عنت له الفكرة أثناء عودته أول أمس خائباً من مصلحة الجوازات ....كانت العربة مزدحمة والجو حار شديد القيظ لا يشجع مباشرة على اختراع الأفكار ، نفى عنه نفسه الغباء ,عندما واتته الفكرة بالأحرى كان سعيدا ً بهذه الفكرة ،ود لو نفذها على الفور. ولما كانت ظروفه لا تسمح أجلها إلى صباح اليوم . قال في ذات نفسه: الدعاء وحده لا يصلح الأمور, وكان قد صلى الفجر حاضرا ،وعدل عن فكرة موت هذا الموظف الذي رفض استلام أوراقه في وقاحة . بيد أنه خجل أن يطلب من الله في الصلاة شيئاً دنيوياً كهذا خاصة وأن الدنيا إلى زوال واكتفى بأن قال يا أرحم الراحمين ارحمنا .. اللهم نجنا من الهم والغم والكرب العظيم ، وضع الأوراق بعناية وحذر في جيب البنطلون الخلفي مع البطاقة ولما تحسس جيبه انتابته المخاوف ، فقد يظن به اللصوص الظنون " سأدوخ من جديد السبع دوخات لو ضاعت هذه الأوراق " سحب الأوراق في رفق ووضعها في جيب البنطلون الأمامي, للحظة فكر, كان يجب أن اشترى كيسا أضع فيه هذه الأوراق, ثم فجأة تذكر شيئا فأخرج على الفور ورقة نقدية صغيرة ووضعها في جيب القميص العلوي عادلاً عن فكرة شراء كيس لحفظ الأوراق .


أ - الفكرة وكيف جاءته:


"قال الرجل النحيل الممصوص الوجه ، وهو ينقل نظراته بين الشاب الجالس فوق المقعد يدمن نظراته بين سطور الجريدة والعجوز المتورمة الوجه كادت تختفي عيناها ، تقف خلفه وكانت تعض أسنانها من الألم
- لم بعد عند الناس دين... أين الإسلام ؟ قلت في نفسي لو كنت مكان هذا الشاب لأجلستها .. ثم خطرت لي فكرة : ورقة نقدية صغيرة ، يأخذها أول شحاذ أقابله يكون صادقاً يدعو الله أن يصلح أحوالي.. يستجيب الله لدعائه.. لا يردني موظف الجوازات هذه المرة, ثم أسافر إلى الخارج "


ب- فكرة فرعية:


"أنا الآن بجوار محطة السكة الحديد ؟ لماذا لا أركب القطار ؟ إنه أرخص بكثير من الأتوبيس والتاكسي " .؟ تطلع إلى
معصم يده اليسرى تذكر على الفور أن ساعته ليست معه ، تلفت حوله وقال له ثالث رجل مر به : التاسعة والنصف .
قال : شكراً وتأكدت ظنونه في أن ثمة قطار سيقوم من المحطة حالاً . ردد في نفسه وهو يسرع الخطو "قلب المؤمن دليله ". أسرع يرتقى درجات السلم الخارجي لمبنى المحطة كان عليه ألا يتوقف، غير أنه استرعى انتباهه الرجل المتكور أعلى السلم ماداً يديه إلى الأمام يكاد يقطع عليه الطريق ، اختفت ساقاه خلف فخذية بحيث يبدو للناظر كأنما بتر نصفه الأسفل من عند الركبتين . وقف متحيراً للحظة ثم مد يده في جيب القميص العلوي وأخرج ورقة نقدية صغيرة رماها في حجر الرجل وجرى يلحق بالقطار .


ج- اليقين المفقود :


"أعرف أن هذا الشحاذ لا يستحق الصدقة وأعرف أنه يخفى ساقيه خلف فخذيه وأعرف أنه يحمل في طيات ملابسه ما يكفى حاجتي لسنه قادمة أو أكثر .. لكن هل يستجيب الله لدعوته ؟" .
القطار لا يزال بجوار الرصيف ، هذه هي الصفارة الأخيرة .. تحرك يجرى الآن خلفه
لحق بالقطار على أخيرا . قالت امرأة تفترش الرصيف تنتظر القطار القادم(على مهلك يا بنى ) ارتمى على مقعد خال بين لا مبالاة الركاب .. قال بصوت منقطع "نفسي انقطع ".
هدأت أعصابه قليلاً وبدأ تنفسه يعود إلى وضعة الطبيعي ، تخيل نفسه يقف /أمام الرجل القابع خلف المكتب وراء الشباك الحديدي في مصلحة الجوازات يبتسم له وقد أخذ الأوراق منه :
- تمام يا أفندم .. أي خدمة
قال الكمساري وهو يدق بيده خلف المقعد :
- تذاكر .

– انتظر الكمساري حتى كتب له التذكرة ثم أخذها وانتقل بجوار الشباك ، مد بصره من خلال النافذة يتابع الحقول وأعمدة التليفونات :فوجئ بانحصار اللون الأخضر في الحقول ثم اكتشف أن القطار يسير ببطء شديد


د-خاتمة حزينة :


"يقول المثل العامي : يا طالع من بلدك حزين راح تفرح فين وأنا حزين : والقطار يسير ببطء شديد يكاد يتوقف ..أخيراً وصلت إلى مبنى مصلحة الجوازات لأجد الباب مغلقاً .. "اليوم إجازة رسميه بمناسبة عيد الثورة المجيدة ".هكذا قالت الورقة المكتوبة بخط رديء وهى تكاد تسقط على الأرض الموحلة.
كاتب مصري
ليسانس آداب – قسم اللغة العربية- كلية الآداب /جامعة الزقازيق/مايو 1985م. ماجستير في الآداب كلية الآداب - لغة عربية - /جامعة الزقازيق/مايو 1991م. دكتوراه في الآداب – تخصص الأدب الحديث - كلية الآداب / جامعة المنصورة 2001م. له مجموعة من المؤلفات الأدبية والأكاديمية منها: لن أقلع عن هذه العادة (مجموعة قصصية)، شعراء حول الرسول صلى الله عليه وسلم (دراسة أدبية)، الفن القصصي عند فاروق خورشيد.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية