الدقائق والساعات تتسرّبُ من بين عقارب ساعته بجنون،

لم يدركْ أنّ ليلة البارحة كانت أشبه برشفةٍ من كوبِ ماءٍ ساخن لا يكاد يرتفعُ ليلامسَ شفتيهِ حتّى يدفعهُ عنه بصورة تلقائية!

أنّ الشهر الذي مضى كان كصباحٍ ناعسٍ قضاهُ وسط ضجيج أعماله، يُجهزُ عليه التّعبُ كلّما رفع رأسه من بين أكوام الورق،

 

أما العام فلم يبصرهُ حتى ودّعَه، وكلُّ ما تبقّى في ذاكرتِهِ صورٌ وأحداث، ابتسامات وبكاء، وليلة زفاف نسي أغلب ملامحها.

التفتَ من حوله .. لا أحد يرافقه في هذه الليلة المخيفة المُعتمة إلا من ضوءٍ خافتٍ خيّل إليه أنّه ينبعث من عينيهِ لا أكثر!

الرياحُ شديدةٌ جدًّا، تمنعه من تحسُّس صوت الخطوات البعيدة أو القريبة،

قرر أن يركضَ حتى لا يدركه الوقت فعليه أن يصلَ إلى طرف المدينة النّائية، لم يعد النّاس يقطنون إلا على أطرافها

ولربما يجد هناك من يدلّه على محطّة قطارٍ قريبة..

نظر إلى الأمام،كان الأفق يجتمعُ في ضوءٍ خافت بعيد كضوء شمعة

مع تقدّم خطواته بدأت الصورة تقترب شيئًا فشيئًا، مجموعة أشخاص يركضون بهلع، يتسابقون

يتكوّرون في معاطفهم الطّويلة خشية أن تجذبهم الرياح إلى مكان آخر، أصبح وقع الخطوات أقرب فأقرب

لكنه ما إن يقترب من أحدهم حتّى يفرّ منه جزِعًا!

 

أحس فجأةً أنّهُ على حافّة موت، أو أنّ خطرًا قادمًا جعلَهم كالفرائس الشّاردة

 

صرخ بوجهه أحدهم: لا تمدّ يديكَ هكذا، ستقتلعها الرياح!

أراد أن يستمع إليه بوضوح أكثر فاقترب وهو لا يكاد يشعر بقدميه رغم أنّهما كانتا تدفعانهِ إلى الأمام بقوّة:

أعد ما قلته! تأخّر الرجل عنه بعدّة خطوات كأنّه يتحسس شيئًا ما في جيبه، مدّ يديه مرة أخرى إلى الخلف،

"أعد ما قلته لي، هل تعرف طريقًا أخرى لطرف المدينة غير هذه؟"

 

شعرَ لبرهة أن الزمن من حوله توقف، عقارب الساعة تشير إلى الثالثة قبيل الفجر، وهو يحدّق فيها دون حراك

اصطحبته بعض الذكريات بعيدًا، تذكر أخاه، وكيف أنّ البحرَ ابتلعهُ في ثانية

كان يمدّ كلتا يديه، إحداهنّ ليمسك بطرف المركب والأخرى ليسعفَه، ومسافة التفاتةٍ فقط

كانت بينه وبين الموجة العاتية التي جرفت أخاهُ للنّسيان

 

استيقظَ فجأة على وجع جعله يصرخ بكل صوته، الدموعُ تجمّدت في عينيه من شدّة الألم

شعر أنّه فقد الإحساس بجانبه الأيمن، وفي تلك الأثناء عاد الرجل ليدفعه بقوة للأمام.. أجُننْت؟!

أخبرتك أن تكمل طريقك وإلا ستموت!

تمكّنا بصعوبة من الانحدار لشجرة راسخة تجمعُ بعضَ الضّوءِ من مصباحٍ صغير عُلّق على أحد الجدران

كان يلتقط أنفاسه، ويرفع يده اليسرى بتثاقل، يتحسّس جانبهُ الأيمن المنهك تماما

قبضّ بيده على صدره ثم شهق بقوّة!

 

- أخبرتكَ أن الرياح ستقتلعُ يدك، من الجيّد أنها لم تقتلع شيئًا من جسدك، سأساعدكَ في الخروج من هنا.

- ولكنني تركته يغرق.. تركته للموت!

- ماذا؟

- هناك.. حيث كنا في نزهة الصيف على القارب مع والدي

- من هو الذي مات؟

-  أخي علاء..

 

حدّق فيه الرّجلُ بصرامة: لاوقت لدينا!

سوف تمضي معي في حين تحدّثني عنه، حدّثني عن طفولتكما.. حدثني عن كل شيء

ولا أريدكَ أن تذكر لي القارب أو الغرق.. أفهمت؟

 

- بصوت مرتعد: حسنًا

- وكذلك لا تلتفت إلى الوراء وتحدّق في الفراغ كالأبله كما فعلت قبل قليل، وإلا سأضطر للمضي وحدي..

(قالها مبتسمًا) فشعر ببعض الرّاحة وأومأ برأسه.

 

نهض وكأنّ الألم يتساقطُ من كل خليّةٍ في جسمه، تسارعت خطاه وهو يتحدّث عن المدرسة وعن سخافة بعض المعلّمين وسذاجة الطلاب،

عن سباق الدراجات في باحاتها الخلفيّة

عن المسرحيّات التي كانا يتدربانِ عليها أيام الخميس في فناء المنزل،

يتسللانِ ببطء على أطراف أقدامهما خشيةَ أن تستيقظ والدتهما وتعيدهما إلى الفراش..

عن الربيع الأخير؛ ذلك الذي اصطادَ فيه أخاهُ أربعَ فراشاتٍ ليرسمها، ثم أطلقاها معًا في مرجِ الزّهور

عن المطر الذي لطالما شربَا منه وهما يلهوان

عن قوسِ قزح الذي يصرُّ علاء أنّه سيتسلّقه عندما يكبرُ ويصبح طوله كشجرةِ البازلّاء

عن البحر والأمنيات التي أحبّ دائمًا كلما سأله والده عنها، أن يهمسَ بها في أُذن صدفة

وما إن يفعل حتى يغرق الجميع في الضّحك.

 

لم يعد يشعر بوعورة الطريق، لم يشعر حتّى بوجعه، بيده اليمنى التي احمرّت دماءً بعد أن اخترقها غصنٌ طائشٍ وسط العاصفة

لم يشعر بأي شيء، حتّى الوقت الذي كان يلاحقُهُ مُنذ البداية، كلّ ما كان يراهُ هو الضّوء المشرق الذي سيحرّره في النهاية

الضّوء الذي يشبه وجهَ أبيه المبلل بوضوءِ الصّلاة، يشبهُ خصلات شعرِ أمّه التي تداعب خدّيه كلما ارتمى في حضنها،

يشبُه ضحكة علاء الصّاعدةِ إلى السّماء.. بألوانِ الطّيف

 

تبسّم في وجهِ صاحبهِ الذي بادله بابتسامة أخرى قائلًا.. "لحظات فقط، تشغلنا عن الأمل"

أردف قائلًا: هي ذاتُها الآن.. تفصلنا عن غاياتنا.

 

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية