- الأب : إنك لا تعرف يا خالد كم عانيت من أجلكم !
- خالد : متى ستأتي يا والدي ؟ لا تنس اتفاقنا فقد بلغت أمس عشرين عاما .
- الأب : لقد ذكرتني يا خالد، عشرين عاما؟ هل يعقل هذا ؟ تبعثرت عشرون عاما في هذه الغربة؟ أتذكر يوم بشرني صديقي بأن اسمي وقع في القرعة؛ للعمل بالخليج معلما، لقد كنت ابن شهرين يا خالد، كانت البراءة مرسومة على ملامحك، والنبوغ يشع من عينيك.
وأذكر أيضا عندما أتينا أول مرة لنعيش معا أجمل لحظات عمرنا، في هذه القرية الوادعة بين الجبال الراسية المطمئنة، لقد كنت أرهب هذه الجبال عندما رأيتها أول مرة وشعرت أنها ثقيلة على نفسي كالهم الذي اعتراني عندما فارقتكما، لقد اعتدت عليها فلا أتخيل هذه القرية دونها، وقد يعتاد الإنسان أي شيء!
- خالد : وما أخبار سيارتي الصغيرة يا والـ..... انقطع الصوت .تسربت من عينيه نظرة بطيئة بهذه التجاعيد التي تلتف حولها كما تلتف الزهرة على نفسها وقت الأصيل، وتسلقت إلى هذه الشاشة اللامعة المضيئة، المرسوم على خلفيتها صورة لابنه في عامه الثاني.يا للحظ ، دائما يتجنبني الحظ! فلقد فشلت خطوبتي أول مرة ، وتأخرت في زواجي ، وجاءني خالد بعد خمس سنوات من الزواج، وخسرت الـ..... تحركت هذه الأنامل المرتعشة ونقرت نقرة على هذا الكائن الذي لا يهدأ ولا يمل الحركة ، ليتني أكون نشيطا مثله – وأزاحت هذه الغرفة الصوتية من وجه هذه الشاشة اللامعة، وبدأت تصنع غرفة جديدة . إن شاء الله تكون غرفة أوسع من غرفتي التي بنيتها ولم أجلس فيها إلا شهورا معدودة .لم يفلح الأمر ، ألم أقل : دائما يخاصمني الحظ!نهض من كرسيه الذي لا زال يحتفظ به كما يحتفظ ببعض الذكريات، وأماط عنه هذا الكسل المعتاد، ومرر رجليه من بين بعض أواني الطعام التي لا زالت في مكانها منذ فرغ من غدائه ، وعمل لنفسه كوبا من الشاي الأحمر، وعاد إلى شاشته اللامعة.دقق النظر فإذا جملة أرسلت من ابنه :
- خالد : متى قدومك يا والدي ؟
- الأب : عقب أربعين يوما يا ولدي؛ لأكون قد لبثت في غربتي عشرين سنة إلا عشرين يوما.
تجمعت عليه غربتان، البعد عن وطنه، والعزلة التي فرضت عليه بعدما تخرج خالد من الثانوية وعاد إلى بلده ليدرس في الجامعة ورحلت معه أمه، ما كان يدري أن ألم الوحدة أصعب مئات الأضعاف من ألم الغربة.جاءت الإجازة السنوية، وعاد الأب إلى أسرته الصغيرة التي يحرم منها عشرة شهور كل عام، لم تعد يداه قادرتين على ضم ولده ابن العشرين بالقوة نفسها التي كانت تضمه عندما كان من السهل أن تحيط به، وتلقى خالد هداياه بعين لامعة، كشاشة أبيه التي خلفها تعاني الوحدة مدة شهرين كاملين. أمضت الأسرة أياما سعيدة، وأنجز الأب اتفاقه الذي أبرمه مع ولده، ها هو المفتاح باللون الفضي المتلألئ، وسلسلته الذهبية يصدر أروع لحن وأجمل نغمة، تقرع هذا القلب الفتي معلنة هطل الأماني التي كان يخطط لها، اقترب موعد تحقيق كل ما تمناه . يا ترى متى تغادر الطائرة؟بدأت فرحة الاستقبال تتلاشى ويفتر وهجها، وبدأت هذه العيون اللامعة ينطفئ بريقها، وبدأ الأسبوع الثاني من الأجازة يمضي بخطى وئيدة كأنه يحمل هموم الأب المغترب، وعادت هذه العيون بتجاعيدها الدائرية تبحث عن رفيق في غربتها الجديدة، لقد وجدته، شاشة أكبر بقليل من الشاشة التي تركها مع أواني الغذاء المبعثرة.وفي اليوم الأخير من السنة العشرين، وبعد عشرين يوما خلت من إجازته السنوية.
بينما ينتظر الليل فجرا جديدا متثاقلا، تبحث العيون ذات الجفون الهرمة عن مسلسل في هذه الشاشة الكبيرة بوساطة هذه الأزرار الحمراء التي تشبه كوب الشاي الذي اعتادت هذه الأيدي المرتعشة أن تداعبه كل مساء، وهناك على الطرف الآخر وخلف هذه الحجرة التي صنعها ولم يسكنها إلا شهورا معدودة، يمكث خالد مع أمه، ولا يتسلل إلى سمع الأب من حديثهما إلا بعض الأصوات التي تتخلل الصمت المؤقت لهذه الشاشة الفضية اللامعة.اقترب موعد النوم مع اقتراب الفجر الذي يتهادى متململا، قام الأب إلى الحمام الذي يجاور الغرفة الكبيرة منذ زمن، وفجأة انغرست قدماه في هذا الرخام الأسود، بينما تراقب عيناه هذه السلسلة الذهبية مع مفتاحها الجديد، وكفت أذناه عن تقبل أي صوت واتجهت بكل قواها وقدرتها نحو صوت صادر على استحياء يهمس في أذن أمه : متى سيرحل والدي؟استمد كل قوة بقيت له من أطلال عشرين سنة مرت، وجمع شمله الذي بدده باحثا عن المال، وأمر رجله فتحركت ببطء إلى هذا الحمام البعيد جدا، ومكث فيه زمنا يقول: من يطفئ بعض النار التي أوقدتها؟