(فازت هذه القصة بالمركز الأول عن فئة القصة القصيرة في مسابقة وزارة الدولة لشؤون الشباب "نبقى"، مارس 2014)
"أنت كُبيْتيّ؟"، يسألني سائق الأجرة بفضول لزج. بوسعي أن أرى عينيه تلمعان وهو يراقبني من مرآته.
أهزّ رأسي على مضض. وددت لو أفعل مثلما يفعل صديقي الذي كان يخادعهم بقوله:
"I'm from Dahya."
لم يكذب، فكثير من المناطق في الكُبَيْت يسبق اسمها كلمة "ضاحية"! وحينما كانوا يستفسرون منه عن "داهية" هذه -ظانين أنها دولة- كان يقول لهم أنّها مكان صغير في قارة آسيا. ما أظرفه! كيف جاء بهذه التورية؟
لا أجدني متحمسا لاستخدام التورية، فسمرتي الطازجة تفضحني. كيف يمكنني إخفاء آثار النعمة، وبلدي أحد الأقطار العشرة الوحيدة في العالم التي ما زالت تنعم بالشمس؟
يزفر السائق، ثم يثرثر بحسد:
- أنتم محظوظون! قل لي، هل الشمس متوفرة حقا في كل أنحاء بلدك؟
- يمكنك أن تقول أن الشمس تُشرق على ثلاثة أرباع الكُبيت تقريبا. هناك مناطق تضررت، كما تضرر بقية العالم جرّاء انفجار مولّدات الطاقة الهيدروجينية.
- لولا الجشع والتجارب الحمقاء، لما حدث ذلك، ولما اضطررنا لاستيراد الطاقة والدفء والنور منكم. لا تغضب، ولكن أنتم قوم خدمكم القدر!
آه، القدر، القدر الرائع! بدايةً اللؤلؤ، ثم النفط، والآن الشمس في عالم غارق في الظلام والبرد. ما أكرمك يا كريم! يقطع السائق الهذّار شرودي:
- أخبرني، ما معنى كُبيت؟ أصحيح أنها كلمة إنكليزية؟
- إلى حد ما. كُبيت تصغير لكلمة "كَبَت" والتي تعني خزانة، وهي محوَّرَة عن الإنكليزية Cupboard.
- عجبًا! ولم سُميت بلادكم بهذا الاسم؟
- لستُ أدري، لكن لطالما كانت خزانة للأشياء الثمينة على ما يبدو. أرض صغيرة، خزانة لثروة ما. لا أدري إن كان هذا المعنى في بال أجدادنا حينما سموا بلادنا بهذا الاسم، لكن أوليس عجيبا أن يكتبَ اسمُ البلاد قدرها المستقبلي؟!
- وكيف جاء هذا المجد؟ هناك دول أخرى ترفل بالشمس، لكنكم الأشهر والأثرى!
- لقد تعلمنا درسا قاسيا. حينما انتقل العالم من طاقة النفط إلى طاقة الهيدروجين، جابهنا نكبة عظمى. انهار اقتصادنا بغتة، وعشنا سنوات عجافا. تعلمنا أن عوامل الإنتاج التقليدية (الأرض، والموارد الطبيعية، واليد العاملة) لن تفي بالغرض إلا إذا عاضدها عامل إنتاجي رابع؛ المعرفة.
كانت هذه الثروة الثالثة التي تُحباها بلادنا في تاريخها، ثروةً قد لا نرزق بعدها بثروة جديدة حينما يمضي الزمن وتتغير الأشياء كعادتها. وكان القرار أن نتحول من دولة ريعية، إلى دولة صناعية تحكم المعرفة عمليات إدارتها لثروتها.
- عليّ أن أعترف أن أكثر منتجاتكم التي أثارت إعجابي هي مصابيح فيتامين د.
يُخرج السائق مصباحه الصغير من جيبه، ويريني إياه مُفاخرا.
- أوصاني الطبيب باستخدامه ثلاث مرات في الأسبوع. بعد أزمة الشمس، عانى معظم سكان بلادنا من نقص فيتامين د؛ هذا الفيتامين العنيد الذي يأبى أن يتكوّن تكونا تاما بالغذاء وحده، بل يتطلّب تعريض الجلد لأشعة الشمس.
- هل تعلم أن هذا المصباح الصغير كان فكرة مخترع في الخامسة والعشرين؟ وانتهى به المطاف صادرا وطنيا رائجا، وأحد أهم مصادر دخلنا. هكذا يكون اقتصاد المعرفة.
- فكرة عبقرية!
أصلُ إلى وجهتي، أنزل من سيارة الأجرة. أجيل ناظري في السحب الرمادية التي تسد جبين الأفق، والمصابيح الصغيرة المنتشرة في الشارع بالكاد تنير المكان. ترنُّ في وجداني أغنية قديمة جدا:
"يا شمس، يا شمس، لا، لا، لا، لا تغيبي".
أهز رأسي مُخالفا. لا أحفل بك أيتها الشمس، غيبي، غيبي! نحن ثروة بلادي لا أنت! غيبي، وسنجد لها مشارق جديدة وبهيّة.