العتمة منتشرة في الغرفة الصغيرة التي شهدت مسيرة حياة  طويلة تلك المُسجاة على سرير المرض  .... صمت أصمّ يلف المكان ...  صمت أشبه بسكون ظلمة القبر ... همسات خافتة  تشق ذلك السكون  من حين لآخر تليها تنهدات لا تكاد تُسمع ... كانت تنظر  إلى الشمعة الوحيدة التي تُضيء المكان  وقد استرسلت بأفكارها  وأخذت تهيم بذكرياتها مع اللهب المتصاعد غافلة عن كل ما حولها.

 ها هي الشمعة تذوب شيئاً فشيئاً  وسوف تنطفئ  بعد قليل كما سوف ينقضي ما تبقى من أيام حياتها عما قريب ... فقد عرفت بمحض الصدفة على الرغم من أن الإنذار  كان  قد سبق أيضاً ,بما كانت تعانيه  من آلام منذ أشهر, عرفت من نظرات الإشفاق التي يُلقيها عليها شقيقها وشقيقاتها بأن أيام حياتها باتت معدودة, وبأن ذلك الألم الذي كان يقضّ مضجعها لم يكن عابراً كما اعتقدت وكما اعتقد من حولها, وبأنه ليس سوى وعكة مؤقتة.,  وإنما كان الألم قد استأصل وانتشر من صدرها إلى كتفها. 

نعم!... إنها مصابة بمرض السرطان  ذلك المرض الذي يخشى الجميع حتى من إيراد اسمه والذي يُشيرون إليه بصوت خافت  وبرهبة وجفل...

أحاطوا بها. كل منهم يُغدق عليها عبارات الحنان ...  كل منهم يبدي استعداده ولهفه لتلبية أقل رغباتها  ومتطلباتها., لكنها في غمرة كل هذا الاهتمام والرعاية التي فات أوانها, غافلة عن كل ما يجري حولها...

 كانت روحها تهيم في رؤى أيام حياتها التي انقضت والتي بدأت تذوي كما تذوب الآن هذه الشمعة لكي تنشر الضياء حولها...  نظرت إلى وجوههم المُحببة يملأ قلبها شعور غامر بالراحة والاستكانة... شعور كان يُخفف قليلاً من حِدة الألم الذي أخذ يتزايد في الأيام الأخيرة بحيث لم تعد تُخفف من وطأته لا الأدوية المسكنة ولا العقاقير المهدئة.

نعم !... لقد فات الأوان لكل شيء وانتهت رحلتها الدنيوية انتهت رحلة العطاء والإيثار وذابت شمعة حياتها.

كانت بعد وفاة والديها المفاجئة بحادث اليم قد تولت تنشئة شقيقتيها  وشقيقها وهي  لاتزال في الخامسة عشر , بينما كانت شقيقتها الأصغر سناً لاتزال في سن الرابعة . كانت صدمتها مروّعة  وكان حزنها أكبر من طاقة احتمالها  , فقد شعرت ,بالإضافة  إلى ألم الفقدان , بعِظم المسؤولية التي ألقيت على عاتقها , وبان الله تعالى قد اختارها لمتابعة مسيرة والديها في تنشئة إخوتها .

 كرست حياتها لهم . أحاطتهم برعايتها . أغدقت عليهم حنانها ,في الوقت الذي كانت فيه بأمس الحاجة إلى الحنان الذي فقدته وهي لاتزال على أبواب ربيع العمر...  ولم تكن قد تولت فقط مسؤولية تنشئتهم و تعويضهم عن حنان الأم والأب  معاً وإنما كان عليها أيضاً أن تعمل لتأمين الدخل والمورد اللازم لإعالتهم ., فلم يكن والدها قد أورثهم سوى ذلك المنزل الذي يقيمون فيه. عملت في حياكة الملابس  وكانت تحرم نفسها من أقل الاحتياجات  ومن كل ما تتوق إليه نفس من هنّ بمثل سنها , لكي تؤمن لهم  أفضل التعليم إلى أن وصل كل منهم إلى برّ الأمان ...  ولكن متى تم ذلك ؟  لقد تمّ بعد أن ذوي شبابها , وبعد أن ضعف بصرها , وبعد أن ذبلت نضارتها وبعد أن انطفأت آمالها  وأمنياتها الواحدة تلو الأخرى...

نسيت نفسها وتناست حقها في الحياة وفي الأمل. كم من ليال أمضتها إلى جانب سرير تلك الصغيرة تُهدّهدها وتضمها إلى صدرها لعلها تعوّضها عن الحنان الذي فقدته بفقدان الأم والأب معاً, فقد كانت لدى والديها الطفلة المدللة آخر العنقود.  كم من ليال سهرت  وهي مُنكبة على عملها في الحياكة إلى جانب شقيقها لكي تؤنسه وهو يستعد لامتحاناته ...لقد  تناست حاجتها هي أيضاً إلى صدر يضمها ويغمرها بالحنان, تناست حاجتها إلى شريك لحياتها يُشعرها بالأمان, واستبدلت كل ذلك بتفانيها غير المحدود لتلك الرسالة التي نذرت نفسها لها لكي تُحافظ على كرامة عائلتها وعلى كرامة كل  فرد من أفراد هذه العائلة.

 تذكرت كيف كانت صديقاتها يتهامسن بأن شبابها سوف يذوي, ويتساءلن عما سوف يحل بها بعد أن يشقّ كل من إخوتها طريقه وبعد أن يستقل كل منهم بحياته ؟ سوف يكون الأوان قد فات لتحقيق آمالها وتطلعاتها., وسوف تبقى وحيدة بعد أن يكون شبابها قد ذبل وبعد أن يكون ربيع حياتها قد انقضى., ثم أصبح الجميع يطلقون عليها صفة "الأخت الملاك".

وهكذا مرّت السنوات . وها قد وصل كل منهم بعون الله إلى برّ الأمان, وها قد انتهت أيضا مسيرة حياتها...

لا !... ليست وحيدة فالجميع يحيطون بها... الجميع يُغالبون دموعهم وهم ينظرون إليها بحنان وليس فقط بإشفاق لما تُعانيه من آلام عجز الأطباء عن تخفيفها...  كل منهم يُذكّرها بما قدمته له من تضحيات وبما منحته له من حنان ويقدم لها أسمى معاني الشكر والامتنان...

فهل ذهبت حياتها التي وهبتها لهم هباء ؟ ... هل تشعر الآن بالأسف والأسى ؟ لا ! ..بل على العكس . هناك الآن شعور غامر بالسكينة يملأ قلبها.  شعور راحة المحارب بعد تحقيق النصر ... شعور فرحة من نجح في امتحانه...  شعور من حصل على المكافأة لقاء ما أنجزه من عمل... 

همست " أحبائي الغوالي ! أنا أعلم بأنني مريضة بهذا المرض العضال وبأنه في آخر مراحله, وبأنه لا أمل بشفائي منه. كنت قد سمعت أصواتكم الخافتة وأنتم تتحدثون إلى الطبيب. لست خائفة من الرحيل عن العالم . لست آسفة على مغادرة الحياة ., كل ما أرجوه منكم ان تحاولوا تخفيف آلامي ., وكل ما آسف عليه هو أنني سوف أفتقدكم."

عَلت أصواتهم, وأخذ كل منهم يحاول إقناعها بأنها مخطئة وبأن لمرضها علاجه وبأنه لازالت أمامها سنوات طوال فقد آن الأوان لأن تعيش حياتها ولنفسها فقط بعد كل ما قدمته إليهم من تضحيات... أخذ كل منهم يَعدها بأن يُعوّضها عما قدمته إليه, لكنها اكتفت بأن همست بالعبارات التالية:

لا تحزنوا عليّ ولا تقفوا أمام قبري لكي تبكوني فلن أكون هناك...

سوف أطير من حولكم بآلاف الأجنحة...

سوف أصبح أشبه بجوهرة تتألق فوق الثلوج المتراكمة...

سوف أكون شعاع الشمس الذي سُشرق كل صباح على العشب الناضر في حديقة منزلنا...

سوف أكون مطر الخريف  اللطيف الذي يسقط في سكون الصباح...

سوف أكون نجمة تُضيء سماءكم في الليالي المظلمة ...

سوف تشعرون بروحي تهيم حولكم وترعاكم حتى وأنا في عالمي البعيد...

لا تحزنوا عليّ فروحي سوف تبقى معكم   ومن حولكم

ولا تبكوا على قبري فلن أكون هناك.

 

 

 

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية