Image خلف غيمَةٍ أبدية , تربضُ المدينة بسلام , تندسُ بين رذاذِ الحلم , وتغفو على أكفُفٍ من مَطر , في ميدانِها الفسيح , قصرٌ مزهوٌّ منيف , يمُدُ أذرعته لاحتضانِ المدينة , وأعناقه لمُباهاةِ السماء , تتكومُ قببهُ فوق أسقفه كشموسٍ تنزّلت من الأفق البعيد , خاشِعةٌ حيطانُهِ في هذه الليلةِ السرمدية , تتمتم بتعويذاتِ وتمتمات دفعًا لدياجيرِ الظلامِ وأشباحه , تسكنُ البهوَ العتيق خيفةٌ مُهيبة , وتجوبُ أرجاءَهُ نسيّماتُ باردة تتوّغلُ في صمتِهِ خلسة , نُعاسُ يغشى الجميع , ويراوِدُ أعينَ الحَرسِ عن أجفانها .
في طابقٍ علويّ تقفُ أميرة القصر منعكسة ً في حُضنِ مرآتها , تتأملُ صفاءَ قلبها , وصباحة َ وجهها , ونضارةَ شبابها , تخطُّ على طرفِ أهدابها خطًا نسلتهُ من رداءِ الليل , تغرس في أذنها قرطًا لؤلئي , وفي جيدها رياضًا عابقة اقتطفتها من زجاجةِ العطر , تتناولُ مشطًا من خشبِ الصندل على أطرافهِ نقوشٌ زاهية , تسرّحُ به شعرها على مضض , لتتركه بعد ذاك عُرضة ً لمداعباتِ الرياح , تلك المنبعثة من الشرفةِ الشرقية , حيثُ تُشرّعُ أبوابها حينَ ينتصفُ القمر ..

باتجاهِ السرير الصغير , تمضي بخُطـًا متهادية , تتبعها أطرافُ الثوبِ الأبيضِ الطويل , وخصلاتُ شعرها المتطايرة, تلقي في حِجرهِ نظرةً حانية , تحتضنُ بها تلك المخلوقةُ الورديّة الشفيفة , الملتحفة بقماش ٍ أبيض , كأنها ملاكُ متجسدٌ بلحظةٍ نورانية , ومتقمصٌ لهيئةٍ بشريةٍ طاهرة , تغمضُ عيّنيّها على الأحلامِ بشدة كي لا تفر , وتحكمُ قبضتها على الأيامِ إحكامًا كي لا تهرب , وتُصِرُّ مع مِهادها جمالها كي يكتملَ ويطغى ..

تطيلُ في ذاكَ الوجه الصغير النظر , تتأمل الخطوط الصغيرة التي تتخربشُ في صفحته , الأنف الذي لا يكادُ يبرز بين الوجنتيّن المستديرتيّن , والشفتيّن الدقيقتّين , كأنهما ثغرُ زهرّة لم تتنفس بعدُ ولم تبلغ الصباح ..

بحذرٍ ولهفة , تدسُ راحتها بينَ الألحفة والجسدِ الصغير , تحملهُ إلى صدرِها مُحاطًا بحبِ الأمِ وشغفها , تضمُ الصغيرة بزفرةٍ عميقة , وتنهيدةٍ تجرُ دمعة ..

على حافةِ الشُرفة تجلسُ مُسندةً ظهرها إلى الحائط , احتفاليةٌ صاخبة , يتزاوجُ فيها ضوءُ البدرِ مع أرجاءِ المدينة , ينعكسُ بينَ طُرقاتها وينثني في تعرجاتها , وينسكب كنهرٍ من الحُبِ في قلوبِ قاطنيها ..

تبتسم وهيَ تتبحرُ في هذه الرحابِ المتسعة , تهربُ مع النفحات القادمة من عمقِ الفضاء , تهبطُ على نجمة , وتقفزُ منها إلى أخرى ..

بهديرٍ عذب , توشوشُ في الأذنِ الصغيرة :

حبيبتي,,

كوني كالقمرِ حينَ اكتماله , توسطي الحياةََ وجَمّليها, كما يتوسطُ هو السماء, توهجي نورًا وطهرا وحُبا , وازدادي كإياهُ جمالاً وألقا , في كل يومِ ينتصفُ به الشهر , ويكتملُ القمر , سأجلِسُكِ في حِجري إلى أن تكبُرين , وسأحكي لكِ أسطورته , تلك التي وقعت قبل آلافِ العصور , حينَ كانت هناك فتاة جميلة تشبهك , تعيشُ في قريةٍ بعيدة , خلفَ مئات الأميال , ووراءَ عشراتِ الأنهار , تفصلها عنا أزمانٌ ومسافاتٌ وحكايات , قيلَ بأن قريتها نُكبت بالكُره والبغض والأحقاد , وانتشرَ الشرُ في نفوسِ الجميع , فقدّمت نفسها قـُربانًا للخيّر , في اليومِ الخامسِ عشر من الشهر , اختارت الرحيل , عرَجَت على أعتابِ السماء , غرست في ظُلمةِ الليلِ قلبَها الأبيض , وسكبت في نفس كل إنسانٍ على وجه الأرض نجمة ً بيضاء ..
فهاهيَ تطلُ علينا منذ أمدٍ بعيد , كلما انتصف الشهر , لتُحيي ذكرى الخيرِ في نفوسنا , تطمئنُ على نومنا الهانئ في كـَنفِ عنايتها , وتحيطُ بأنوارها القلوبَ العاشقة ..

صغيرتي ,,

أرادكِ الملكُ أن تكوني للعرشِ ورثيا , وأرادكِ اللهُ أن تكوني لي أنثـًا رقيقة ً جميلة وليس الذكر كالأنثى , فهباني إياكِ هبة ً أسعدُ بها العُمرَ كُله ولا أشقى , أرى فيكِ ابتسامة ً جذلى, وشقاوةً متغنجة , وجمالاً متأججا , وروحًا متطهّرة , وعقلاً للعلمِ متوثبا , وقلبًا للكلِ متسعًا ومشتملا , فكوني كما أراكِ يا مغنمي من هذه الدنيا ..

أميرتي ,,

إن الحياةَ تبدأُ في أجسادنا منذُ النبضةِ الأولى , وفي أعيننا منذُ النظرةِ الأولى , وفي آذاننا منذُ الهمسةِ الأولى , أما في قلوبنا , فإنها لا تبدأ إلا بالفطرةِ الأولى , فكوني كما فُطرتي على حُبِ الله , والله جميلٌ يحبُ كلَ جميل , فكوني جميلة , وأحبي الجمالَ أيًا كان وفي أي مكان , أبحثي عنه في ثنايا الأنفس وليس في قسماتِ الوجوهِ فقط , وإن لم تجديه , كوني حريصة ً على خلقهِ وإيجاده , ألقيهِ بذرةً واسقيهِ من معينك , حتمًا سيربو , سينمو ويثمر ..

مليكتي ,,

بالحبِ وحده تحيا القلوب , وتسعد الأرواح , وتزدهر النفوس , فقلبٌ بلا حب , هو قلبٌ مقفرٌ لا يحيا به صاحبُـهُ بل به يموت , عمّري بالحبِ قلبَكِ , واغمري به نفسَكِ وغيرك , لا تبخلي بنبضةٍ منه , أو تستأثري بهمسةٍ من همساته , أفيضيهِ على الحياة , وأغدقي به على الناس ِ من حولك , أحبي الجمالَ لأنه جميل , وأحبي الخيرَ لأنه خَيِّر , وأحبي الناسَ لأنكِ منهم جزء ,,
إياكِ والبغضُ يا صغيرتي , فإنه داءٌ إن ابتدأ استفحل , وإن استفحل تأبّد فلا سبيلَ منهُ للخلاص , وأعلمي أن القلب الذي يُبغض لا محل فيه للحب , فهما نقيضان لا يجتمعان , ولا يتوائمان ِ في قلبٍ واحد , وأن من استبدل بالحبِ بُغضا , فهو قد أبغض نفسه قبل أن يبغضَ غيره , وآذى نقاءه وسلامة سريرته , قبل أن يؤذي خصمه
حافظي على قلبـِكِ غضـًا طريًا أبيضا , كما هوَ بيّن يديّ الآن يا ملاكي الحبيب ..


