جلست "ريبيكا" -التي تزور بلادنا لأول مرّة- بين يدي جدّتي لتخط بالحنّاء على كفيها نقوشا زاهرة باهرة. التقيت بها قبل ثلاثة أيام حين جاء الوفد الثقافي الذي هي عضوة فيه إلى مقر عملي، ويبدو أن تقارب عمرينا واهتماماتنا فرش الطريق لبداية صداقة، فدعوتها لزيارتنا.

أخذنا نقضم حواشي الوقت بالثرثرة عن تاريخ الحنّاء وفوائدها. ثم جرّنا الحديث عن "ليلة الحنّة" إلى الحديث عن الزواج لدينا وطرق الاحتفال بدءًا من الخِطبة و"المِلْكة" وانتهاء بحفل العرس. ويبدو أن ريبيكا ألفت الجو، فأخرجت من جعبتها صاروخا من نوع جو-جو وأطلقت سؤالا فكريّا فقهيا بعدما أجبتُ -على ما يبدو- عن جميع أسئلتها الأنثروبولوجية!

 

- ألا تشعرين بالاضطهاد يا مَيْ إذ لا يمكنك الزواج إلا عن طريق وَلِي؟ لا أقصد التقليل من شأن دينكم، لكن ألا ترين أنه هذا فيه انتقاصا من شأن المرأة؟ آمل ألا يكون سؤالي وقحا.

 

تجمّدتُ قليلا، ثم أجبت متلعثمة وعلى وجهي ابتسامة مُنْتزعة:

- لا بأس، خذي راحتك.

 

- أعتذر، انسي الموضوع رجاء.

 

بلعتُ ريقي، واستجمعتُ قواي وقلتُ:
- لا، لا. التساؤل أمر محمود في الإسلام، حتى الملائكة النقية التقية المطيعة سألت الله تعالى لم اتخذ من بني البشر خلفاء في الأرض، وأجابهم عزَّ وجلَّ ولم ينكر عليهم السؤال. وللدكتور "جيفري لانگ" كتاب جميل اسمه "حتى الملائكة تتساءل" أحدثك عنه لاحقا.  ريبيكا، أتعلمين أن الحب من دواعي الغباء على الأقل على المرأة؟!

 

- هذا تمييز جنسي، لا أقبله. ثم ضحكت وأخرجت لسانها هازلة لتخفف وطأة العبارة.

 

تبسّمتُ وغمزتُ لها وقلت: أنصتي لي إذا.

- الحب خَطِر جدا على الطرفين، لكن على المرأة أكثر، فالرجل إن أحب يظل قادرا على الاحتفاظ ببعض عقله. أما المرأة فنظام التشغيل في المخ لديها يُظْهر شاشة زرقاء كتلك التي تظهر حين يتعطل نظام “الويندوز” عن العمل. لدينا عاطفة ليست لدى الرجال، ولا أظن أن رجلا سيحوزها في يوم، ولهذا المرأة تضحي من أجل الحبيب في حين أن الرجل في الغالب يتريث! لهذا تصبر المرأة في حين يتذمر الرجل ويزمجر. المرأة إذا أحبت نسيت كل شيء، أما الرجل، فإن عمله ونجاحه في المقام الأول، ثم وضعه المادي، ثم حياته الاجتماعية، ثم، ثم، ثم، ثم، ثم تأتي الحبيبة في مرتبة ما، قد ترتفع أو تصعد قليلا. نعم هناك رجال نادرون إذا عشقوا، فهم يعشقون بضمير، لكنهم قلة ولا تنال رجلا كهذا إلا ذات حظ عظيم. أما الغالبية من الرجال فلهم أولويات أخرى قبلنا، ولهذا كثيرا ما نقول نحن النساء عن الرجل أنهم أنانيون، لأننا نتوقع منهم أن يضعونا في المقام الأول، وللأسف نادرا ما يفعلون، لكن هكذا خلقهم الله، وخير لنا أن نفهمهم بدلا من محاولة تغييرهم.

 

ظلت عينا "ريبيكا" الزمرديتين معلقتين نحوي، ورفعت "استكانة" الشاي لتشرب منها دون أن تنظر إليها حتى. ثم أردفتُ قائلة:

 

- في أمور الارتباط، يحتاج الرجل رجلا مثله ليخاطبه بالعقل لا القلب. حتى في بلادكم حين تسير العروس وتعزف الجوقة اللحن المعهود "تم تا راتا، تم تا راتا"، يسلّم الأب العروس لبعلها المنتظر. إذا أنتم أيضا تمارسون نظام الولي في الزواج لكن مع شيء من الموسيقا الجميلة!

 

- لا، لا. هذا مجرد طقس تقليدي، وهو من بقايا النظام الأبوي حين كان يسلم الأب ابنته إلى "المالك الجديد"! عُدّيه فولكلورا، أنا عن نفسي مشيت في الممر منفردة يوم زواجي.

 

- أو تعلمين، لو أن دور الولي امتد إلى خارج مشية التوصيل تلك يوم الزفاف لكان وضعكن أفضل بكثير.

 

- ماذا تقصدين؟

 

وهنا تدخلت جدتي. وضعت مسندا قرب يد ريبيكا اليمني وأشارت إليها أن تسند ذراعها عليه حتى تجف الحنّاء، ثم قالت لي:

"اسأليها، هل تريد النقش ذاته على اليد الأخرى؟"

 

- ريبيكا، اشربي باقي الشاي، لأن دور اليد الثانية حان. هل تريدين النقش ذاته على اليد اليسرى؟

 

- أجل، من فضلك (وتبسمت لجدتي بامتنان). أخبريني يا ميْ، كيف كان سيكون؟

 

- لو تركتن عملية الاتفاق والمفاوضة من البداية لرجل شرس من أهلكن يهمه أمركن لما اضطررتن أن تقبلن بتغيير أسماءكن بعد الزواج.

 

- أولا تغير الزوجة لديكم اسم عائلتها عند الزواج؟

 

- لا طبعا، أو بعبارتكم "عندما يتجمد الجحيم". اسألي جدتي عن اسم عائلتها وستجدينه مختلفا عن اسم عائلة جدي. انظري إلى "إيڤانا ترامپ"، فحتى بعد طلاقها من "دونالد" لا يزال الناس يدعونها باسم عائلة طليقها، ولا ألومهم فالاسم له وزنه.


- لعلهم يستصعبون نطق اسم عائلتها الشرق-أوربي المنتهي بـ"ڤا".

 

- ثم ألا تتفقين معي أنه نادرا ما تجدين رجلا لا يتنصل من المسؤولية. لا بد من ضمانات، وأفضل من يجس نبض الرجل ويتأكد من جديته رجل مثله، هم أعلم بأبناء جنسهم.

 

- الحب خير ضمانة يا مَيْ. لِمَ أحتاج إلى ضمانات إذا كنت متأكدة من أن الرجل الذي أمامي يحبني.

 

- لأن الرجال من المريخ أما نحن من الزهرة ولا نتكلم اللغة المريخية.

 

- أجل. "جون گريه" كاتب رائع.

 

- "ريبيكا" صحيح أن الحب قوي، لكنه للأسف مثل جميع العطور، يتلاشى مع الوقت. الرجال لديهم مرونة نفسية عجيبة، قلوبهم لا تنكسر بسرعة مثلنا لهذا وعلى مدى التاريخ الرجل هو الذي يقدم ضمانات، هو الي يبدي جديته، هو الذي يسعى وراء المرأة، وهو الذي يدفع المهر ويبذل والنفيس، حتى في تاريخكم، هو الذي كان يجثو على ركبته حين يتقدم للمرأة. وهذا ليس على مدى التاريخ البشري وحسب، بل حتى التاريخ الحيواني.

 

- ما دخل الحيوانات في الأمر؟ لا تقولي لي أن الجمل لديكم يتقدم لولي الناقة التي يحبها قبيل موسم التكاثر؟!

