَ بِالعِتاب ؟ ألا يَستحِقّ كل هذا العَناء أنْ تَسألَ عَن حالِنا وتَطمَئنّ عَلينا بَدلاً من هُجومِكَ عَلينا وَكأنّنا حِملٌ ثقيلٌ عَليك ؟ ألاَ يَسُرّكَ أنْ يَكونَ مَحروس إِلى جَانِبك ؟ ألا تَسُرّكَ رُؤيَتي يَا طرثوث ؟ فقالَ طرثُوث وهوَ يُحاوِلُ أنْ يَكون أكثرَ هُدوُءاً : يَا سُلاف إنّك بِالنّسبةِ لِي أغلى مِنَ الرّوح وأخِي مَحرُوس هوَ مَا تبقّى لِي مِنْ أهلِي فَكيفَ لا يَسُرّني ذلِك وَلكن لِمَ كُلّ هذِهِ المُجازَفة ؟ أنا عَزمْتُ عَلى الرّحيل حَتّى لا يَأتِي وُجوُدي عَليكما بِشيْءٍ يَضُرّكم ، كنتُ آمَلُ بِحيَاةٍ تَحفظِينَ بِها نفسَكِ وَتُطيعينَ بِها وَالِدكِ ، لا أنْ تَخرُجي عنْ طاعَتِهِ وَتجْعَلين النّاسَ فِي المَدِينةِ تتكلّم فِي سُمعَتِهِ وَسُمعَةِ ابْنتِهِ ، فرَدّ عَليهِ مَحرُوس : لقد تُوُفّيَ وَالِدُ سُلافٍ يَا طرثوث ، لقدْ اسْتولى أخُوه الأكبَر عَلى كُلّ أمْوَالِها التي وَرِثتَها مِن أبِيهَا ، بَلْ وأصَرّ على تَزويجِ سُلاف مِنْ أحَدِ أصدِقاءِهِ الفاسِدِين ، لقدْ طغَى عَلى أهْلِهِ وَجارَ عليْهِم ، فَما كانَ مِنّي إلا أنْ آتِي بِسُلاف إلى هُنا ، فلقَد أوْصَيْتنِي فِيها خيْراً .
.
احتارَ طرثُوثُ وَواسَى سُلاف لِفقدِها وَالدها ولِما جَرَى لهَا في المَدينة ، وأخَذَ يُفكّرُ فِي مَا حَدَثَ ، فَمَا بيْنَ ليلةٍ وَضُحاها تنقلِبُ الأمُور رَأساً عَلى عَقِب ، والمَسار الذي أعدّهُ وَمَشى فِيهِ تغيّرت حَواضِرُهُ وَبَوادِيه ، وَما عادَ الأمْسُ حُطامُ ذِكرى وما عَادتْ الذّكريَاتُ مُجَرّد دَوارِسَ وَأطلال ، بلْ هُوَ المَاءُ الذّي نَزلَ عَلى كُلّ ذِكرى هَامِدة ، فاهتزّت وَرَبَت وَعَادَت لِلحَياةِ كمَا تعُودُ الرّوحُ فِي جَسَدٍ يُنازعُ مَا بَينَ الحَياةِ وَالمَوت ، فعَادَ بِهمْ إلى مَنزِلِ دِرباسَ الذي كانَ يَقولُ لطرثُوث : يَا بُنَيّ إنّما هِيَ هدايا القدَر ، وَما دامَت الأرْواحُ اتّصَلت بِبَعضِها عَلى خيْر ، فسَيَجمَعُها الرّحمنُ إذا شَاءَ على خيَرٍ فِي الدّنيا وَالآخِرَة ، وَمَن ترَكَ شيْئا لله عَوّضهُ الله خيراً مِنهُ ، رُبّما أرَدّتَ أنْ تكونَ بَعيداً عَن حُبٍ يَشغَلكَ عَن بَحثِكَ وَطلبِكَ لِلحقيقة ، وَلكنّهُ اليَومَ يَأتِيكَ وَيشدُّ مِن أزرِكَ فِي طريقٍ أرَدّتَ أنْ تسيرَ فِيه بَلْ وَنذرتَ نَفسَكَ إليْهِ ، هَذِهِ بِضاعَتُكم رَدّتَ إليْكم ، رَدّ عليه طرثُوث : لقد كُنتُ مِمّن كان يَسْعى إليهِ فيُعيينِي تَطلّبُهُ ، وَها أنَذا هُنا يَسعى إليّ دونَ عَناءِ ، لقدْ استَضفتني يَا دِرباس بِكرمِكَ وَعِلمِكَ وَحِكمَتِكَ ، وَكُنتَ لِي بِشارَة خَيرٍ وَلن أنْسِى صَنيعَك هذا ، سَنلتقي فِي يَوم من الأيام ، وجميلك هذا سيظلُّ في عُنقي إلى آخِر يومٍ في حياتي .
