أبهرته مسقط بما تحتويه من مناظر وشوارع، أعجبه تناسق المباني والبيوت البيضاء، كانت مسقط تحتفل بالعيد الوطني التاسع والثلاثين ...مسقط عالم جديد في مسارات حياته، لم يستطع الاندماج فيه والتكيف مع مزيج البشر القادمين من عدة ولايات ومناطق، وهو القادم من القرية، يجد نفسه مندهشا أمام كم المتناقضات العجيبة في هذه المدينة، كل شي فيها يلهث وراء المجهول. لم يشعر بالأيام فقد مرت سريعا، قضى وقته بين العمل صباحا في أحضان السيارات وفي المساء أشغله التردد على بيت خاله، يجالس الخال وابنته وهو الذي لم يحادث أي بنت قط، فاجأته في إحدى الليالي إنها لا تحب القرية والنخيل والبيوت القديمة والناس البسطاء، فلا تتصور يوما العيش في القرية وترك أجواء مسقط والمجمعات التجارية وصالونات التجميل، عندئذ أدرك مساحة الهوة بينه وبينها، وحجم الغربة في وجدانه بسبب هذا المكان، وزادت تصرفات ابن خاله المنحرفة شعوره بالضيق، يراه دوما في حالة رثة وملابس عجيبة وروائح كريهة، يصل البيت متأخرا، يتقزز منه عندما يرى حالة الشجار والصراخ بينه وبين أبيه. عاد به عقله مرة أخرى إلى أفكار البقاء والرحيل، يرى عشرات الريالات تتوزع في جوانب السرير، في تلك اللحظات دخل الغرفة رفيقه سالم وبادره على عجل بسؤال: ماذا ستفعل براتبك؟ لم يجيب صديقه بل أشاح بوجهه ناحية النافذة كأنه يخاطب ذاته: أهملت "النخل"(1)، فرطت بقرب أمي، فقدت الإحساس بالأمان، لم أحادث والدتي سوى أربع مرات فقط، كم حجم الشوق الذي يعتريني حتى أقبل رأسها، لم أتناول أكلتي المفضلة " العرسية "(2) منذ شهر، خلى جوفي من فواكه القرية كالهمبه والجوافه والفرصاد والبيذام والنبق(3)، ولم تستنشق أنفاسي هواء النخل النظيف الذي لم تلوثه سيارات وبيوت ومصانع المدينة.
أوقدت تلك الصور الحنين إلى ارث جده الكتب، والخنجر، والعصا، كم كان يوصيه خيرا بأمه والنخل، تذكر صراعه مع الوادي الذي اجتاح القرية في أحدى الأيام واغرق النخل والأشجار بالمياه وأفسد الرطب المجفف الذي نثره على الدعن (4)، كان هو وجده يخوضان الوادي من دن خوف ورهبة، في تلك اللحظة عصف بقلبه شوق، أرجعه إلى لذة صلاة الجماعة في مسجد القرية، ومتعة الهيام في حلقات المالد(5)، تشابكت أصابع يديه، ضعت على يديه بقوة، أحسن الآن بتأنيب الضمير وأدرك غلطته الكبيرة، لقد تنازل عن كل تلك الأشياء الجميلة وماذا كان المقابل؟ حفنة من المال وهروب من أحاسيس الخجل التي يشعر بها بسبب سيرة والده السكير المدمن.
كان سالم ينظر إليه وكله دهشة واستغراب من سرحان صديقه وهو ينادي صاحبه بصوت عالي: محمد ، محمد.محمد: بدت عليه علامات الضيق لان سالم قطع حبل أفكاره، قائلا: ماذا تريد؟سالم: بأي أمر تفكر؟ هل بمفاتحة والدتك في خطبة ابنة خالك؟ لم ينطق ولكن لوح رأسه مشيرا بالجواب لا، لم يسفر حواره الذاتي عن قرار. بعد سكوته لعدة دقائق، حدق في الساعة الدائرية الموجودة في وسط الغرفة ثم قال بصوت تبدو عليه علامات التعب وكأنه أراد الهروب من كل تلك التساؤلات: يجب أن ننام، غدا أمامنا عمل شاق وطريق طويل إلى البلد. في الصباح وعلى الجانب الآخر، استيقظت الأم، كانت متعبة لأنها لم تنم تلك الليلة فقد نهش صدرها القلق والخوف طوال الليل، تحس بالساعات والدقائق تمر بطيئة، قصدت النخل خلف البيت المتواضع، حامله في اليد اليمنى " الكمة "(6) هدية محمد وفي إبطها الأيسر "الحصير"، بمجرد دخولها النخل أسرعت إلى السدرة الموجودة بجانب الساقية، فرشت الحصير، أخذت تتأمل المكان، تاهت وسط أنواع الزهور المتباينة التي تحيط بسدرة النبق. هي امرأة صلبة، تقاسيم الشيب غزت ملامح وجهها منذ سنين عدة، صهرتها سنوات الفقر والمعاناة ولوعة المآسي، فزوجها السكير المدمن هجرها واغرق نفسه في عوالم الإدمان والفجور، ثم فقدت ابنتها الوحيدة بعد أن ذاقت سم المرض، وسكنها الألم حينما خطف الموت أبوها وسندها الوحيد في هذه الحياة، كل ذلك زرع في نفسها عوالم الخوف والقلق المستمر من المستقبل .
وسط كل هذه العوالم المخيفة، وجدت في " محمد" أملها المفقود، ضحت وناضلت من اجله، أطعمته أنبل الأخلاق، كافحت لأجل تربيته، ولم تعتمد فقط على معاش الضمان الاجتماعي الضئيل بل تحدت ذل الفقر وقهرت الظروف، كانت تبيع فواكه النخل في السوق صباحا وتخيط أجمل الكميم على ماكينة الخياطة ليلا، حبات النبق الحمراء الموجودة على أطراف الحصير شاهدة على تلك الليالي المريرة. أمعنت النظر في السدرة كأنها لأول مرة ترى أوراقها اليابسة، فجأة اختطفتها نسمات الهواء الباردة نحو حوارها الداخلي ونفسها الملتهبة بخليط من الأحاسيس، لازالت لم تتخلص من كم الهواجس والمخاوف التي سكنتها منذ غياب الابن، تكافح تلك الوساوس بقراءة آيات القران وكلمات الاستعاذة، تجذبها الذكريات لا شعوريا نحو الماضي، يلوح بذهنها منظر جلوس الثلاثة الأب والبنت والولد"محمد" على الحصير، جميعهم رحلوا ولما يبقى في هذا المكان إلا هي ..يغمرها الآن إحساس أكثر عنفا ممزوج بالخوف والشوق لرؤية الابن. أرادت قتل ساعات الانتظار، الوقت بطئ جدا..نظرت في الوادي، رأت ملامح لقادم باتجاه النخل، أيكون هو لا لا مستحيل لازال الوقت باكرا، اقترب القادم، اتضحت ملامحه إنها خديجة جارتها ، انفرجت شفتيها عن ابتسامة مصطنعة، ثم دعتها للجلوس، أباحت لها بقلقها المزعج، لكن خديجة المفعمة بالأخبار والسوالف هدأت من قلقها قائلة: سيعود ..سيعود.. لا داعي لكل هذا الخوف والقلق، ثم أسرعت بالحديث عن علوم القرية وما حدث لفلان وعلان، لكن سيطر على أم محمد قلقها وتفكيرها بابنها على الرغم من وجود خديجة التي أحست بذلك لتستأذن بعد ربع ساعة.
مرت الساعات ، وزادت المخاوف، وتضاعفت الصور المخيفة في مخيلتها لتأخر قدومه، تعوذت من تلك المخاوف لكن بدون فائدة، ذهبت إلى البيت وأحضرت أكلته المفضلة والفواكه، مر وقت الغداء ولم يأتي وها هي الساعة تقترب من الرابعة والنصف، تحس بالعطش ولكن تريد أن تروي أولا عطش قلبها برؤية محمد، اتجهت مرة ثانية إلى رفيقتها الوحيدة السدرة، تأبى ذكريات الماضي الرحيل، تفرض نفسها بقوة، فتخرج دمعة حارة من عيناها الضيقتين، خفضت رأسها فانحنى ظهرها المتعب، أدركت إنها امرأة ممزقة وضائعة، ترى في غياب الابن ضياع الكون بأكمله، دخلت في عالم آخر، افقدها الإحساس بكل الأشجار والنخيل والطيور والجو الذي حولها، أخذت تهذي بصوت حزين ومخنوق: محمد أباه وينك تعال أنا انتظرك، كررت هذه الجملة عدة مرات، ونيران الندم والظن تشتعل تدريجيا في حنايا قلبها، كأنها تنتظر الخلاص من مخاوف البعد وهواجس الموت. فجأة سمعت صوت يجيب توسلاتها، انتفضت.. رجعت الروح إليها، تركت ذلك العالم وصوبت أحاسيسها ونظراتها إلى مصدر الصوت، وإذا به محمد، يدس رأسه مسرعا في حضنه أمه ويقول والدموع تنهمر من عينيه: أماه لن ارجع لذلك العمل ولن اذهب لمسقط مرة ثانية، سأبقى في القرية للأبد للأبد....تنفست الصعداء، أحست براحة كبيرة، لتنطفئ بعد ذلك نيران الخوف في داخلها وتلفظ هواجس القلق وتخيلات الموت وتشعر بغبطة وسعادة لا متناهية.
____________________________
1-النخل : البستان ، 2- العرسية:أكلة عمانية تقليدية ، 3-فواكه 4-الدعن: ما يوضع عليه الرطب للتجفيف قديما ، 5-المالد: المولد النبوي او البرزنجي ، 6- الكمة: طاقية توضع على الرأس