ليت الأنفاق في بلادنا طويلة عكس حياتنا، يضنينا شتاء يغمر سعادتنا، وحزننا، وطقوس موتنا الرتيبة. التي تبعث الملل في نفوسنا الراحلة. ولا شيء يخدع أعمارنا سوى المياه التي تخدع عطش جفوننا، والزيوت ترشح طيلة الوقت من وجوه الجبناء والكذبة.
الجبال وحدها ترى وجع عيوننا الشاخصة للبعيد. هذه المرة، لا أدري الى اين ستأخذنا آلة الزمن والحرب. الى أين سنهرب من عاهات هذا الوطن المستديمة. أخبرني يا شارل! هل نذهب الى باريس المشمسة حتى في ليلها، نحن الذين تعودنا على العيش بدون كهرباء. أو لندن التي يجوبها المارة من كافة الأنحاء بوجوه عنصرية لا تشبه آدميتنا.
ربما الى غلاسكو التي تنتشر المقاهي في شوارعها كالنمش. فقدت الدروب نهاياتها المعلنة، الكلاب في بيروت تسير عمياء تتخبط بلا حاسة الشم. وفقدت الأنفاق روعتها السالفة لم تعد للمرور الخائف من الكوابيس. لم تعد تبتلع الوجوه الهاربة من عفن الحياة، الموت ما عاد رحلة محفوفة بالمخاطر الى الجانب الآخر. حيث مخاض عميق، وحيث الشعر يجلس وحيدا على كرسيه الوحيدة في مملكته الأزلية بدون خدام أو ملائكة يحرسون نومه الطويل.
فقدت الساعات وجودها، وبطئها، العقارب تسير بلا جدوى. ندخل من فوهة الحياة كمثقب. نخرج جثثا آدمية برائحة تفوح، صدورنا مملوءة بالموت وعيوننا بفوضى الحياة.
ولا نملك سوى حقائب وأجنحة.
الأيام المعلقة بورقة على جدار، سقطت جميعها، دون تدخل من أحد، الأيام وقصص العشق العابرة، والجلسات المطولة في المكتب، وحدك المثقف الناسك. تقطع مسافات من الإسفلت لتعبد الثقافة. في الطابق السابع من المبنى، لا شيء. فقط الفراغ يولد هدوءا مثاليا، ولعنة الكلام تمشي وحدها في الممرات.
ونحن في ليل بيروت المبكر، نمضي نحو تحرر مزعوم، صفوف طويلة، تنسدل رؤوسنا من هزائمنا المتتالية، ولا يغرينا سوى الصمت. الصمت الكثيف في عروقنا.
• ناتي إليها، نتجول كالسواح في أزقتها....
بيروت هذا المساء، لها طعم الغربة، لها نكهة المستحيل. جمع من عشاق وسياح يئمون شطر موتها السابق، وجوه تزدان بخدود نابضة، بنظرات خفيفة وماكرة، لأيد تصطاد الزمن تحت سماء طليقة، وبضعة أزواج يرشون السكر على سواد أيامهم.
كانت الدقائق تمر بسرعة الضوء من أمامنا. وكلمات تداعب إفتراقنا البطيء، وعودة المدينة من حرب مات أبطالها. وكنا نبحث بين الأنتيكات المكومة بأسعار باهظة، عن بنادق من قتلوا هنا، عن أرواح لهم لم تغادر مطمئنة، هنا أو هناك، لم تر غير السقوط المر. صوت الهواء يقف على حافة الغيب.
راحل كالشمس بريق الأغنيات.
لا شيء يبدو حقيقياً اليوم، إلا الليل. بضعة شوارع مرصوفة حجارة سوداء بلون الغياب، تكذب على نفسها، ولا نقش في الهواء المعرّى سوى أطياف تنطبع على بياض أجساد العابرين. وكانت elma تبحث عمن يقطف مواسمها بعض إصفرار الأبنية الواطئة، ولم يكن جلبة وفوضى، تائهة، بدون شيء يحضن عمرها.
بين الأيام وليل elma ، كانت نيران تعترف، أزهار تخلع رداءها الربيعي، ونهار آخر يعلن عن رحيل شمسه، وليل يأتي له صفاء البلور.
وكانت تخرج نداءات من وجه elma الدافىء كمواقد الريف، ونظرات ساهمة تصدر من عينيها النقية كمياه الينابيع العالية، elma كانت تتذكر الأيام التي سرقت والدها.
قبل تفتح البراعم.
•شارل...
لن أكتب لك عن بيروت مرة أخرى. أعرف أن قدميك الصغيرتين أدمنتا المشي هنا، وأن لا أحد أكثر منك يعرف " حروب الشوارع " (1 ) .
أعرف أن باريس لا تناسب شعرك الطويل الأملس، وأن لندن لن تقبل بك تحفة للمزاد العلني، ومقاهي غلاسكو لا تشبه التسكع في ليل بيروت التي تمتد بين المسافة والذاكرة.
في المرة القادمة سأكتب لك عن مارك الذي لا أعرف عنه شيئاً، وعن ريتا الصبية الجميلة صديقتي التي تشبه حديقة منزل صغير، وعن نيكول، تلك التي أخبرتك عنها يوما.
ولم أكمل الحكاية.
.........................
1. " حرب شوارع " هي رواية شارل شهوان التي تحكي عن بعض ما كان يحدث في الحرب الأهلية اللبنانية.