.
غادَروا جَميعاً هَذِهِ القرْية ، وكانَ طرثوث أشدّهم فرحاً وكانَ يبدو عليْه ذلك ، فَلا تَزالُ عيناهُ تنظرُإلى وجْه سُلاف ، وكانَت تقولُ لهُ بِكلّ خَجَل وحَياء : انْظر إلى الطّريق يا طَرثوث ، فإنْ ضَللنا الطّريق سَتأكلنا السّباع فِي ليْلتِنا هَذِهِ ، وكانَ مَحروس يَرى ذلك بَادياً فِيهما ، وكانَ يشْعر بِالفَرق لَحْظة تَوديع طَرثوث مِن المَدينة وَبيْن ما يَراه اليَوم ، لقدْ كانَ الحُبّ جَاذباً قوياً لهُمَا ، فلمْ تكنْ المَسَافة أوْ الزّمان حَاجزاً بيْنهما ولكنْ كانت دافِعاً لأنْ يَلتقِيا فِي الزّمان المُقدّر وَالمَكان المُقرّر، هكذا سيرَة العُشّاق الذين قرأنا سِيرَتهم ، لقدْ كانَ العِشقُ رَابِطاً من رَوابِط الحَياة التي لا تفنَى وَلا تَمُوت ، وَإنّما تَمتدّ مِن الأرْواح العَاشِقة إلى حَيث لا تنتهي تِلك المَنزِلة ، رُبّما يَجد النّاس صُوراً كثيرة عَن العِشْق وَلكن مِنَ الصّعب أنْ يَجد العِشق ذاتَه ، ذلكَ العِشق الذّي يَجعَلُ مِن مُضغَة الجَسَد مَجرّة مِن مَجرّات الكوْن تدور حَوْلها نُجوم السّماء وَأجرام الفَضاء بِعدَدَ لا يُحْصى مِن ذرّات المَحبّة التي تمْلأهُ بِالغرَام وَالعِشق وَالأنس بِالمَحبُوب .
.
ذلكَ هُو الحُلم الذّي كانَ يُراود طرثوث فِي المَنام ، فلقدْ أيقظهُ أذانُ الفَجر لِيلتفِت إلى يَمينه وَشماله محاولاً التثبّت مِن الحقيقة التّي أفسَدَت عليْه ذلكَ الحُلم الجَمَيل ، فلمْ يَجِد مَحبوبَته سُلاف ولا شَقيقه مَحروس بِجانِبه ، وَكانَ عقله البَاطن يَرسُم لهُ صُوراً مِن الخَيال عمّا يَشغل تفكيرَه ، فابتسَم طرثوث وَقالَ في نفسِه : يكفيني أنّها زائِرتي فِي المَنام ، وَمؤنِسَتي فِي الأحْلام ، عِندَها أتاه دِرباس لِيقول له : انهَض يَا مَحروس لقدْ نودِيَ للصّلاة قُم وَتوضّأ وَتعال مَعي إلى المَسَجد القريب ، فبعدَ الصّلاة سَنلتقي بِالشيخ مَحفوظ لعلّه يَنفعك بِما تسْمَع مِنه ، وَلا تدعَه دُونَ أن تسأله فإنّه رَجل ذو عِلم وَحِكمَة وَمشَهود لهُ بِالخيَر وَالصّلاح ، فقالَ طرثوث وَهوَ مُشتت الذّهن : أجلْ أجلْ ، سَألحق بك إنْ شاءَ الله سَألحق بِك .
.
