لا ترجوني أن أتكلم، فليس لدي القدرة في أن أعثر على بداية للحديث! واختصر فيها أحداث الأشهر المرّة، فقد كنت على مدار الزمن الماضي القريب تسمح لنفسك أن تعبر عما تريد، وتفرض عليّ الحصار، وتغتال الصوت البريء، وهو يتلوى بالآهة! لا يجد من يكشف كربه، ولا من يصغي لمقالته.
وفرضت عليّ الحياة التي لم تدع لي فيها مساحة ليشعر الغريب أن له دولة تمدّه بالعطف، وتسكب في عينيه الصفاء، وترسخ في قلبه الانتماء! لكنّ الذين يقدمون على الظلم لا يشعرون بمرارته، بل إنهم حين يظلمون لا يرون إلّا المتعة، ولا يذوقون غير اللّذة والنشوة برؤية آلام الآخرين، وسماع بكائهم وعويلهم!
كانت الشمس تحصد ما تبقى من ساعات النهار، وتختبئ خلف الغيم المسافر كلما اشتدّ الريح، وأخذت الأشجار تتناوح حين وضع رأسه بين يديه، وهرب إلى كتبه المبعثرة، وأعاد قراءة الرسالة من جديد، ثم يتمتم والحزن ينعصر دمعًا من مقلتيه: قليل من الناس يقيس الزمن بمساحة الحدث، ولربما يمرّ قرن كامل لا يثير في نفسك كما يثيره مرور يوم واحد!
"ألا عجبًا للذين يشيعون الجنائز ويستطيعون أن يفكروا بشيء غير الموت"، كان محاصرًا بالهواجس المتحركة، التي لا تترك مكانًا في جسمه إلّا جعلته غائبًا عن الواقع، حاضرًا في الألم، لا يستطيع أن يكتب شيئًا؛ لأنه يجهل المكان الذين يقيمون به، ولا يستطيع أن يستمع أو يشاهد إلّا غير هذه الصورة، وهذه الأسطر، وهو في نفسه متهم حتى وهو بريء، وملامٌ حتى من الذين يعون قلبه وعقله، فكيف يثبت أن المسافات حرب أخرى؟ وأنّ هذا الجسم خالص النية، وأن الأيام مصممة على عدم التدخل من أي طرف، مهما كانت تبلغ درجة الشجاعة، ومهما أقسم صخر الشاطئ على الصمود بوجه الرياح والأعاصير والأمواج.
وحين دخل عليه الليل، وأطبقت عليه الهواجس، صلى ركعتين، ثم ترك كتبه وقلمه ودفاتره، وأوى إلى فراشه، وكاد يغفو لولا أنه سمع خصامًا بين أمّ وابنتها، فجلس، محاولًا تفسير الأمر والخروج من عمق آلامه.
كانت الأم تصرخ بأعلى صوتها، وابنتها تستحلفها باكية أن تخفض من صوتها! ولعل الأب الحنون كان غائبًا في ذاك الوقت، والأولاد الصغار عادة لا يحبون التدخل في أمور أكبر من عقولهم، يحبون أن يستسلموا للصمت، رغم أن الصراخ والبكاء يثير في نفوسهم ثورة السؤال وعاصفة السخط!
وسرعان ما انتهى الأمر دون أن يفهم شيئًا، لكنه استطاع أن يغذي فكرة كان يحملها في رأسه عن تسلط بعض النساء على الرجال، وحبهنّ أن يصنعنّ القرار من دون تأخير أو عقبات أو حتى تحليل ونقاش يبديه الرجل. وما لبث أن عاد لسكونه وحيرته، وخرج في عتمة الليل يمدّ بصره للأفق البعيد، ويدعو بالخير والحفظ لتلك المنازل والربوع البعيدة التي يراها بقلبه ، خلف المسافات التي تطويها الصحاري الواسعة، ثم أغلق الباب، وأطفأ المصباح، وترك الكتب، واستسلم لنوم عميق، فمضت ساعات ثقيلة وكأنها كابوس مزعج، وهو راقد لا يسمع إلّا صوت الهواء الخافت ينسل إلى تلك الحجرة.
ما أعجب الذين ينامون بسرعة! كأن النوم فيهم موتًا مفاجئًا يأخذهم على حين غرة، ويبعدهم عن الواقع، ويعيدهم من بعد ذلك للحياة من جديد!
لكنّ ذلك اليوم الذي لملمَ فيه شمل أحداث طويلة من البؤس والحيرة والاغتراب قد سمح بعده للشمس أن تمارس دفئها الطبيعي حين علم في أثناء عودته من العمل أن صديقه القديم لا يزال قويًا، لم تمسسه يد الدهر بسوء، وأنه نجا من مرضه الأخير، وأفاق من غيبوبته اللعينة، وبالطبع سوف يكتب له رسالة يصف فيها ما حدث، ويطمئنه عن أخبار سميرة، تلك التي تركها منذ سنوات، وقد اشتاق لها كثيرًا، وحنّ لأيامها الحلوة، أيام الصبا، وتلك اللحظات التي كانت تزور بها المشفى حين كانت أمها تتعالج فيه، أيام رائعة، تعلم فيها الكثير، وحفظها عن ظهر قلب كاسمه أو كأنها جزء من كيانه الخاص.
وانبلج الفجر، وعاد صاحبي إلى كتبه، يقرأ تارة وينظر في صورتها الجميلة تارة أخرى، وسمع قرع الباب يدق بيد لطيفة، هرع إلى نفسه، فأحسن من هيئته قليلًا، ثم وضع يده على المفتاح، فانفرج الباب،ابتعد قليلًا قليلًا، فتح عينيه مرة أخرى وأغمضهما، وأخذ يعود قليلًا قليلًا.
هي نفسها، بوجهها الوردي الجميل، بيديها الناعمتين، بثوبها الخمري، وثغرها الصغير العذب، تنسل إليه كريح جنوبية امتزجت بأنفاس الأزهار البرية، ويلاه، ما أفعل!
لم تترك لحيرته أن تطول، أو لأحلامه أن تسبح في الفضاء، بل لامست يده برفق، وكأنما تفرغ أشواق السنين المرّة بلسعة كهربائية، أو يسكر الإنسان من يده، هو لم يذق طعم الخمرة قط في حياته، ولكنه الآن شعر بما هو ألذّ من الخمرة، لم يصدق، بقي كعامود خشبي منصوب على الباب، ثم ولّت من أمامه، وانكشفت فرجة الباب عن فراغ، يدسّ الهواء العليل وعطر النرجس والخزامى.
ويلاه! أيعقل أنها طارت كل هذه المسافة، وقطعت كل تلك الجبال والسهول والصحاري لتدخل ثم تخرج كحلم قصير، كيف أنت؟ وما الأخبار؟ هذه الرسالة لك اقرأها، هذا كل ما حدث.
كانت زيارتها قصيرة جدًا في حدها الزمني لكنها كبيرة في وقعها في نفسه، لم يكن يحسب يومًا أن يجود عليه الزمان بهذا اللقاء الذي مرّ كالحلم العابر في بضع دقائق، كيف تركت الوطن البعيد؟ واجتازت الحدود، وطارت إلى هنا؟
دخل إلى مطبخه الصغير ليصنع فنجانًا من القهوة، هو لا يستطيع أن يمسك بالرسالة ويقرأ سطورها دون أن يستعد لذلك الاستعداد النفسي الملائم،
وبينما كانت يده تضع ملعقة السكر إذا سمع صوتًا مزعجًا، صراخًا، وضجيج سيارات، ثم صوت سيارة إسعاف تهرع إلى الشارع المقابل للبناية التي يسكن فيها، ترك علبة السكر مفتوحة، وهرع نحو النافذة يلتفت إلى الشارع، حادث سير، رجال تقف على جانب الشارع، ورجال الإسعاف يحملون شخصًا ثم يضعونه في السيارة، وتهرول السيارة بعيدًا تصفر كالريح في آخر كانون.
ترى ما الذي حدث؟ كان قلبه ومشاعره تشده نحو سميرة ورسالتها التي جاءت من أجلها، أغلق النافذة وعاد إلى المطبخ، وضع السكر، ثم حمل فنجانه إلى سريره، جلس فيه، مشتت الأفكار، تتنازعه الهواجس بين تفاؤل غريب، وتشاؤم ثقيل.
رشف رشفة من فنجانه ثم مدّ يده إلى الرسالة، تناولها بلطف، ورفعها لفمه فقبّلها، وأغمض عينيه لحظة ليسبح في ألم الذكريات بعيدًا:"عزيزي فارس، تحية لك من أعماق القلب، اعذرني، فلست بكاتبة، لا أعرف كيف أعبر لك عن مشاعري، ولا أدري كيف تكون مشاعرك الآن حين أقص عليك ما حدث، وألخص لك ما جرى منذ أن سافرت قبل خمس سنين، والدي توفي، وأمي في الفراش مريضة جدًا، تركتها عند خالتي، متى ستأتي؟ اعتقد أن الوقت مناسب لفعل شيء."
أعاد قراءة الرسالة غير مرة، وكأنما يعدّ كلماتها، يريد أن لا يفوته حرف منها، ويلاه! كم أنت صابرة ومحتسبة يا سميرة! تبيتين في المشفى لتقومي على خدمة أبيك وحيدة، أبوك الذي رفض يدي حين تقدمت لخطبتك قبل سبع سنين، أتذكرين؟ كان يريد أن يزوجك من إنسان ثري لا يعرف الفقر طريقاً إليه، وعندئذ علمت الجواب من وجهك حين رأيت الدموع تكاد تنفجر من عينيك عندما رأيتك وأنت تنزلين من السيارة، ولقد مات أبوك الآن فلا نملك إلّا أن نترحم عليه، لكني أحمل همومك فوق صدري، وأقدّر ما عايشته من عذاب ومعاناة ما تزال فصولها تتلاحق، أخواك أعلم أنهما ممنوعان من العودة، لذا لم يحضرا وفاة والديهما، منعهما الاحتلال من عبور الجسر، فجئت إلى الأردن للقائهما، وأحبا أن تروّحي عن نفسك قليلًا، وتخففي من الأحزان فتذهبي في رحلة إلى صديقتك في جدة، وقد اغتنمت الفرصة، فجئت إليّ تحملين الشوق القديم، والعهد المتجدد، آه يا عزيزتي!
ألقى بالرسالة جانبًا بعد أن حفظ معانيها غيبًا، أخذ يستعيد لحظة مجيئها المفاجئ وخروجها مسرعة كنسمة طيبة هبّت عليه لحظة ثم أعقبها سخط الصحراء وحرها اللاذع، تناوشته الأفكار من كل جانب، هو يحتفظ بسبعة آلاف دينار الآن، كان يوفرها من دخله كل شهر، لا بد له أن يغامر ويعود إلى وطنه وهناك يعود ويخطبها ثانية، ليعيد البسمة ثانية إلى وجهها الذي لم تترك فيه المعاناة مساحة لسرور أو بارقة تفاؤل، نعم عليه أن يقضي إجازته القريبة عند أهله، فطالما انتظروا عودته، وحلموا بتزويجه والفرح به.
جاءته أفكار مجنونة، هي لسع العشق الذي يفضل أن ينغرس في العظم ويعمل فيه ولا يظهر للسطح فيفتضح أمره، ليس كل الناس سواء في نظرتهم لمثل هذه المشاعر، ألم يكن من الأفضل لو خرج معها ورافقها مسافة معينة؟ ويلاه، كيف تجثم الحيرة أحيانًا في لحظة اتخاذ القرار المهمة؟ وماذا لو لحق بها الآن؟ أليس أفضل له من أن تأكله نيران الأفكار الملتهبة بين أسئلة لا تجد إجابات شافية يتلظى بجمرها كلما فكّر بمستقبله؟
قرر أخيرًا أن يلحق بها، هرع إلى ملابسه المعلقة على المشجب، ووقف أمام المرآة قليلًا، ثم لبس حذاءه، وحمل مفتاح شقته وتحرك نحو الباب، كان قلبه قد سبقه إلى الشارع الطويل الممتد أمام البناية التي يسكن فيها، وما كاد يصل الباب حتى سمع رنين الهاتف، رجع إلى الوراء وكل مشاعره تقول أنها هي ذاتها، لم يسأل عن المتصل أولًا بل بادر إلى القول: أهلًا وسهلًا، أين ذهبت بهذه السرعة؟
جاءه صوت الرجل ليقطع عليه مشاعره، ويقول : عفوًا، هل هذا بيت فارس المقداد؟ أجاب بيأس: نعم سيدي، أتريد شيئًا؟
ثم تناول ورقة وأخذ يكتب عنوانًا وصف له، ووضع سماعة الهاتف، وهو لا يصدق ما سمع، ماذا جرى؟ لماذا أذهب للمشفى؟ من هناك؟ هل حدث شيء لواحد من الزملاء الذين أعرفهم هنا؟ ولماذا لم يقل لي هذا المتصل ما الأمر؟ آه ولماذا لم أسأله أنا؟ متى سأتعلم أن أستقصي كل أمر بسرعة؟ أيعقل أنّ فيّ بعض الغباء؟
قفز إلى الشارع بخطوات مجنونة، وركب أول سيارة أجرة مرت أمامه، ثم انطلقت به السيارة وفق العنوان الذي تم تسجيله على قصاصة ورق صغيرة.
وما هي إلّا لحظة حتى وقفت السيارة أمام المشفى الكبير، تناول السائق أجرته، ثم انطلق، بدأ يشعر بإرهاق غريب، هو لا يحب أن يرتاد هذه الأماكن؛ لأنها تذكره بمرض الأعزاء، بذكريات حزينة جارحة، لكن آه لو أننا استطعنا دائمًا أن نكون في المكان الذي نحب ومع الأشخاص الذين نحبهم، ما أصعب هذه الأحلام! وما أبعدها من المنال!
توجه إلى أقرب نافذة في المشفى، فوجد أحد الموظفين ينظر في مجموعة أوراق أمامه، حيّاه وسأله عن الشخص الذي اتصل به أين يكون؟ أشار له الموظف أن يصعد الطابق الثالث ويسير نحو غرفة رقم (4) من اليمين، سار صوب المصعد، لم يرَ غير آلام وجراح ودموع تدب على الأرض، هذه تبكي، وهذا يمسك بأطفاله الذين يتصايحون، وهؤلاء يحملون الطعام والشراب ويصعدون، وسرير يجره ممرض من هنا وهناك، دخل إلى الطابق الثالث، هرول نحو غرفة رقم (4)، وجد موظفًا يتحدث إلى مجموعة من النساء العجائز، انتظر قليلًا ثم سأل: أأنت السيد سلطان؟ هزّ الموظف رأسه قائلًا : أأنت فارس المقداد؟ قال: نعم، نهض الموظف عن كرسيه ثم أشار إليه أن يتبعه، وفي الممر الممتد أوحى له أن فتاة تعرضت لحادث سير، وأنّ إصابتها خطرة، وهي تطلبه ليكون إلى جانبها، حاول أن يعيد الكلمات التي نطق بها الموظف، لم يفهم غير أن المستقبل الذي انتظره قد أصيب ودخل المشفى.
كانت مستلقية على سرير، وفوقها أجهزة طبية متعددة، وقد امتدت الأسلاك إلى جسمها، وبدا وجهها يحمل بعض الجراح، وقد لفّ رأسها بقطعة قماش، وكذلك قدميها، وساعدها الأيمن، كانت نائمة ، لست أدري بالضبط أهي نائمة أم في غيبوبة عميقة سبحت بها الآلام إلى بحر اللاعقل أو اللاوعي؟
لم يصدق ما رأى! ناداها باسمها فلم تجب، وضع يده على يدها اليسرى وأخذ يقبلها، ثم بكى، حاول الموظف إبعاده عن السرير، وأخبره أن وضعها لا يسمح له أن يتصرف وكأنها في حالة جيدة، لكن فارس لم يكترث، شعر أن سميرة هي في أمس الحاجة له الآن في هذا الموقف الصعب، لم يفكر ماذا عليه أن يفعل. لم تخطر له الأفكار التي يتعامل بها الذين يسيطرون على أعصابهم، ويفكرون بعقولهم. وهل يستطيع المرء أن يحتفظ بعقله في لحظة اللاوعي؟
كان حزينًا جدًا، لكنه يحمل الأمل الكبير أن تخرج معافاة سالمة من هذا المصاب، كان يعزي نفسه بما عزم عليه من العودة وطلب يدها في الإجازة المقبلة.
سمع أنينًا ينبعث من شفتيها، عاد مرة أخرى ووضع يده على يدها، وأخذ يهمس لها أنه قريب منها ولن يتركها وحيدة، كان صوتها ضعيفًا يتسلل كشعاع النور الخافت، والموظف يقف قرب الباب لا يدري ما يفعل.
وفجأة نهض الموظف وطلب إليه الخروج لحظة، ظنّ فارس أن هناك عملًا ما سيقوم به الموظف، جرّ نفسه ووقف خارج الباب، وأخذ يدعو الله، أن تعود سميرة على ما كانت عليه من العافية، لكن الموظف أغلق خلفه الباب، وأطال المكوث، وبدأ صبر فارس بالنفاد، ثم لم يستطع الاحتمال أكثر، فدفع بيده الباب ودخل، كانت سميرة قد نامت وخرجت من الدنيا، وها هي الأجهزة قد رفعت عنها، وغُطي جسمها بغطاء أبيض، حتى رأسها، حاول الموظف إخراجه، تقدم موظفان آخران وأمسكا بفارس، وحاولا تهدأته، أصرّ على الدخول والنظر إليها، رفع الغطاء قليلًا، ثم لم يستطع أن يقاوم فأغمي عليه من شدة الحزن، ولم يفق إلّا في غرفة الطوارئ بعد ساعة، وهو يحمل حقيبتها، وينظر إلى صورتها من خلال الوثائق الرسمية، وليس له إلّا الدموع.