تناهى نداء واثق إلى مسمعه يسبق جسداً يهبط الدرج نحو باب القبو، امتدت يده تطفئ موسيقى أوشك أن يغفو على لحنها الهادئ، ثم تحرك بتكاسل فتلاحق النداء الواثق متداخلاً هذه المرة بطرقات على باب غرفته المغلق: أستاذ زياد.. هل أنت نائم؟
لا يدري كيف خرجت منه حروف متلعثمة رد بها بسخرية على السؤال الساذج: نائم. عاد الصوت يهتف: افتح الباب رجاءً
للتو علم بأنه صوت الأستاذ موسى الذي تخرج هذه السنة ويعمل بصفة محامي متمرن في مكتب أحد المحامين القدامى. شخص بسيط إلى درجة السذاجة، من المريب حصوله على إجازة الحقوق، أم أن في الأمر سراً. هذه الكلمات دوماً يرددها بينه وبين نفسه كلما زاره موسى في البيت، وهذا يحدث مرتين في الأسبوع بشكل متفرق، أحياناً يأتي وقت الغذاء، وأحياناً أول المساء،ويمكن له أن يهبط في التاسعة صباحاً من يوم العطلة. وهو من نوع الضيوف الذين لا يطيلون كثيراً في الجلوس إلا إذا كانت هناك مناسبة أو حديث أثير في الأخلاق، أو الدين، أو السياسة. ورغم مظاهر السذاجة على شكله وطريقته في تناول المواضع فهو يفاجئ سامعه بمعلومات هامة يبدو بأنه الوحيد الذي يلم بها.
نجح الأستاذ زياد في ترك فرشته ومد كفاً يفتح الباب لهذا الزائر الذي أصر على إزعاجه في وقت بدا له أكثر هدوءاً في هذه الأيام المتوترة التي يعيشها منذ أسبوعين. دخل موسى على عجل وهو يرتجف من برد كانون الثاني القارس والكلمات ترتجف بين شفتيه: مساء الخير.. مررت في الشارع مصادفة، فقلت لا بد أن أزورك رغم أنني وجدت الضوء مطفأً.
ولما رأى زياد ضيفه ما زال واقفاً يرتجف من برد منتصف الليل، أشعل المدفأة الكهربائية والكلمات تخرج كأنها نائمة من فيه: تفضل.. سنجلس بعض الوقت، وإذا غالبني النعاس سأنام ونحن نتحدث، لا توجد مشكلة كبيرة.
بعد دقائق معدودة نهض موسى وراح يملأ إبريق الشاي ماءً ويضعه على المدفأة: لن أزعجك برغبتي الشديدة في تناول كأس من الشاي، دعني أفعل كل شيء بنفسي. ثم ما لبث أن أحضر كأسين صغيرين وعاد يبرك في موضعه قائلاً: منذ مدة وأنا أحاول أن أخفي عنك، لكن ما شاهدته اليوم بات أكبر مما أقدر علي إخفائه, وما دعاني لذلك هو مروري الآن بالقرب من بيتك عسى أن تخفف عني بعض الألم. أجل يا صديقي، أنا أعتبر نفسي مسؤولاً عن كل ما حدث لغازي، كنتُ الشرارة الأولى التي أوقدت النيران وأكلت صديقاً عزيزاً لي. مد كفه إلى الإبريق الذي أخذ البخار يعلو منه وصب كأسين من الشاي وأردف يقول: منذ سنة لاحظت بأنه يمضي نحو تبذير يمكن أن يؤذيه في وضعه المادي، ينفق ما يقع في يده دون أن يدخر شيئاً لطارئ.. هل نمت، ألا تسمعني، اشرب الشاي قبل أن يبرد.
- لا، لا، أسمعك جيداً، من هو غازي، هل أعرفه؟
- لا أظن، إنه رجل غاية في الجود
مد زياد كفه إلى كأس الشاي الذي تفاجأ به أمامه وبدأ يرتشف ويقاوم حالة النعاس التي بدت مهيمنة عليه، فقال موسى: مرة بقيت معه في المطعم إلى أن أغلق وصرف عماله فمشينا وهو يقود البسكليت بيديه إلى البيت على الأقدام. قلت له: يا غازي، ألا تفكر بالمستقبل، ما تزال عازباً تحتاج إلى بيت وآثاث وزوجة، بيت أهلك لا يدوم لك، وأختك لن تخدمك إلى الأبد.
قال: يا أستاذ موسى، كن على يقين إن لم أصرف ما في الجيب، لن يأتني ما في الغيب، أنت متعلم وفهمان وأنا أمّي لم أدخل مدرسة، لكن هذه هي فلسفتي في الحياة، عدم انتظار كارثة، بل عدم انتظار يوم آخر شيء جميل، هكذا أعيش بدون عقد، وأعيش متحرراً من خوف.
قلت: لكن لن تضمن حلول كارثة، ومجيء يوم جديد،.. هل نمت مرة أخرى، زياد…زياد.. انهض أرجوك، اسمعني، زياد هل تسمعني، افتح عينيك أنا بحاجة لأن تسمعني.
استفاق زياد وتفاجأ بأنه ليس في فرشته، فنظر إلى الأستاذ موسى، ثم عاد وأغلق عينيه قائلاً: ومن قال بأنني لا أسمعك، أكمل يا صديقي، إنني أسمعك جيداً وأنا مغمض العينين، صدقني فإن كلماتك كلها وصلتني، هل تريد أن أعيدها لك. فقال الأستاذ موسى: لا، لا، أنا واثق بأنك تسمعني، أجل، لكنه قال: قلق اللاإ نتظار أهون على المرء من قلق الانتظار.
أقسمت بيني وبين نفسي ألا أتركه حتى أجعله يغير نظرته هذه فذهبت معه إلى البيت، سهرنا حتى طلوع الضوء وأنا لا أكف عن الإصرار إلى أن وجدته يلين بعض الشيء ويتفق معي. لكن بعد شهر من هذا الحديث الطويل رأيته ينقلب على عكس ما كان عليه، فعندما أزوره لا يتحدث إلا عن كيفية جمع المال، ولا يقدم لي حتى كأساً من الشاي، أما الأصدقاء الذين كانوا دائم الحضور في ضيافته،فلم أعد أرى قدم واحد منهم في المطعم، غدت علامات شح لا يطاق تظهر في سلوكه. مرة صادفته في باص النقل الداخلي ورغم أنه كان يجلس في مقعد أمام مقعدي، انتظر إلى أن مددت يدي ودفعت الأجرة، عندما نزلنا فوجئت به يدخن من علبة سجائر رديئة، وكان في السابق يدخن أغلى دخان موجود في البلد فلم أتملك نفسي وقلت له: يا غازي هذا الدخان الرديء يسبب لك مرضاً.قال: لا تسأل يا أستاذ، كله يسبب مرضاً ويلحق بعضه ببعض.
وبدأت المشاكل المنزلية تحاصره لأنه يأكل ويعيش في البيت دون أن يقدم شيئاً. مرة أردت أن أنصحه ليعود إلى ما كان عليه من بسط يده كل البسط، فأخرج حزمة نقود من جيبه بيدين راجفتين وصار يقبلها بحرارة ويقول: هذه هي الحياة كلها.
احتقرته في تلك اللحظة وتركته مع حياته.. رغم ذلك لم أستطع التخلص من شعوري بالذنب تجاهه.. أجل أنا الذي دفعته إلى ذلك، كل مرة أتردد إليه في العمل وأحاول إصلاح خطيئتي فأفشل. خسر جميع رفاقه وأهله وأخوته وأقربائه وخسر صحته ونفسه، أنا المسؤول عن مرضه ويجب أن أشفيه: أرجوك يا غازي: الغني يموت والفقير يموت وأنت ستموت.
- لأمت غنياً أفضل من موتي فقيراً.
- وما الفائدة؟
- الفائدة لا أحد يعرفها بقدري.
- لكنك تنتحر هكذا.. لقد خسرت كل شيء!!
- بل ربحت كل شيء.. غداً سترى ما أفعله..جميعكم ستكونون بحاجتي.
- أنت مجنون.. هل تتصور بأنك ستتحول إلى وحش.
لم يخطر ببالي أنه سيطالبني بمبلغ كان قد دفعه بإلحاح نيابة عني في إحدى المقاهي منذ ثلاث سنوات.. لقد ذكرني به وطالبني وسمعت بأنه فعل ذلك مع الكثير من أقربائه وأصدقائه، لا أحد يستطيع أن يأخذ قرشاً واحدا ً منه.. يمشي تحت المطر ساعتين كي لا يصعد الباص.. لا يأكل إلا مرة واحدة في اليوم.. تصور ينام جائعاً. لم يسبق لي أن بكيت، ولكن اليوم فقط بكيت عندما رأيته…
أجل اليوم غلبتني الدموع وأنا أرى غازي في قلب المدينة، كان قد أعطى كل أمواله إلى رجل لقاء فائدة شهرية، ومنذ أيام سمع بأن هذا الرجل احتال عليه وهاجر إلى الخارج. لم يكن بوسعه أن يتقبل الأمر وينسجم معه ويفوض أمره لله. كان يهرول وسط المدينة بثياب ممزقة يحمل بيديه خرقة بالية أشعل فيها ناراً وينادي: نقود.. نقود. وقد تجمع إليه سوقيون ويلاحقه صبيان بالحصى.