ذهَبَ طرثوث إلى المَسجد وَصلّى صَلاة الفجر في جَماعة وَبعدَ أنْ انتهَت الصّلاة جَلسَ يَستذكِر مَا رآه في المَنام ، ثمّ قطعَ عليْه دِرباس ذلكَ ليَدعُوه إلى زَاوية المَسْجد حيْث الشّيخ مَحفوظ جالس وَحوْله مَجموعة مِن النّاس ، فانفضّ النّاس مِن حَوله وَاقتربَ درِباس مِنه وَقال : هَذا هوَ طرثوث الذّي أخبرْتك عنه قبْل الصّلاة ، إنّه طالبُ عِلم وَمحبّ للحِكمة ، وإنّه في طريقهِ إلى بلاد العجائب ، فقالَ الشّيخ مَحفوظ : أهلاً بكَ يَا بَنيّ وإنّه ليسرّني أنْ ألتقِي بِهمّة الشباب التي تُعيد لي ذكريات الزّمن الجميل ، هلْ لديك حاجة فنقضيها لك ؟ أو سُؤال فنجيبه لك ؟ أو مَسألة فنعينكَ عليْها ؟ فقالَ طرثوث : لقدْ راوَدنِي الليلة حُلم كذا وكذا ، وَلقد استمرت أحلامي ورؤاي على هذه الحال ، فبماذا تجيبني وبماذا تنصحني أيها الشيخ الجليل ؟
.
فقال له الشيخ محفوظ : إنك تركت شيئا من روحك هناك ، ولقد يأتيك خبرها في المنام ، إن الحلم الذي رأيته البارحة يخبرك بندم وحسرة والد محبوبتك ، كما يخبرك بشديد اشتياقها إليك ، ويخبرك بأن أخاك يحفظ عهدك قدر استطاعته ، يا بني إن النفس بسيطة ذات شرف وكمال ، عظيمة الشأن ، جوهرها من جوهر البارئ عز وجلّ ، وهذه النفس لا تنام البتة لأنها في وقت النوم تترك استعمال الحواس ، وتبقى محصورة فتعلم كل ما في العوالم وكل ظاهر وخفي ، ولو كانت هذه النفس تنام ، لما كان الإنسان – إذا رأى في النوم شيئا – يعلم أنه في النوم ، بل لا يفرِّق بينه و بين ما كان في اليقظة .
..
وإذا بلغت هذه النفس مبلغها في الطهارة ، رأت في النوم عجائب الأحلام ، وخاطبتها الأنفس التي فارقت الأبدان ، وأفاض عليها الباري من نوره ورحمته ، فتلتذُّ حينئذ لذة دائمة ، فوق كل لذة تكون بالمطعم و المشرب والنكاح والسماع والنظر والشم واللمس ، لأن هذه لذَّات حسية دنسة تعقب الأذى ، وتلك لذة إلهية روحانية تعقب الشرف الأعظم ، والشقي المغرور الجاهل من رضي لنفسه بلذات الحس ، وكانت هي أكثر أغراضه ، ومنتهى غايته ، وإنما نجيء في هذا العالم في شبه المعبر والجسر الذي تسير عليه السيارة ، ليس لنا مقام يطول ، وأما مقامنا ومستقرُّنا الذي نتوقع فهو العالم الأعلى الشريف ، الذي تنتقل إليه نفوسنا بعد الموت ، حيث تقرب من باريها ، وتقرب من نوره ورحمته .
.
سمع طرثوث لنصح الشيخ محفوظ وهو مشدوه مشدود ، تام التركيز ومتوافق الفكر مع نظرة الشيخ محفوظ للأحلام ، فطرثوث كان لا يكترث كثيرا بتفسير ما تخبره النفس لحظة المنام وما يحدث له ، لكن بعد تعلق الروح بشيء أصبح يشعر بصلة غريبة تجمعه مع الروح التي اتصل بها ، حتى أنه في أتم اليقين أن التقاءه بسلاف لم يكن مجرد أضغاث أحلام ، بل هي حقيقة مكنت له التواصل معها في لحظة انعتاق روحه من الجسد في وقت النوم وهروبها إلى مستقرها ومستودعها وموطنها الذي تحيا به في سعادة وتعيش بها في نعيم ، ثم شكرالشيخ على نصحه الذي خفف من حيرته وظنونه وذهب إلى بيت درباس حتى يجمع أمتعته ويستعد إلى الرحيل ، ولكن قبل أن يجهز أمتعته أراد درباس أن يودعه وينصحه فقال له : يا بني اعلم وأنت في بداية رحلتك الموفقة بإذن الله ، أنك على الحق ما دمت في طلب العلم والبحث عن الحقيقة ، وإن كنت لي من السامعين فإني أنصحك بأن تكمل طريقك إلى وجهتك التي أردت فإن الإنسان إذا شغلته أهواءه عن تحصيل العلم والمعرفة ، فسيبقى في حسرة وندم ما دام الوصل بالمحبوبة يستحيل عليه ويصعب مناله ويشقى عليه ، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه .
انتهى الجزء الأول