 

- ها ها ها، لم أكن أعلم أنك خفيفة الظل إلى هذا الحد. يُقال أن الحب الحيواني شيء مستقذر، وهذا والله قمة الظلم. فالحيوانات حين تحب لا تخرج عن فطرة الله، وأزعم أن الله وضع فيها هذه الفطرة بشكل جلي وباهر لنتعظ، ولكن ...! راقبي القطط أو عصافير الكناري أو أي صنف من صنوف الحيوانات في مواسم تزاوجها. انظري كيف يتنافس الذكور ويتقاتلون من أجل الأنثى، شاهدي كيف خلق الله ذكور الحيوانات أحلى من إناثها كي ننتبه أنه على الذكر أن يلحق الأنثى لا العكس. ألم تلاحظي أن الطاووس أجمل من الطاووسة؟ جميع ذكور الحيوانات لديها خصائص لافتة، كل هذا سعيا وراء أنثاهم الموعودة.  ثم هل تعرفين يا "ريبيكا" ما هي أسهل طريقة تخسر بها المرأة رجلا ما؟

 

- وهل يحتاج الأمر إلى سؤال. تسأله متى سيتزوجها وسيفر كالفأر المذعور.

 

- بالضبط، صرت وإياكِ على الموجة نفسها. أحسن وأسرع وأسهل طريقة لخسارة رجل نبيل هي بأن تلاحقه المرأة، حتى ولو كان بالكلام، بل حتى لو كان بالتلميح. هذا إذا كان نبيلا، أما إذا كان لئيما، فستفرح إذ أنها ستظن أنها نالته، لكنها لا تدرك أنه نالها قبل أن تناله، ونال منها أيضا!

 

- أجل، أجل. حين يقول لها بعد نيل الأوطار أنه غير مستعد للزواج حاليا.

- أجل، ولدينا يستعمل الرجال عبارة أخرى مشهورة "أحتاج بعض الوقت لأكوّن نفسي". المبدأ واحد، لكن العبارة تختلف.

 

- لكن لا تقولي لي أنكم لا تخرجون في مواعيد قبل الزواج! كيف تتعرفون علي بعضكم؟

 

- بالطريقة القديمة التي كنتم تستخدمونها. الـ Chaperoned Dating أو اللقاء مع وجود مرافق. لا مانع أن يلتقي الطرفان ويتحادثان ويناقشا ما يريدان، لكن ما الداعي للخلوة، فليكن طرف ثالث يُوثق به معهما. هذا أنقى وأتقى لقلبه وقلبها. صحيح ستنكمش جرعة الرومانسية، لكن هذا لصالح جرعة الواقعية، والبيوت السعيدة بيوت واقعية.

 

قاطعتنا جدتي مرّة أجرى قائلة "انتهينا" وقالت بإنكليزية مهيضة "you like؟” وتقصد سؤالها إذا ما كان النقش أعجبها. افتر ثغر ريبيكا عن ابتسامة أوسع وقالت "شكرا" بعربية متهافتة. هنالك، سحبت جدتي راحتي لتضمّخها بتلك الرسوم الزاخرة، فسحبتها بلطف وقلت لريبيكا:

- لن أضع الحنّاء، أريدك بعدما أن تغسلي يديك أن تضعي لي ـ"French Manicure" كالذي على أظافرك. فقد تكشف لي أن العالم صغير، وأن "الناس كالناس، والأيام واحدة".

 

- أجل يا مي، جميع النساء يحببن تزيين أيديهن وإن اختلفت السبل، وإن اختلفت الأزمنة. أجابتني "ريبيكا".

كاتبة ورئيسة تحرير دار ناشري للنشر الإلكتروني
كاتبة كويتية. حاصلة على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية واللغة الإنكليزية من جامعة الكويت بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، وعلى درجة الماجستير في علوم المكتبات والمعلومات من جامعة الكويت. صدر لها 15 كتابا مطبوعا: أربع روايات، ومجموعتان قصصيتان، وكتاب في اللغة وآخر في شؤون المرأة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية