وصلت إلى البيت دعوة للحضور إلى المدرسة في التوقيت المحدد، حملها الأب ببرود وبأعصاب هادئة، ذهب بالوقت المحدد دون أن يفكر بالأمر أو يعطيه أهمية، كل ما قاله في ذهنه:
"الولد وقد ترك المدرسة ولم تعد لنا علاقة بها، العلم ليس بالقوة، وعقول الأولاد ليست مع الدراسة.."
فوجئ بأن هناك رتلًا من الرجال والنساء قد سبقوه فاجتمعوا في قاعة واسعة عُلِّقَ على أحد جدرانها لوحة كتب عليها:
(بالعلم تشرق الحياة) ولوحة أخرى (بالعلم تقتل الفقر والجهل).
جلس المدير ومعاونه وتواجد بعض المهتمين، لم يعرف شيئًا بعد. بدأ الاجتماع بالترحيب وإظهار قيمة العلم، ثم توجهوا بالسؤال وراء السؤال وبصيغة واحدة: "لماذا ترك ابنك المدرسة؟ وهل توافق على ذلك؟"
وكان يقول في نفسه: "هل هناك علم ومدرسة؟"
ثم يسمع سؤالًا آخر:
"لماذا يغيب ابنك منذ أسبوعين؟"
- لقد بعثته ليعمل في معمل البلاط.
وآخر يجيب:
- إنه يبيع الدخان.
وثالث يجيبهم بانكسار:
- يعمل معاونًا على سيارة أجرة.
يتضايق المسؤول القانوني وبنبرة قوية:
- سوف نحاسبكم، أولادكم دون السن القانوني للعمل، هذا خطأ وخطر!
تأتيه الصدمة القوية وبصوت واحد من الجميع:
- نحن نعم عاقبونا، وأما أولادنا فلا، إنهم يفتحون بيوتنا ويصرفون عليها، نريد السترة لا غير!
وحالة من الاستغراب والوجوم، وما زال الاجتماع متجددًا ومستمرًا في كل مدرسة وفي كل عام، لكن القادمين أكثر، يتوافدون ومعهم بطاقات الدعوة!
-2- اغتيال مُتقاعِد
الأستاذ نبيل تبلَّغَ دعوةَ نقابته لحضور حفل تكريم المتقاعدين، بالتأكيد هو واحدٌ من المكرَّمين، قال في نفسه:
"خدمتُ لثلاثين عامًا في سلكٍ يصعب على المرء أن يستمرَّ فيه، كنْتُ أعيش بسبعة أرواح، قبلْتُ التحدِّي مع الكثيرين!" بالفعل حدَّثَ نفسَهُ بعد انقطاعٍ عن العالمِ و انزواءٍ، حرّكتْهُ هذه الدعوة، أعدَّ عدَّتهُ، بحثَ عن أحدثِ الثيابِ التي مرَّ عليها عقدٌ من الزمن، اشتراها بمناسبة زواج ابنه البكر و كرّر ارتداءَها يومَ زواج ابنته ليلى، وهاهو يقول من جديد:
"المهمُّ ترتيب الروحِ ونظافةُ اليدِ وحسنُ الختام" وأخذ نظرةً من مرآةٍ مغبَّرةٍ متشظّية وقال في نفسِهِ: "الحمد لله، الحمد لله، هناك بقيَّة من صحة و نضارة."
جرى الاحتفالُ الذي أشْعلَ ذكرياتِهِ و أعادَه لسنوات خَلَتْ، كان احتفالًا أنيقًا جمع مسؤولي البلد، استمع إلى كلمات التمجيد التي لم تشأْ ذكرَ فضلِهِ على الموجودين، قُدِّمَتِ الهدايا للمكرَّمين، كان وحيدًا لا زوجة معه، لا أولادَ يباركون له، جرَّ قدميه وهو يحمل شهادة التكريم و بطاقةَ دعوة لشخصين في مطعم مشهور.
منذ البداية شعر بالفرحِ والسرور، ولكن سرعان ما عادَ إلى التفكير والاستسلام لتداعي الأفكار ولنشاط الذاكرة التي كانت خامدة، نظر إلى شهادة التكريم وعادَ إلى الوراء، إلى ذلك اليومِ المغروس في ذاكرته منذ ثلاثين سنة، فيه تسلَّمَ قرار التعيين بفرح غامرٍ و إرادةٍ متوقّدة، وبعد فترةٍ استسلمَ للتفكير حينها، وصحبه فتورٌ عجيب! لا يريد تفسيرًا لفرحِهِ ولا يحاول معرفة سبب فتوره، عندها قال: "المرءُ أقدرُ على قراءة نفسه وتحليلها" وهي العبارة التي اصطادَها من مدّرس علم النفس التربوي، حقَّقَ أمنيّة طالما سعى إليها و تمنَّاها، كان يتابع أستاذَ التاريخ بأناقته وثقته، أعطاهُ كثيرًا من الاعتبار، كان يقرأ التاريخ بحياديّة وعقليّة متفتّحة، وهذا أمرٌ هامٌ بالنسبة له. عاش نبيل طفلاً عاديّاً تحيطُ به أسرة أمِّيّةٌ لا تعرف القراءة ولا تقدِّرُ العلمَ والمتعلّمين، ومرَّة شكا أمرَه لأستاذِهِ فقال له: "يا نبيل! المرءُ عدوُّ ما يجهل" تذكَّرَ قَلقَهُ و هو متوجِّهٌ إلى تلك القرية النائية سيـبتعد عن والديه وأختِهِ العانسِ، إنه أمامَ تجربة جديدةٍ بعيدًا عن محيطه.
ركب حينها سيارة أكل عليها الدهر وشربَ، كانوا يسمّونها (البوسطة) تَنْهَبُ الطريق على دفعات ومحطّاتٍ كثيرةٍ ينظر إلى الركاب ويقرأ معالمَ الوجوهِ، ثم يرمي نظرةً إلى الأراضي الجرداء وهو الوحيد الذي لا يتكلّم باستثناءِ قراءته لصحيفة بين يديه، يقطعُ عليه صمتَهُ صوتُ بعضِ الحيوانات التي حظيت بشرف مصاحبته.
يتذكر من جديدٍ، وينتقل إلى مرحلةٍ أخرى، تتوقّفُ السيَّارة ثم يتابع السيرَ على قدميه، إلى أين؟! إلى قرية تُدْعى "المهدومة" تناثرت بيوتها هنا وهناك، وعندها تذكَّرَ معلقة امرئ القيس الذي بكى وأبكى واشتكى، خالطَهُ شيْءٌ من الرهبة، كيف أعيش هنا؟كيف سأمضي الوقت؟ ولأجلِ مَنْ جئْتُ؟
تناثرت نظراتُهُ وتتشتَّتُ هنا وهناك، القرية خاوية سوى من بعض البيوت، نظر من جديدٍ حوله وجاءتْ نظرتُهُ وليدةَ خيبة، فقد كان يتوقَّعُ التفافَ الأولادِ وأهلِ القرية حوله، تصوَّرهم يسرعون مبتهجين ومرحِّبين، أبدى تضايقه، تذمَّر، سأل عن بيت المختار، وكانت أمامه خيبة أخرى، القرية لا يوجد فيها مختار! ولا حاجة للمختار بعد سوء معاملة المختار السابق، وعندما ماتَ فَرِحَ الجميعُ ولكنهم كتموا فرحَهُمْ في أعماقهم، سأل عن المدرسة، جاءَتهُ الإشارةُ مصحوبةً بنزقٍ وجفوةٍ: "هناك عند الأغنام والأبقارِ، انظر على سطحها دجاجةٌ وديك."
ذهب وحيدًا يجرُّ الحَيْرةَ وسأل نفسهُ:
"أين الشّجَرُ؟ أينَ العطاءُ؟ أينَ الخضار؟ أينَ الأولادُ؟ وأخيرًا قال: أين أنا؟"
لم يجد سوى شجيرات طاعناتٍ رماهنَّ الفقرُ والجفاف، إحدى الشجيرات تمازُحها نعجة وحولها أطفالٌ يُقَطِّعون أغصانها، تقرَّبَ أحدهم قائلًا:
"خذ يا أستاذ، إنَّهُ قضيبٌ سيلزمك كثيرًا"
قال له الأستاذ: "لن تحتاجوا إليه إن شاء الله" وتابع الطفلُ من جديد: "سيلزمك لتبعد عنك الذباب والحشرات، بعد أيَّام ستحبُّ القرية وتحبُّك" وأمضى سنوات سعيدةً رائعة الخضرة.
ها هو نبيل في طريقه إلى بيته وحيدًا، يحمل قرار التقاعد، و شهادة التكريم وبطاقة الدعوة، وهو يفتِّش عن شخصِ ثانٍ يصطحبه إلى المطعم، بيده عصا يتكئ عليها، طريقهُ مزدحمةٌ، الأرصفة مكتظةٌ بالسيَّارات والأبنية والناس.
كان التفكير جيشًا من الوساوس وكتيبة من التساؤلات يحاول أن يربط بين سنواتٍ مضَتْ و أيَّامٍ تبقَّتْ، قطع عليه تفكيرَهُ سهمٌ جارِحٌ من سائقٍ أرعن: "يضربك العمى! أين عيناك!"
هزَّ نبيلٌ رأسَهُ و قال لهُ: "أنتَ لم تمرَّ على أستاذٍ في حياتك يا ولدي؟"
-3- اغتيال من نوع خاص
عندما وقفت منتظرًا الحافلة انتابني حالة من حالات التّعب والقلق، فأنا مرهق ولا بد أن أستسلم للهواجس، أمور البيت لا تنتهي وطلبات الحياة لا ترحم ومريرة، هواجس تحيط بي وتلاحقني كالمطرقة والسندان ألفناها كما ألفنا مشاهدة المسلسلات، بيننا وبين اللا مألوف علاقة ود إجبارية. الحافلة تصل، صعدنا على طريقتنا الشرقية المألوفة أخذت مكانًا وكنت محاطًا بعدة نساء طاعنات مترهلات جذبهن الحديث بحرقة ومرارة إحداهن:
"خرجت من الصباح وتركت الأولاد يدبرون أمورهم" وأخذت آهة معجونة بدخان السجائر وغبار الأحذية، ثم تبعتها بأخرى أشد وقعًا في النفس وكأنها أغنية مليئة بالنشاز، ويأتيها صوت آخر يقتحم آهة الأولى:
"نعم الحياة متعبة وأنا كذلك أعمل شغالة لدى أسرة ميسورة أخدمها محتملة الصغير والكبير مقابل سد فم أطفالي اليتامى وبين أسبوع وآخر لا يقصرون، اللقمة مرة!"
أخذَتْ آهة أعمق من الأولى وأدارت وجهها، هذا الحديث جعله يتثاءب ويندب حظه، تذكر بأنه بعث ابنه في هذا اليوم للعمل في معمل للبلاط وسلمه بأمانة الله كما سلم أخوته من قبل.
-4- اغتيال عصري
ارتفعت حرارة ابنه الوحيد فجأة، تغيرت حاله وحال زوجته، تسارعت دقات قلبه، خوف شديد ورعشة انتابت الأمّ، موقف لا يحسدان عليه. في البيت حالة من حالات الذهول والهذيان إنه الوحيد بعد عشر سنوات من الزواج والمعالجات الطبية التي لا ترحم الجيب والنفس وبعد صراع من كلام الناس والأهل ربطهما الحب أمام كلِّ الأقاويل، لقد قدم كلَّ ما ورثه وعمله بجهد من أجل هذا الطفل الذي ربط قلبيهما بحب لا يوازن، ركب وزوجته سيارة الأجرة يرتطم رأسه بسقف السيارة وتنسى الأم فردة حذائها وهي صاعدة.
- أرجوك بسرعة إلى المستشفى يا أخ، أرجوك، أي مستشفى.
يجيبه السائق بلهجة وديعة:
- حاضر، شفاه الله إن شاء الله.
وأخذ السائق يتجاوز الشوارع والشارات الضوئية الممنوعة والمسموحة ولم يفرق بين اتجاه واتجاه يتوقف العداد مشيرًا إلى الثلاثين، يقدم له خمسين ليرة، "شكرًا" ينتظر الأب قليلًا ثم يمشي.
ما إن وضع رجله في باب المستشفى حتى صاح: "الإسعاف، أين الطبيب؟" وصوت ناعس مرهق:
- لست طبيبًا، الطبيب نائم.
ويدور بينهما أخذ وعطاء واستعطاف واستجداء يأتيه الصوت كضربة سيف قاطع: "لا توجد غرفة عناية مشددة ولا توجد أسرَّة فارغة" من جديد يبدأ المشوار وليكن مشفى خاصًّا.
- "أهلًا وسهلا" أرجوكم ولدي الوحيد.
- ضعه على السرير.
ثم أجريت له الفحوصات السريعة وبابتسامة شفَّافة مصطنعة: "ابنك وضعه خطير، بحاجة لعمل جراحي وعناية مشدّدة"
- أرجوكم، أرجوكم ماذا تنتظرون!
الجواب كان قاسيًا كلسعة عقرب في يوم قائظ:
- ادفع للصندوق عشرة آلاف على الحساب.
- اِقبلوه أنا ذاهب لإحضارها، وهو يعلم بأنه لا يملك منها شيئًا، جاءته عبارة الأسف بوضع لا يحسد عليه شعر بأن شيئًا ما حلَّ عليه، وضع يده في جيبه، لعب بشعره، فرك شفته السفلى، أدار وجهه عن وجه زوجته، زوجته تخلع قطعة ذهبية من يدها، خذها وبسرعة.
صوت غير مألوف:
- العمر لكم والبقيَّة بحياتكم نرجو دفع الكشف والمعاينة.
نظرَتْ إلى زوجها، ونظر إليها، ونظرا معًا إلى مصدر الصوت وقدما السوارة الذهبية، يحملان الفجيعة والفقيد، ويجران الخيبة والحسرة!
التدقيق اللغوي لهذه القصص: هبة البشير