لم يكن شهر أب بالنسبة لأبو عرا ق شهرا عاديا فأول يوم فيه شهد ولادة أول مولود له وهو ابنه البكر – عراق - والثاني ارتباطه بذكرى مؤلمة قدر الله عليه أن يعيش تفاصيلها وان يكون جزءا منها وان يبقى صداها حاضرا في ذاكرته إلى الأبد وهي غزو صدام لدولة الكويت الشقيقة .
هو ابن لعائلة عريقة ومعروفة بتدينها ومحافظتها على التقاليد والأصول تسلسله كان الأخير في تلك العائلة الكبيرة، والده كان ضابطا كبيرا في الجيش وله صولات وجولات في حرب فلسطين عام 1973 و قد أحيل على التقاعد بعد تلك الحرب وضل مشتغلا بكتابة المذكرات العسكرية والأبحاث التي تتصل بتاريخ العسكرية الإسلامية وفتوحاتها وقد ربى أبناءه على حب الثقافة والقراءة و المعرفة
وقدّر لأبي عراق أن يخطو خطوات أبيه و قد ترك كلية القانون في مرحلتها الأولى والتحق بالكلية العسكرية رغم اعتراض والده الشديد عليه غير انه أصر على رأيه يدفعه لذلك تأثره الشديد بوالده. وتخرج منها والتحق بالجيش في معاركه الأخيرة ضد إيران . وهنا ك عاش تلك الأهوال التي تشيب لها الولدان ومن هنا لم يقتنع يوما بفكرة النصر التي يدعيها كل طرف من أطراف تلك الحرب الضروس.
إن جحيم تلك الحرب الطاحنة و أخلاق الحياة العسكرية لم ينزعا منه تلك الروح الشفافة والضمير المتقد والحس المرهف والقلب الرءوم والنفس الإنساني الحي.
وكل ذاك جعله ينظر للأمور من زاوية مختلفة عما هو سائد ظاهريا في مجتمعه أو في مؤسسته العسكرية التي تتعامل مع هكذا أحداث بنمط صارم يعكس توجه السلطة فقط ؟ .
كان يفلسفها من زاوية إنسانية واجتماعية ودينية ولم يكن يعنيه ذلك التزويق المفتعل للأحداث ولاتلك الشعارات الرنانة التي يرددها مرتزقة القصور وببغاوات السوء ولا تهمه تلك الصورة المشوهة التي يراد لها أن تصور على إنها الواقع المشهود.
لقد رأى كيف هي الحرب تطحن الناس طحنا وتتركهم بين صريع وجريح وأسير وأخر ينتظر نحبه في أي لحظة ومن ورائهم عوائل وأحبة يعيشون القلق ويقتاتون على الخوف ويعدون اللحظات في انتظار أخبار عن ذويهم هناك في ذلك الجحيم المستعر على الحدود
كان يدرك أيضا إن بلده محكوم بقبضة من حديد لرجل شرس لا يتوانى في أن يفتك بأقرب المقربين له.أسس دولة أراد لها أن تكون مفصلة على مقاسه الشرعي الخاص. ولا أحد يدري على أي شرعية يستند من يريد الوطن مزرعة له ولحاشيته، من يريد أن يختزل تاريخ الوطن ماضيه وحاضره ومستقبله باسمه، من يريد أن يسبح الناس بحمده صباح مساء. والويل كل الويل لمن تخلف عن المسير أو غرد خارج السرب.
لقد كان عام 1989 عام هدوء نسبي وقد استراح الناس بحق من ويلات تلك الحرب الطويلة التي أحرقت الأخضر واليابس وأهلكت الحرث والنسل.؟
وجاء عام 1990وابوعراق شأنه كشأن أي ضابط في الجيش منهمك حد العظم في أتون الحياة العسكرية التي طغت بكل تفاصيلها وجزئياتها وأسرارها حتى على حياته المدنية والعائلية ،وصار لزاما عليه وعلى أبناء أسرته وأهله وحتى أصدقاءه أن يتكيفوا مع وضعه الحالي
ورغم كل تلك المصاعب كان صاحبنا كثير المطالعة للكتب وهو متيم بكتابة المذكرات اليومية عن حياته العسكرية شأنه شأن أبيه و التي يريدها أن تكون مرجعا خاصا به .
كان أبو عراق وكغيره من أبناء البلد يرقبون الأحداث التي توالت مع هذا العام الجديد يحمل في تباشيره تداعيات خطيرة
فالوضع السياسي بعد انتهاء الحرب بدء يتغير وبدت في لهجة القيادة العراقية نبرة مركبة فيها شيء من التحدي المعلن لمخططات خارجية مفترضة كانت تستند في مضمونها إلى الوضع الذي أصبح فيه العراق بعد الحرب مع محاولة تضخيم بعض الأعمال الداخلية على أنها منجزات كان لها تداعيات خطيرة على مجمل الوضع الدولي ولقد كان للماكنة الغربية الإعلامية دور بارز في صناعة هذا التوجه الذي قوبل من الماكنة الإعلامية للسلطة بنبرة استخفاف وتحد ٍويبدوا أن موجهيها لازالوا غير مدركين لأبعاد هذه اللهجة التي لم تعد مجدية لبلد لازال جراحه تنز دما ؟
والغريب في تلك النبرة أنها كانت موجهة أيضا ومنذ وقت مبكر نحو بعض الأشقاء العرب و تجاه الكويت تحديدا بحجة اوباخرى وتحت مسميات مشاكل الحدود و النفط وغيرها .
كانت هذه الأحداث تترك أثرها السيئ على الناس و كان أبو عراق يسأل نفسه والمقربين منه هل بالفعل كان هناك نشاط سياسي لحل تلك الإشكالات مع الإخوة وما مقدار جدية أي مسعى ؟ وكيف لنظام العسكر والحزب الواحد والفكر الواحد أن تكون فيه مساحة لرأي مخالف لرأي الزعيم الملهم والقائد الضرورة الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه ؟ ولكن الأحداث أخذت منحى أخر
وما إن جاء شهر تموز حتى اجتمع صدام بقيادة الحرس الجمهوري وهناك توضحت النوايا الجديدة التي هي بنات أفكار نسجها مخ خرب لعب به الخيال الجامح واستولى عليه الكبر واستكان لأوهام القوة الخادعة
وبعد أسبوعين وتحديد في 15-7 صدرت الأوامر الفعلية للتحرك نحو البصرة
وفي اجتماع في مقر اللواء كانت الدهشة والاستغراب بادية على وجوه الحاضرين عن هدف تلك الخطوة وكان الآمر يلمز أبو عراق بنظرة كان يفهم مغزاها جيدا.
وبعد أسبوع تكامل جحفل لوائهم عند منطقة البرجسية قرب صفوان
وكان الضباط والمراتب بحالة نفسية صعبة للغاية وكثيرا ماكانت قوافل المسافرين وعلى طول الطريق المؤدي للمنطقة يسألون الجند أين تذهبون ؟ وكانت الإجابة التقليدية ذاهبون لتمرين ؟ ولم يكن السائل والمسئول مقتنعا بالإجابة ؟.
كان الوضع السياسي غريبا فالحشود الراقية على حدود الكويت اكبر من تخفى على احد وبالفعل جرى تداول هذه القضية كونها فرضية محتملة عملت القيادة العراقية على نفيها خارجيا مع إن واقع الأرض يشير إلى نية مبيتة وأمر دبر بليل !.
الاستطلاعات للمخافر الحدودية الكويتية بدأت فعلا متزامنة مع مفاوضات الساعة الأخيرة بين العراق والكويت.
في ليلة الأول من أب كان أبو عراق يشاهد مع آمره على التلفاز أخبار وصول ولي العهد الكويتي قادما من السعودية وقد قال للصحفيين انه غير متشائم وان الأمر لم يحسم ؟ حينها قال الآمر معلقا إن الأمر لم يحسم عندكم ولكنه قد حسم هناك في بغداد ومنذ زمن؟
قال أبو عراق لآمره مستغلا صلة القربى بينهم في عرض مثل هذه الأمور الخطيرة أسألك بالله أترى نظامنا كان يريد حلا لهذه المعضلة؟
فبادره أمره وما تقول أنت فأجاب أبو عراق اقسم انه لايريده وهنا أومأ آمره برأسه موافقا لرأيه وقام وربت على كتفه وقال له اكتم ذلك وكن حذرا و اذهب واستعد ليوم طويل وأدعو الله كي يجنبنا وأهلنا هناك في الكويت كل مكروه وان يحيل نارنا عليهم بردا وسلاما؟
لم يستطع أبو عراق من النوم ليلتها وكانت عينه ترقب الساعة كل لحظة انتظارا لساعة الشروع في تنفيذ الواجب الذي هو اليوم ليس ككل واجب وليس من قبيل ما اعتاد علية طيلة سنوات الحرب التي خاضها من قبل.انه اليوم غزو بلد واختراق مدن عامرة والله وحده اعلم ماذا ينتظرهم هناك ؟
كان يقول في سره وقد رأى الأمر محسوما وليس هناك مايشير إلى نية للتراجع عنه
ياترى ماذا سيقول الناس عنا غدا؟ وأكثرهم ألان مستغرق في نومه بعد يوم عمل طويل ؟ ماذا سنقول للصغار وقد آخذو مضاجعهم والتحفوا أغطيتهم وأغمضوا أعينهم علهم يستفيقون على صباح جديد مشرق يداعب بانسامه وجوههم البريئة ؟
ياترى من سنكون غدا سببا في قض مضجعه وإقلاق راحته وبث الفزع في روعه
ومن سنكون سببا في فقده لماله أو بيته أو عرضه أو أحبته أو ذويه ؟
كانت هذه الأسئلة البسيطة هي كل ما يسيطر على عقله وهو يدرك إنها في الحياة العسكرية نوع من الضعف ودليل تخاذل أحيانا ؟
هو يدرك تماما ليست معركة مجهولة الوجهة والنتيجة فقط بل فتنة عمياء
ولابد أن تكون لها ضريبة غالية وغالية جدا غدا وبعد غد
كان تشاؤمه هذا مبينا على فكرة رسخت في ذهنه وهي إن صانع هذا القرار لن يردعه شيء عن مسعاه غير إرادة الله جل وعلا التي تسلط عليه من هو اظلم و أقوى منه!
كانت هذه الهواجس تداعب مخه غير انه ضل يقضا وحريصا على أن تضل هذه الخواطر والهواجس حبيسة صدره وسجينة أضلعه ولابد لها أن تضل كذلك إلى ما شاء الله تعالى .
هو كان يدرك حجمه في تلك المؤسسة الضخمة ويعرف جيدا عواقب عصيان الأمر العسكري وتبعات ذلك على نفسه وأهله والمقربين منه، كيف لا وقد رأى بأم عينه في أيام الحرب السابقة مصارع بعض رفاقه وأصحابه مع الكثيرين من العسكر وقد نثرت رؤوسهم بالرصاص بتهم التخاذل وشبه التقصير فقط وصاروا أثرا بعد عين.
لقد تمنى حقيقة أن لايكون في هذا الزمان والمكان ولكنه يؤمن إن مشيئة الله تعالى قد تقدر على الإنسان ماهو خارج عن إرادته وان لم يكن له يد فيه .
وكان يدعو الله وهو بهذا الحال أن يجعله الله سببا في تحقيق لطفه بقضائه الذي لا راد له.
وجاءت ساعة الشروع عند الواحدة من صباح يوم الخميس الثاني من أب:
وأعطيت الأوامر لسرية مغاوير اللواء لاقتحام قلعة السديرية الحدودية وصدرت الأوامر بالحركة وتم اجتياز الحدود الكويتية في حدود الساعة الرابعة كان الغبار المتصاعد من سرف الدروع تشكل خطا عاليا في السماء ومع استمرار سير الدروع أصيبت احد ها إصابة مباشرة من نيران قوة كويتية مدافعة وقد حصلت بعد ذلك اشتباكات عنيفة مع تلك القوة
وعند الساعة السادسة صباحا ومع انكشاف ضوء الشمس وصلت مقدمة اللواء عند منطقة مضيق المطلاع وكا ن اجتيازها صعبا للغاية وكانت الارتال العسكرية الداخلة للكويت تلتقي مع ارتال الشاحنات المدنية المتوجهة للعراق و التي بدا على أصحابها الاندهاش الشديد والصدمة ؟
ومرة أخرى اصطدمت مقدمة اللواء مع شديدة عند منطقة استراحة الحجاج أصيبت احد المدرعات إصابة مباشرة وقد تم الاشتباك مع هذه القوة
كان ابوعراق برفقة آمره وكانت الأعصاب مشدودة والخوف من المقبل والمفاجآت التي لايعلمها إلا الله
واستمرت القوة بالتقدم وقد أخذت الطريق الدائري السادس واجتازت أطراف محافظة الجهراء واستمرت بالتقدم باتجاه العاصمة الكويتية وكان منظر الدروع وهي تخترق الشارع الرئيسي مفزعا للغاية وقد أصيب الناس بسببها بالصدمة والهلع وازدحمت السيارات المدنية وسط هذا الجو المرعب المهول ولم تستطع الارتال العسكرية من السير وسط هذه الحشود الكبيرة من السيارات المدنية وكانت الخشية من اصطدامها بالدروع العسكرية سبب في تأخير الحركة.
بعد الساعة الثامنة من هذا الصباح وصل الازدحام حدا لايطاق وقد نزل الآمر بنفسه في محاولة لتنظيم السير وقد تلقى أبو عراق من آمره أمرا بالمشاركة ومحاولة فك التداخل بين العربات المدنية والعسكرية والاستعانة بشرطة المرور الموجودة في التقاطعات
كان أبو عراق يرسل أوامره إلى بعض المراتب وكان يتعمد عدم التركيز بوجوه الناس المصدومة وكان الخجل يعتريه فكيف للنا س أن تصحو على منظر ارتال عسكرية غريبة تمخر شوارع المدن وتقتحمها أمنا بهذا الشكل المهين
كانت سيارات الشرطة تقطع الشوارع البعيدة وكانت صفارتها تنذر الناس من الخطر وبوتيرة توحي بالارتباك الشديد .
بعد حوالي أكثر من ساعة وصلت طلائع قوة اللواء إلى فندق المسيلة وهو الهدف المرسوم له.
كانت الأخبار تتوالى إلى مقر اللواء عن وجود مقاومة شديد عند وزارتي الدفاع والداخلية وقد اصدر الآمر أوامره بالتعامل مع هذه القوة وفسح المجال لمن يريد منهم ترك موقعه كتان يعرف إن قائده حريص جدا على أن لايصاب احد ولكن أنى للحرب أن تكون على وفق ما نشتهي وأي قوة في الأرض وأي منطق يمنع جنديا أو حتى إنسانا عاديا من أن يدافع ويقاتل وهو يرى أن بلده قد احتل وأرضه قد دنست ؟
وكان أبو عراق يُكبر في آمره هذه الروح ولكن كان يسأل نفسه هل كل القادة مثله ؟ بالتأكيد لا ليس لان الناس ليسوا سواسية فقط ولكن في الحياة العسكرية وفي مثل هذه المواقف العصيبة كانت معادن الرجال وأخلاقها تتعرض لاختبار شديد، اختبار قد يتجاوز فيه البعض حتى مضمون الأمر العسكري سلبا أو إيجابا ؟
بعد 4-8 تكاملت قوة اللواء واتخذت من نادي النصر الرياضي مقرا لها وعرف من آمره إن العملية تمت بنجاح وفرق الحرس الجمهوري قد أتمت الهدف وهي ألان في كامل الأرض الكويتية برغم خسائر تكبدتها في الدروع والطائرات والجنود وهم أخر من يسأل عنهم في الحروب ؟
كان أبو عراق ينصت لآمره وهو يستطلع الموقف مع أمراء الأفواج والكتائب
انتهى الاجتماع وانفض المجلس والكل يسأل ماذا بعد أن غزونا الكويت؟
ولم يتأخر رد صدام أبدا إذ أعلن في يوم 5-8 عن قيام حكومة كويتية برئاسة عقيد يدعى علاء حسين مع بعض الضباط الصغار وقد تسربت أنباء مؤكدة إن تعيينه جاء بعد رفض كل القادة الكويتيين والشخصيات التي تم اللقاء معهم من التعامل مع القيادة العراقية التي يبدو إنها كانت تدبر أمرا ما !
قرار أخر يصدر بتوحيد العملة العراقية الكويتية وكانت تساوي 1 إلى 12 وتكاملت طبخة صدام حين أعلن ضم الكويت إلى العراق بناءا على طاب الحكومة الكويتية التي شكلت قبل يومين فقط ؟ العسكر في حالة ترقب وكانت هذه الخطوات نذير سوء بشر مستطير قادم بانت تباشيره السوداء في الأيام الأولى.
الكويت محافظة عراقية ،هكذا وبجرة قلم تصبح الدول العامرة مدنا تابعة
وتستباح الحرمات والمحرمات وتجاس الديار بعذر أقبح من فعل ؟
هكذا هي بناة أفكار القادة الملهمين الموسمين بالعصمة من الزلل والخطأ والنسيان !
عاد الفرع إلى الأصل هكذا كانت هذه الصورة المخجلة التي يراد لها أن تكون قدر الكويت وأهله، وعليهم مسح ذاكرتهم بل وتصفيرها لان زمنهم ابتدأ الآن فقط!
أثارت هذه التطورات المفزعة قلق الناس ومن يلومهم وبدأت ظاهرة النزوح الجماعي نحو الصحراء وبأعداد تفوق الوصف !
ومن جهة أخرى بدأت عمليات النهب والسلب والسطو للبيوت وأعمال أخرى مخلة بالآداب من قل بعض الضباط والمراتب تأخذ مديات واسعة وبنسق مخيف والأدهى والأمَر إن بعض الذين تورطوا فيها كانوا حمايات أو جنود بعض القادة الكبار والمسئولين في الدولة وخاصة أولئك المقربين من دائرة صدام ومن أقاربه تحديدا
لقد غدت الكويت وقد بدء أهلها بالنزوح عنها طعاما سائغا لتلك الكلاب الشرهة المسعورة التي لإتراعي حرمة لله أو حرمة لنسب أو قربى ؟
لقد عرف أبو عراق من آمره إن هناك فرقة عسكرية مدرعة شكلت من الغنائم الكويتية وكان يقول في نفسه غنائم ؟ أهكذا يلعبون بالألفاظ وكأن القوم في حرب على مرتدين عن الدين والملة وهم أحفاد أولئك الفاتحين العظام
كانت أعمال التخريب تتصاعد ولم تستطع جهود القادة الشرفاء من منعها أبدا
لقد كان أبو عراق يتأمل نظر أولئك البائسين الذين يمدون أيديهم إلى ما لايملكون وكأنهم يرتعون في ورث أبائهم وأجدادهم .
كانت هذه المناظر البشعة تلهب الحماس وتوغر صدر بعض القادة والمراتب ولكن ما باليد حيلة وقد كان ماكان والله غالب على أمره ؟
لقد انفلت الشر من عقاله وأخذت الأمور منحى أخر مع هذا الإصرار على خوض هذه المغامر لمنتهاها ولم تجد نفعا كل الجهود التي حاول أصحابها ثني اواقناع صاحب هذا القرار الكارثي عن مسعاه الخائب .
وكانت الأخبار المحزنة تتوالى عن حال أولئك الناس الأبرياء الذين تغرز سيارتهم في رمال الصحراء وهم يلوذون هربا من ذلك الجحيم وقد شاهد أبو عراق مع آمره مناظر يقشعر لها البدن ويندى لها الجبين تذرف لها العين عن عوائل هلكت بالكامل من جراء العطش والجوع وتحت لهيب تلك الشمس المحرقة ولم تعد جهود الإنقاذ لبعض العجلات تجدي نفعا مع تزايد أعدادها والهلع الشديد الذي أصاب الناس
لقد كان أبو عراق وأمام هذه المناظر المهولة المرعبة متيقنا من إن التبعة عليهم جميعا ستكون كبيرة وان العقاب بما فعل بعض السفهاء آت لامحالة.؟
وعلم أبو عراق من آمره إن أوامر مؤكدة ستصدر بتغيير كامل مواقع الحرس الجمهوري لشمال الكويت لتحل محلها قوات الجيش
وفي احد الطرق العامة في العاصمة استوقفت الآمر ومعه أبو عراق صورة لأمير البلاد وقربها كانت هناك لافتة كتب عليها (توقع ماليس مُتوقعا ً) التفت الآمر لأبو عراق وسأله أترى الأمير و قد كتب هذه العبارة قد خطر على باله يوما إن يحصل ما حصل لبلاده ؟أجابه أبو عراق اعتقد يا سيدي انه قصد بعدها الاجتماعي والنفسي المتصل بتفاصيل حياة الناس أما ما حصل فلا احسبه مر إلا على مخيلة ...وسكت أبو عراق وعرف قائده مقصده ولم يسأله بعدها.
بعد شهر انسحبت قوات الحرس إلى شمال الكويت التي أصبحت ألان المحافظة التاسعة عشر والتي اختار صدام بسببها خيار المواجهة مع العالم كله دفاعا عن هذا الحق الموهوم المزعوم؟
ومع التصاعد الرهيب في وتيرة الأحداث ومع إصرار صدام وزبانيته وعناده ومع اقتراب ساعة الحسم وصلت الحالة النفسية للضباط والجنود حدا لايوصف
لقد كان أبو عراق يعيش مع جنوده هذه اللحظات ويشاركهم دعائهم بأن لا تقوم الحرب وان ينسحب صدام من هذه الأرض التي هي لست أرضه ويعيدها لأهلها الشرعيين ،كان يشاركهم هذه الهواجس وهو يعرف أنه قد رسخ في ا ذهان أكثرهم أن الحرب قائمة وان صدام لن يذعن إلا لصوت نفسه وبطانة السوء المحيطة به
والذين ارتضاهم لنفسه واصطفاهم لخاصته ؟
بدأت الحرب سريعا وفي موعدها المحدد تقريبا وبدأت ألاف الأطنان من القنابل تنهال كالمطر على رؤوس العراقيين من الشمال إلى الجنوب ومنهم بطبيعة الحال أولئك الجنود الرابضين على الجبهة في سواتر تحت الأرض ينتظرون رحمة الله بهم.وفي اليوم الثاني قصف مقر اللواء الذي يعمل فيه أبو عراق قصفا مباشرا وقد أصيب أبو عراق على أثرها إصابات خطيرة في الصدر والبطن والساق والفخذ
وقد على أثرها أكثر من أربعة أشهر في المستشفى قضى نصفها في شبه غيبوبة كاملة
قدّر عليه لايرى ما حل ّبرفاقه الذين تقطعت بهم السبل وذاقوا طعم الموت على تلك الأرض الغريبة التي انسحبوا منها تاركين ذكريات مؤلمة لن تنمحي من ذاكرتهم ما دام فيهم نفس.
بعد هذه الأشهر استعاد النقيب حازم أبو عراق شيئا من عافيته وقد اخبر انه فقد إحدى كليتيه وان فخذه تهشم ويحتاج إلى علاج وعمليات متواصلة إضافة إلى تأثر إحدى عينيه وضعف بصرها نتيجة الإصابة كانت هذه الإصابات وبحسب تقارير الأطباء كفيلة بإخراجه من الخدمة وإحالته على التقاعد؟
علم من بعض رفاقه الذين زاروه في المستشفى تفاصيل مروعة مؤلمة ومقرفة ومفزعة عن ما حل بالجيش وحجم الدمار الذي أصابه وحجم الخسائر الكبيرة في الأرواح والمعدات التي تُرك اغلبها في ارض المعركة وعن تفاصيل أعمال الفوضى العارمة في المحافظات الجنوبية وردة فعل القيادة العراقية تجاهها وكذلك عن تلك الحملة الشعواء من الإعدامات التي طالت كبار ضباط الجيش الذين بدا عليهم التذمر من هذا الوضع المزري الذي أوصل فيه صدام تلك المؤسسة العسكرية العريقة إلى قاع الحضيض بفعل طيشه وحماقته وغروره !
تقبل أبو عرق مصابه برحابة صدر عله يكون كفارة له عن اقترفت يداه مما هو خارج عن إرادته خلال تلك الأيام الصعبة
وعقد العزم على إكمال مشواره الدراسي بعد أن تماثل للشفاء وحمل نفسه على عكازه التي غدت جزء منتح يأته وعاش مع أهله فصلا قاسيا من حصار ظالم كان في حقيقته عبئا مضافا وثقيلا على أولئك الناس الذين لم تغادر مخيلتهم أبواق الحرب التي صمت الآذان وأعمت العيون وأصابت الأنفس في الصميم وتركت بصماتها الواضحة على السلوك الجماعي والفردي للناس والذي أخذت مع اشتداد الحصار وقسوة الظروف تأخذ مناحي تهدد بنية المجتمع ككل
لقد علم مكن بعض أصدقائه في الجيش أن صدام حاول قبل نهاية عام 1994 تكرار محاولة غزو الكويت وحرك بعض قواته الحرس إلى البصرة وقد تدخلت قوى خارجية للالتفاف على مسعاه وتطويق الموقف وقد وقى الله العراقيين والكويتيين شر هذه الفعلة التي كانت ممكن أن تشعل فتيل الحرب من جديد وتعيد عقارب الزمن إلى الوراء.
لقد اختزلت ذاكرة أبو عراق هذه الوقائع جيدا وعاش تفاصيلها وعقد العزم على أن يكون طرفا مؤثرا في خطة تثقيف ايجابي يتخذها كمنحى موجه في حياته كي يكون له الدور الفاعل في تبصير الناس بعواقب تلك الأحداث والحروب والمغامرات الطائشة والتي أوصلت البلد إلى حافة الهاوية . وحصل ما كان متوقعا وما سيق أن حذره منه والده والمقربون منه وأصبح أبو عراق مرصودا من قبل أجهزة النظام وحصل أن استجوبوه أكثر من مرة وأوقف لفترات طويلة ووجهت له اهانات مختلفة ولكنه صمد وطاول وصبر احتسابا للأجر وطلبا للنجاة
مضت تلك السنون العجاف بسرعة واستطاع أبو عراق من أن يكمل تعليمه العالي وحصل على شهادة الماجستير في القانون
كان أبو عراق يرقب كغيره تطورات الأحداث المتسارعة بعد أحداث 11 أيلول ومنطق الساسة العراقيين ذاته في التعامل مع هكذا أزمات ويبدوا أن عقلية الاستخفاف والحسابات الخاطئة كانت حاضرة أيضا تغذيها نبرة التحدي الفارغ المستند إلى أوهام القوة الخادعة والانتصارات المزعومة التي تحققت إبان غزو الكويت والتي يبدو أنهم مصرون على قراءتها قراءة مقلوبة خارج حسابات الأرض والتاريخ القريب والواقع والعقل أيضا.
لقد بدا أن رأس النظام هدف الحرب الثاني بعد أفغانستان وبعد استعدادات داخلية تشابه في بعض جوانبها تلك التي حصلت إبان غزو الكويت وان اكتسبت اليوم بعدا غاب عن أذهان الساسة وحدهم وصدام تحديدا وهي أن رغبة القتال معدومة هذه المرة السقوط وشيك وهو ما حصل فعلا وخلال اقل من شهر فقط !
لكن الثمن كان باهظا جدا هذه المرة ربما كان لايساوي بحجمه وفداحته رأس
النظام ؟
وقد عاش أبو عراق مع أهله تبعات الاحتلال والغزو المباشر من قبل أمريكا لبلاده وقد رأى وسمع عن مقدار ما أصاب الناس من جراء هذا الغزو الذي أعاد إلى ذهنه بعضا من تلك المشاهد المؤلمة التي اختزلتها ذاكرته الحاضرة دوما عن تلك التجربة المريرة في الكويت وجعلته يوقن بفكرة إن التاريخ يعيد نفسه وأن الأيام دُول ؟.
أبو عراق اليوم أستاذ جامعي وحصل على شهادة الدكتوراه في القانون وظل فكرة متقدا وحاضرا ولسانه الرشيق يترك أثره الطيب
في كل المقربين ومع هذا لم يكن هو سعيدا بما حصل في بلده وان كان أزاح عنه كابوس صدام لكنه جلب أخطار أخرى كبيرة لاتقل شرا عنه
.
صدام اليوم على حبل المشنقة صبا ح عيد الأضحى وقد رأى العالم مصرعه ولحظاته الأخيرة على الهواء وقد رأى كل الناس كيف تدلى هذا العنق و بسرعة معلنا موت هذا الرجل ! كان أبو عراق يتأمل هذا المنظر البشع ويعيده مرات ومرات مع نفسه وكثيرا مع سؤل عن رابه فيما حصل له وكان كثيرا ما تحضره إجابة ترويها كتب التاريخ ليحيى البر مكي حين سؤل عن سر نكبتهم أيام هارون الرشيد فأجاب : لعلها دعوة مظلوم سرت إلى الله في ظلام الليل ونحن عنها غافلون وكان أبو عراق يقول في سره لعلها دعوة امرأة وشيخ أو حتى طفل ممن نكبو بك في تلك الصحراء القاحلة في الكويت أو حتى من أولئك الذين التهمت أرواحهم البريئة وبعثتها وأنت ألبعثي إلى حيث مستقرها في خارج عالم الدنيا.
كان أبو عراق على موعد مع الفرح بعد أن استجاب الله لدعائه ومكنه من التغلب على عقمه الطويل نتيجة إصابته في عموده الفقري هو اليوم بانتظار مولوده الثاني بعد طول انتظار.
قدم إلى المستشفى متأخرا بسبب ازدحام الطريق وقد ولدت له زوجته بنتا جميلة وهي تغط مع أمها في نوم عميق انسل أبو عراق لداخل الغرفة وكان حريصا على أن لا يوقض أحدا و اخذ يطل من نافذة غرفة المستشفى وينظر إلى امتداد ذلك الشارع المحاذي للبناية والمستشفى وكان يرى ازدحام الشارع بالارتال العسكرية الأمريكية والمدنية في منظر يعيد إليه شيئا من تلك الأيام السود لاردها الله ولكنه كان يؤمن أن الابتلاءات ليست عقوبة بقدر ماهي تمحيص واختبار
استفاقت زوجته ونادت عليه وراح إليها وقبلها بين عينيها وهنئها بالسلامة
بادرته على الفور ماذا ستسمي ابنتك الوحيدة ...صمت الرجل برهة
ما رأيك أن نسميها جهراء أنا أود ذلك
قالت له زوجته كم أنت والع بالأسماء الغريبة ولكن ماذا تعني جهراء
قال أبو عراق إنها تعني الأرض المستوية أو وتعني الرابية السهلة العريضة
على حد علمي
ولكنك تريد من وراء التسمية معنى أخر
قال لها أبو عراق نعم نعم وهل أنت معترضة فقالت له مازحة لالا سيدي
دخل عراق ابنهم البكر والوحيد فقال له أبوه تعال يا بني و قبل جهراء
وكن لها حاميا ومحبا ومخلصا وحافظا لحرمتها وحقها فهي شقيقتك و قدرك إلى ابد الدهر !