بنيتي ,,

الناسُ في هذه الحياة مختلفون , لن يشبهوكِ جميعهم , وليسوا كما تُريدينَ دوما , فالحياةُ بستان , والناسُ فيها غِراس , منهم النخلةُ الأبيّةُ الأصيلة , تُعطيكِ ولا تبخل , تسنُدكِ في الضيقِ والرخاء , ولا تطلبُ منكِ جزاءً أو شكورا , ومنهم الأعشابُ الضارّة التي تنمو حول هذه النخلة , فتنخرُ جذعها , وتضعفُ جذرها , وتجفف ماءها إلى أن يضمر ظلها ويشح ثمرها , فاحرصي على تعميرِ بستانكِ بالنخيل وهم الأصدقاء , وتطهيره ممن يتطفل حولهم من الوشاة ..
ومن الناس ِ أزهارٌ ملوّنة , لها ألوانُ جميلة , وأشكالٌ مبهجة , وروائحٌ شذيّة , لا تزهرُ إلا في الربيع , ولا تبهجكِ بعده , فجمليّ بها بستانكِ إن حضرَ موعدها , ومتعي بها ناظريك ,
وإن أزفت على الرحيل , أحسني إليها وبوحي لها بشوقكِ لعودتها , فإنما الناسُ أغلبهم كذلك , يغدون ويروحون بين حينٍ وآخر ..
ومن الناس ِ حنظلٌ مر, إن رأيته ساءكِ شكله , وإن لمسته آلمكِ شوكه , وإن تذوقته راعكِ طعمه , فحذارٌ حذار , من هذا الغرس ِ أن يدخل بستانك ..


مُبهجتي وقرّة عيني ,,

لا تبحثي عن السعادةِ في مالٍ تجمعينه, أو جوهرٍ تتقلدينه , أو ثناءٍ تسمعينه , أو جمالٍ في مُحياكِ تنظرينه , إنما السعادة ُ في رِضًا عن الحال ِ الذيٍ تكتنفينه , وقناعةٍ تجبُ عن نفسكِ الطمع , وتذبُ عنها الجشعَ والأنانية ,,
السعادة ُ لن تجديها في سريرٍ وثير , أو دثارٍ من حرير , أو في نومٍ وخـَدمٍ وكسَل , إنما هيَ بالبذلِ والجهدِ والعطاء , فللعطاءِ لذة , لا تماثلها نزوةُ الأخذ , وفيه متعة تجلو مشقته , بل تحيلها بهجة ً وسرورا , وعلى قدرِ مشقة العطاء والجهد المبذول في سبيله , تكون السعادة ..
فابتسامةٌ ترتسمُ على ثغركِ , لن تماثلها ابتسامةٌ تغمرُكِ إن كنتِ سببًا في ابتسامِ غيرك , ثقي يا حبيبتي , إن النفوس العظيمة هي وحدها التي تستشعر لذة العطاء , أما النفوس الوضيعة فهي التي ترتضي الأخذ سبيلاً أوحدًا لها في هذه الحياة ..


غاليتي ,,

سَيِجي بالفضيلةِ حماكِ , ورصعيها جوهرًا نفيسًا على هام ِ أفعالـِك , كوني نقية ً طاهرة , عفيفة ً عن الرذائل ِ متعففة , فالفضيلة ُ طهرٌ ونورٌ ينعكسُ على جبينِ المتطهرين , والرذيلة ُ نكتة ٌ سوداء , يُنكت ُ بها على قلبِ المرء وجبينه , فلا يستطيعُ منها فكاكـًا أو لها محوا ,,
والفضيلة ُ فطرة ٌ في الإنسانِ عامة , والفتاةِ خاصة , فطبيعتها تقتضي أن تكونَ فاضلة ً طاهرة , لتزداد َ بطهرها جمالا , وبفضيلتها تألقـًا ودلالا ..
ومن تكون غير ذلك , تشمئزُ منها النفوس , وتنفر عنها القلوب , ولا تجدُ لها قبولا ً حتى في نفسها !


طفلتي ,,

لا تكبري أبدًا , لا تدعي السنون توهمكِ بأن العمر قد تقدّم وزاد , أو رحلَ وانقضى , كوني دومًا طفلة , بقلبٍ غضٍ صغير, ينضحُ أملا , ويقبلُ على الحياةِ دونما إدبار, مفعمٌ بالحيويةِ والفرح , يستمدُ وجودَهُ من الجمالِ حوله , كحّلي بدهشةِ الأطفالِ عينيّكِ , واغسلي بنقاءِ فطرتهم روحَكِ العذبة , كوني على السجيّة , بسيطة ً جميلة ً غير متكلفةٍ ولا مُتنطعة , حافظي في نفسكِ على طراوتهم ونداوتهم , ودلالهم وشقاوتهم .
كوني على يقين , كوني على يقين ٍ يا طفلتي بأن الطفولة ليست مرحلة ً عمرية ً يعبرها الإنسان في بداية حياته فقط , بل هيَ التجّلي الأسمى للصورةِ الإنسانيةِ الحقة .
كل الناس سيصبحوا أطفالاً ابتداءً , ولكن القليلُ منهم , القليلُ فقط هم الذين سيحافظوا على طفولةِ قلوبهم , سيبقون طِوالَ حياتهم عصافيرًا هبطت من الجنة , أوفراشاتٍ وُلدت بين الزهور , أو أقواسَ قُزح ٍ ارتسمت ابتساماتٍ على وجهِ المطر ..


حبيبتي ,,

إن الليلَ أزفَ على الرحيل , وعزَمَ على المُضيِّ في سفرهِ الدائب , فها هوَ يجمعُ أطراف ثوبه , ويكنسُ بقايا ظلامه , ويحيلُ اسوداده غبشًا مختلطًا ببياض ِ الفجر.
والفجرُ عادة ً يرفعُ الأستار , ويفضحُ الأسرار , ويمحو كلامَ الليلِ بالنهار , فقبل أن يأتينا بغتة , ويسرق منا تعاويذنا وهمهماتنا ونجوانا , سأعيدُكِ لمخدعكِ الطاهر , وسأربطُ على أذنيّكِ بقبلة ٍ حانية , لتحفظ َ ما بثثتُ بها من روحي , فلا تدعي همسة ً تتلاشى في غمرةِ الأيام , أو كلمة ً تتساقطُ مع مرِّ السنون , بل اجعلي كلماتي لكِ نبراسا , وانثريها في سمائكِ نجومًا تهديكِ الطريق ..

.
.

وضمتِ الأميرة ُ إلى صدرها طفلتـَها الصغيرة , سارت بها بخطواتٍ متباطئةٍ نحوَ سريرها الحريريُّ الصغير , قرأت في أذنيها المعوّذات, وحصّنتها بأدعيةٍ وآيات , ثم غرست على جبينها قبلة .
بحذرٍ ولطف , وضعتها حيثُ كانت , وغمرتها بنظراتٍ متلهّفة قبل أن تودعها وتلجاُ إلى مخدعها الملكيّ خلفَ الغلالاتِ والأستار .


من فضاءٍ بعيد , مترامٍ مُتسع , كان َ القمرُ حين يكتمل يُطلُ كلَ شهر ٍ في تلك الشرفة , ويحكي لصغيراته الملتفاتِ حوله من نجومِ السماء هذه الحكاية !

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية