يحكى أن...
هناك في مكان ما على هذا الوجود المرصَّع بالغرائب والعجائب، بالإذهال والدهشة والانشداه، بلدٌ صغير يافع، تجتمع فيه الطفولة المدمَجة بالبراءة والنقاء والصفاء، بلد يمتدُّ من إصبع الولادة الغضَّة إلى ذراع الجنين المتحرِّر من رحم يضجُّ بالحياة والغبطة والنماء والأزهار، اسم هذا البلد غريب إلى حد الاستهجان والاستنكار، ومألوف وكأنه ولد مع ولادات الأكوان وبدايات الحيوات، تتناوشه التناقضات من كل الأطراف، ويحيط به المألوف الواضح الجلي من كل المسامات، تداخلت فيه أنفاس الجوري، وحقن بسموم العقارب والأفاعي، خضع لتفتح الياسَمين المستلِّ روعته من خرير الجدول المعقود على ذؤابة الأرض، وفقد أنفاسه أمام الأَصَلات العاصرة المراقبة لكل شهقة ونبضة من شهقاته ونبضاته.
امتدَّ على خاصرة المتوسط، حتى بدا، وكذلك المتوسط، كأنهما صنوان في الشكل واللون والرائحة، والظل والسفر من الشاطئ إلى الشواطئ، فالشاطئ اسم هذا البلد؛ فلسطين، واسم ياسَمينه وجوريّه ودِفْلاه وياسَمينه: فلسطين، اسم بسمتِه ودمعته، حزنه وفرحه، لوعته وغبطته، اسم كل رعشة فيه منذ بَدْء الخلق وحتى نهاية الخلق: فلسطين.
ذات ألم وغفلة وانهيار...
فتحتِ النجوم والأقمار والشموس أجفانها بتراخٍ، عروسٌ في صباح دُخلتِها، تمطَّت قليلًا، فاهتزَّت على ضجيج الصرخة المسفوحة بمدى السقوط والتهاوي، أصغت الأكوان، انتفضَت الشموسُ، غُلَّت الأقمار، وثار غبارٌ من صحارى الوجود، تكثف واجتمع والتحم، أخضعته الرياح إلى قوتها، سحبته إلى نواتها، تحوَّل إلى دوامات قمعية متحركة، غطى النظر، وسيطر على الأفق، توارت الرؤى والرؤيا، تحرك الناس، هذه العروس البِكْر التي صمدت أمام كل محاولات الاغتصاب والتعرية، المتجدِّدة البكارة والنضارة والسطوع، لا يمكن تركها بين أنياب مخلوقات خرجت من ظلمة الأشباح لتكون صاحبة القرار في عذرية وطن لا تُفَك عذريته.
يومها، كما مع الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلوات والتبريكات، دارَت رقاب الفقراء والموجوعين، كرحى تُدِيرها العواصف والزوابع، حملوا نواياهم الطيبة المغرقة في الطِّيبة والصدق والتصديق، ورفعوا الياسَمين على عروش السِّنْديان والحور والبلُّوط والصَّنَوْبَر، وزاوجوا بين النَّعْنَع والزَّعْتر، وخضَّلوا بعَرَقِ سواعدِهم وجباههم ترابَ الجذور العميقة في الأرض، يومها صدقوا، كما صدق الكثير من المسلمين، بأن العودة قريبةٌ إلى حد الرؤية من "البؤبؤ"، لكنهم في لحظة منتزعة من الإرهاق، المعجون بالألم المتفجر، أدركوا بأن حياتَهم ستكونُ على أرصفةِ الغربة، المكسوَّة بالعار والهزيمة، وأنهم سيكونون حيث يحلُّون مادة من موادِّ التجارة، وبضاعة للتضحية والجزر والتنكيل، والغريب أنهم سيواجهون كل هذا وما هو أصعب وأغرب باسم فلسطين، ذات الاسم الذي وُلِد في ضمائرهم ولادة الحياة فوق الوجود.
قيل عن تغريبة بني هلال الكثير، أما نحن، فقد قيل: إنها تشريقتنا، قد يكون بنو هلال قد اختاروا الغرب لأسباب يعرفونها، لكننا لم نختَرِ الشرق أبدًا، كانت تغريبتنا في ذات الرعشة المتوترة، تنقسم وتتفرق، نحو الشرق والغرب والشمال والجنوب، وما بين زوايا الجهات ومجاهل الثنايا، حتى الشواطئ والموانئ كانت أيضًا ترسم هجرتَنا، فكما ركِبنا اليابسة على أقدامٍ عارية متورِّمة تَنْزِف عرقًا ودمًا وأملًا وحلمًا، ركِبنا الهواء، وامتطَيْنا الماء، كنا نحن مَن يُحِيط بالجهات والاتجاهات، وكنا أيضًا نشعُرُ بتكوِّن الخراج والصديد والقيح بأعماقنا، كان الألم يُرافِقنا كملكة نملٍ تضع بيوضها بدواخلنا، لتخرج جيوشها وتمسك بنا من تلابيبِ قحف القلب، وبؤرة الفؤاد، ونواة الروح؛ حتى نبقى مشدودين على صليب الوجع والضنك، شئنا ذلك أم لم نشأ.
وبدأنا رحلةً من رحلات، ورحلات من رحلة، لا تتشابهُ بصورها ومساحاتها وطرقها مع رحلات ابن بطوطة والبيروني، أو رحلة السيرافي، وابن جبير الأندلسي، ولسان الدين الخطيب، والمسعودي، أو حتى مع رحلة ابن "خُرْدَاذبَهْ" بحثًا عن يأجوج ومأجوج، رغم عظم المهمة في البحث، والضنك في الوسائل التي اتُّبِعت لإيجاد قوم عرَفنا عنهم ولم نعرف مكانَهم، كانت رحلاتنا التي بدأت منذ زمن، والتي ما زالت تتوالد وتتناسل غربةً واغترابًا، أشكالًا وأوصافًا، تقنيات ووسائل أعظم في واقعية خرافتِها من رحلات السندباد أو جلجامش البابلية والأوديسا الإغريقية، أو حتى من رحلة المعرِّي في رسالة الغفران.
نحن في تشتُّتِنا رسَمنا على جدار الأزمنة والأمكنة، الجهات وما بينها من فُرَج وشقوق - رحلة الخيال والأسطورة المُحمَّلة بالعذاب، والتَّوْق، والوجع، والإيمان، والعودة، كنا نُطوِّع الخيالَ، الأسطورة، الملاحم، الأوهام، لنُحوِّلها بخطواتِنا التي لم تترك ذرةَ ترابٍ فوق الأرض، أو ذرةَ ترابٍ صعِدت من باطنها، إلا ورسَمنا آثار أقدامنا وأحلامنا عليها، لو حملتَ ذرةَ جليدٍ وترابًا مغلَّفًا بالجليد في القطبينِ، وحملتَ أخرى من الحد الآخر للكرة الأرضية، أو بصورة أدق: لو ظللتَ تسيرُ بشكل دائري عبر أزمان وأجيال، عبر وديان وجبال، بين فجوج وسهول، بين بحار ومحيطات - لَمَا استطعت أن تنجوَ من شهقة أو زفرة فلسطينية هنا وهناك، ولو قُدِّر للبشرية أن تفتح لحظات وهُنَيْهات الزمن، أو تشق شقوقًا في جسد الآماد والمساحات، لسمِعوا بوضوحٍ صوتَ الدموع وهي تتساقط لترسمَ اسم فلسطين في كل الأشياء والمكونات، كل الأساطير والأوهام والملاحم، كل الخرافات والمستحيلات أعلنت خجلَها من ذاتِها، وصغرت حتى حكمت على ذاتها بالتلاشي حين رأت رحلتنا ترسم كل ما سبق ممكنًا وكائنًا يفوق كل تلك الأساطير والملاحم والأوهام والمستحيلات.
قال لنا العرب ذات خديعة ممعنة في الخديعة:
احمِلوا أحلامكم وأدمِجُوها بإيمانكم، على كواهلكم، وعلى سواعدكم، وبين الأصابع، اتركوا الشواهد تشهَدُ على المفاتيح المعلقة بقلوبكم، تيقَّنوا من العودة، وإياكم وصدأَ المفاتيح، فإن الصدأ قد يعطل المفتاح، لا تقلقوا من الصدأ؛ فعودتكم أقرب من قمة المفتاح إلى قاعه، اغرِسوا الأمنيات بقلوبكم الراجفة؛ حتى تطمئن القلوب وتتسع الأمنيات.
كنا يومها نحمل العَقْد الذي بيننا وبين العرب، ففيه صفحات من تواريخ لا تُنسَى، ظننا أنها تتشابهُ مع صفحات العقد الذي وقَّعناه إيمانًا واطمئنانًا بالعرب، حملنا الآمال، رَشَشْناها برذاذِ التصديق، وهَمْي اليقين، لم نُبعِد المفاتيح عن الشواهد إلا حين كنا نشهد لله بوحدانيته، وللرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ برسالته، ظللنا ملتصقين بالحلم، بالعودة، ويقين العودة، إلى أن جاء زمن يتلوه زمن.
نظرنا في الآفاق، فعرَفنا أن صراعَنا مع اليهود هو أقل الصراعات عنفًا وقوة، وأدركنا بأن الوطنَ لو تُرِك لنا نحن فقط، لكُنَّا أعدنا دوران المفاتيح بالأقفال في فترة بسيطة، عرَفنا وبعد فوات الأوان بأن العرب كانوا ضمن الصراع والمعركة، لكنهم كانوا يدفعوننا للخروج؛ من أجل تمكين القادمين مكاننا، ذُهلِنا حين أدركنا معنى الانسحابات المتتالية، ومعنى الهدنة، ومعنى التقسيم، وأُصِبْنا بالرجة حين سمِعنا الجيش العراقي يبكي بحرقةِ الهزيمة وهو يستخدم لفظًا سيدخل قاموسَ رحلتنا وترحالنا: "ماكو أوامر"، ونسفنا من جذورنا حين وقفنا أمام مقبرة شهداء الجيش العراقي، واجتثثنا حين قُمْنا بعملية حسابية بسيطة لتَعدادِ المستعمر وتَعداد العرب والمسلمين.
نُفِينا، وسُبِينا، ووُزِّعنا كعبيدٍ على الأقطار العربية، وعلى حوافِّ الكون وقطر دائرته، ذُبِحنا وجُزِرنا فوق وطنٍ كنا نظن أنه سيكون واقيًا لنا من غوائل المجهول والمعلوم، وعُذِّبنا فوق تراب يتحدَّث ذات اللغة التي تحدث بها تراب الوطن، وقليلًا قليلًا تحوَّلنا بنظر العرب الذين أرسَوا هجرتنا قبل أن يفكر الاستعمار بإرسائها إلى دمامل تفحُّ كأفاعي يجب التخلص منها، ركضنا بما أوتينا من قوة، من ساتر إلى ساتر، ومن جبهة إلى جبهة، ومن خندق إلى خندق، وكنا نظن، بذات الخديعة ذاتها، أننا سنملك يومًا حرية الموت في سبيل الله ثم الوطن.
حتى هذه، لم يتركها العرب لنا، كان علينا أن نُواجِهَهم في مواقع ومواطن مختلفة، ونواجه أنفسنا وذواتنا، حين وزعنا العرب عبيدًا وتابعين لهم حسب الرغبة والقدرة في التحكم، نظرنا بعيونٍ تكادُ تلمُّ الأرض من أطرافها، إلى المفاتيح، فرأيناها تنتقل من شواهد جيل إلى جيل، ومن تجرِبة إلى تجرِبة، ومن مصر إلى أمصار، ومن أرض إلى أراضٍ، تشتَّت مثلنا، وطوردت بنفس الزخم الذي طوردت به آمالنا وأحلامنا، خِفْنا عليها من الصدأ، من التحلل، لكنا وجدناها تثبت ثباتَ الزيتون والخروب والبلوط، نبشنا دواخلنا، فتحنا مرافئ الألم على شواطئ العذاب، وأجرينا الجواري في محيطات اللوعة المنقوعة بشيح العروبة وحنظلِها، وجدنا أنفسنا كم أحاطت بها نوازل ومصائب وأرزاء الوجود، خِفْنا من ضيق الدائرة، دفعنا حدودها بكل ما نملك من ضعف، ولكن برجاء؛ رجاء قدير مقتدر، انسللنا من بين شقوقها كما تنساب النسمات في محيط الأدغال.
ركبنا كل شيء، الجثث والأرواح المعتقة بالموت والنفوق، أبحرنا في دماء الجرحى المتدفِّقة منذ بدأت الخديعة، مشَيْنا فوق كساح المشلولين الذين وطَّدوا كساحهم من أجل عبور مُؤقَّت للبقاء وعدم الفناء، مررنا بين ضربات قلوب الأمهات مرورَ الرصاص الذي زُرع في مُهَجِهنَّ، ومن بين ذهول اليتامى الذين سفوا التراب بحثًا عن لحظة حياة تتعلق بعينٍ ترصد المفتاح بالشواهد، واندفعنا من بين أمهاتنا اللواتي اغتُصِبن بهذه الأرض المتحدِّثة ذات لغةِ الوطن المسروق، كنا نضجُّ بالوجود، وكان الوجود يضجُّ بنا، ضِقْنا بالحياة حتى ضاقت الحياة بذاتِها، رفعنا اللغة السومرية، والآشورية، الإغريقية والبابلية، وكل لغات الأرض حتى لغة الفراعنة، قرأنا عن نبوخذ نصر، وعن كورش، عن حمورابي، وعن أباطرة روما وحكام الإغريق، وجدنا أنفسنا في كل زاوية من تلك الزوايا، وفي كل حرف من تلك الحروف، من قال بأن جلجامش أو الأوديسا هي ملحمة، فهو أجهل من الجهل وأغبى من الغباء، لماذا كنا فيها ومحورها وركيزتها إن كانت ملحمة؟
افتح كتب الآثار، في المكسيك والسودان ومصر، أو نقِّب تحت الرواسي، وفوق سنام الجبال، جرِّب أن تخرج كتلة جليد من القطب، عمرها مليون مليون عام، ستجدنا نشارك في التركيبة، في العناصر، في التكوين، هي رحلتنا التي لم تكن نحو شرق أو غرب، شمال أو جنوب، بل هي مرافقة للتكوين، للطبائع، للتشكل، نحن جزء من الدَّحوِ الذي جعل الحياة ممكنة.
قبل أيام كنت في البرازيل، صافحت شخصًا، قال: إنه فلسطيني، وقبل ذلك بلحظاتٍ كنتُ في فلسطين، فقال الناس: إنهم فلسطينيون، بعد دقائق كنت في غينيا، وقبل ثوانٍ من ذلك كنت في بلاد السند والهند، قابلت السندباد، هرب مذعورًا إلى جحر صغير صغير، وفي مكان ما التقيت بأهل جلجامش، فور رؤيتي أصيبوا بخزي الذل والعار؛ لأنهم ظنوا ذاتهم يومًا أصحاب ملحمة، وحين التقيت حمورابي وهو يحتسي القهوة مع الفراعنة، ومع الأمازيغ، ومع حكام المايا، وقف ووقفوا إجلالًا واحترامًا لأسطورتي وملحمتي التي لم تقبل أن تكون حاضرًا ومستقبلًا، بل امتدَّت لتتشكل في عين الماضي فتضع غمامة مُترَجْرِجة على الادِّعاء بعظمة مأساةٍ تفوقُ مأساتنا، أو ملحمة تتشابه مع ملحمتنا، أو هجرة تقابل هجرتنا.
قيل لنا ذات خديعة:
بأن الأسود لا تأكل الجِيَف، وأن الحيوانات لا تأكل أولادها، صدَّقنا ذلك، كما صدقنا العرب يوم قالوا بذات خديعة وخيانة: أخلُوا الساحة للجيوش، واحملوا الأحلام والمفاتيح، استعدادًا للعودة.
اكتشفنا حين كبِرْنا بأن الأسود تأكل الجيف، وتأكل وتقتل أولاد أنثى ستبني بها، كما الضباع والكلاب والنسور والعقبان!
واكتشفنا حين نضجنا بأن التمساح يأكل أولاده واحدًا تلو الآخر، من أجل البقاء حيًّا!
وأن العنكبوت تأكل زوجها!
واكتشفنا، حين أصبحنا الملحمة والأسطورة والخرافة والوهم الخاضع للحسِّ، بأن العرب لم يختلفوا أبدًا عن الأسود التي أكلتِ الجِيَف، لكنهم لا يأكلون إلا الأحياء قبل نفوقِهم، وكما حجة التمساح أنه يأكل أحد أولاده من أجل أن يحتفِظَ بحياته لحماية بقية الذرية، فإن العرب قدَّموا نفس العذر حين أكلونا كما الغيلان والأشباح ومصَّاصي الدماء؛ من أجل حماية ذلِّهم وعبوديتهم وخضوعهم على عروشٍ فيها صَوْلَجان على عبيدِ العبيد.
وتقدمنا نتلمسُ الأشياء والمستغلق والمُبهَم، تعلمنا واكتشفنا، تجذَّرت الجذور بأعماق أعماق ملحمتنا، تابعنا النمل والنحل، قالوا ذات الخديعة ذاتها بأن الحشرات تدعو للتقزُّز، فمنها تأتي الأمراض، ومنها تخرج الأوبئة، صدقنا تمامًا كما صدقنا يوم حملنا المفاتيح على الكواهل وفي المهج، لم نُخفِها عن تقلُّبات الفصول؛ كي تنجوَ من التفاعل مع الزمن، بل أشهرناها بجانب الأرواح والمُهَج، كسيف سيف الدولة الحمداني، وصلاح الدين الأيوبي، وكما رمح عمار بن ياسر، وخَنجر أبي أيوب الأنصاري، فكلها تدورُ في رحلات العمل والتجدد والنَّأْي عن الخضوع لطقس أو تأثير لتلف، ففتح المستغلق بابه، وأشرَع المُبهَم نوافذه كلها بعُرْي مكتمل النضوج والمشتهى، وجاءت الأشياء ساعيةً من بين ثنايا كل ذلك، قالت: كم أنتم طيِّبون وحَمْقى، كم أنتم أطفال براءةٍ لا تريد مغادرتكم، ولا تودُّون الانتقال منها إلى شباب، كم أنتم مُرْهَقون ومُرْهِقون، كم أنتم ما زلتم أنتم!
قلنا: قيل لنا.
قالت الأشياء: كم مائة مليون مليون مرة قيل لكم!
قلنا: ولا زال يقال لنا.
قالت الأشياء: وسيظل يقال لكم، ألم يُحدِّثكم النمل عن ذاته؟ ألم يُحدِّثكم النحل عن ذاته؟
قلنا: سنُحدِّثك نحن عن النمل وعن النحل، حديث الروح لطقس خارج من سَحابة مُثقَلة بالحمل، يَكْبَر جنينُها ويتمدَّد، فتفتح رحِمها من جهاتٍ مُتعدِّدة، لتنثر الحياة في أماكنَ كثيرةٍ، منها الأنهار المشبَّعة بالمياه، ومنها البحار المكتظَّة بالموج المتلاطم، ومنها المحيطات التي تحتضنُ البحار باكتظاظها، والأنهار بتشبُّعها، ومنها الجداول والغدران وحتى الكهوف وباطن الأرض، ومنها ما تزجيه حتى للغبار المتصاعد من جحافل الخيل التي شهِدت معارك بدرٍ وأُحُد وتبوكَ، وإمعانًا في الكرم، فإنها تمنح جذور الزيتون ما يصنع الزيت المبارك الذي يكاد يضيء لو لم تمسَسْه نار، وجرحًا للجود وأَنَفتِه، فإنها تفتح في الصحارى أنفاس الحياة التي كانت مطمورة تحت عذاب وإرهاق التأجج والاحتراق، والتلظي والشَّيِّ، لتبثق الحياة وهي تفح الموت فحًّا خارج نطاق غرغرتها، ولا تنسى تلك الغَيْمة أن تتمدد لتمنح حتى الجليد المتكوِّن كجبالٍ رمقًا من زيادةٍ للشعور المطلق بسطوة الحياة والكرامة.
خرافة تفوق الخرافة، تلك الغَيْمة، ولو قُدِّر لنا نحن أن نتتبع ملحمتها منذ البَدْء وحتى نثر الحياة على كل الأشياء والمساحات والآماد، لو قُدِّر لنا ذلك، وهو عين المستحيل الذي لا يتشابه مع المستحيلات التي عرَفها البشر؛ لأدرَكْنا ببساطة الطفولة والبراءة بأننا لا نقبل تسميتها ملحمة، بل شيء لا يقترن بوصف أو شبه أو تشابه، هو فوق الوصف، فلا اللغة تسعف، ولا الإدراك يحيط، ولا الكون بقادر على تحديد نقطة النشوء لتلك الغيمة التي تتعالى على كل ذلك بما تحمل من حياة.
نحن نفوقُ تلك الغيمة، في التشابه والاستعصاء والإدراك، فكل التاريخ الذي كتب وسيكتب ويكتب، لن يستطيع الإحاطة بشهقة مفتاح مدفون في مهجة صبية تكاد تقزم الغابات في عذريتها وأَلَقِها وصفائها، بل في زفرةِ مِفتاحٍ يسكن عينَي طفلٍ خرج من رحم لحظة انتقاله للموت، هي لحظة الولادة التي تأتي لتنتصر على من يريد لذاك الرحم أن يجف، أن يصبح موتًا لا يمكنه ضخ حياة وصنع وجود، لكن وقبل أن تكون الشهقة الأخيرة، قبل ذلك بلحظة مقتطعة ومخطوفة مما لا يمكن حسابه، ينفتح الرحم على مداه، فيخرج طفل وطفلة، وتذوى الحياة في الرحم، ليكون هناك امتداد البقاء لذوائه، طفل يستطيع أن يزرع البقاء في رحم ينتظر، وطفلة تنتظر أن يزرع في رحمها بقاء جديد.
هذا الاتفاق بيننا وبين النمل والنحل، فالنمل يظل يقاتل قتال البقاء والصمود والتشبث والإيمان، بأفراد تمدُّه بأفراد، ويظل متمسكًا بورقة يريد اقتطاعها دون أن يغادرها والنيران تقترب منه، يظل مؤمنًا بحقه في البقاء والتشبُّث، والنيران تأكله بسرعة البرق وببطء الحلزون، فتتوالد أجيال جديدة من السويقة نفسها وهي مُتخَمة بالتخلُّص من النمل، فتصعقُها صاعقة برق حين تتكالب عليها أرتالٌ من نملٍ يحمل رائحةَ مَن حُرِقوا دون أن يتركوا حقهم في البقاء والصمود والاستمرارية.
وبهذا أيضًا نتشابه مع النحل، فنحن نربطه ومنذ الأزل بأرواحنا المعلَّقة بالإيمان الحتمي بوجود إله واحد، يرعى المصاير والأقدار، ومن إيماننا به ما زلنا ننقع المفاتيح بالصبر المتأني الذي يُربِّي الأمل المتفجِّر، كنا منذ أجيال، هناك في الخلايا والأعشاش التي تتخذ من قممِ الجبال وذوائب الأشجار مسكنًا، فتعمل وتعمل، دون كلل أو ملل، أَلَم أقل بأننا ربطنا أواصرَ شديدة مع النمل قبل لحظات، فتعلَّمنا منه وعلَّمناه، الدأب المتسلسل بدأب، حتى أصبح وأصبحنا مثلاً؟ كذلك كانت عَلاقة العذرية الجميلة، المفضوحة الجمال، مع النحل، عَلاقة البرق المتخفِّي في الضياء المسروق من لحظات هائلة، وعَلاقة الرعد المختطَف من اندماج الآفاق والفضاء والأكوان، عَلاقة الرؤيا والسمع، التعليم والتعلُّم، حتى تزاوجنا تزاوجًا وجوديًّا، أنجَبْنا من خلالِه القدرة على التضحية من أجل بقاء مَن سيملك القدرة على التضحية، كسلسلة تفرخ وتبيض وتتناسل وتَلِد، تُتقِن كل فنون الإخصاب والحمل والولادة.
لكننا اختلفنا مع الأسود والنمور والفهود، مع التماسيح وأفراس النهر والضباع، أخذنا منها ما يتصل بالقدرة والاقتدار، الجري السريع المتواصل، الوَثْب والقفز والانقضاض، القدرة على مسح الوطن المسكون بقلوبنا بآثارنا ورائحتنا، لكننا رفضنا، رفض الأحرار المجبولين على الوفاء، أن نأكل أولاد الغير، حتى لو ضحَّيْنا بما نملك من إخصاب ونَماء وأرحام ولادة، لم نقبل عذرَ التماسيح التي أكلت ذرِّيتَها من أجل بقائها على الحياة؛ لذلك وزَّعنا أنفسنا، قلوبنا المثقلة بالأسى، أرواحنا المعتقة بالوجع، وأفئدتنا التي اتَّقدت فيها أَلْسِنة لَهِيب الغربة، على الغابات والسهول والسُّهُوب، حاولنا بما نملك من رحيل وتَرحال أن نُغيِّر ما في الأسود من نوازعَ، وما في التماسيح من تبريرات، أهدينا الأشجار والأحجار والفضاءات المحيطة بالأدغال أنفاسَ السكن والسكينة، حتى حين أحسَسْنا بأن ما نُقدِّمه لتلك الغابات يكاد يكون نِثارًا من هباءٍ، رفضنا الإحساس، وزوَّدنا النِّثار بطاقة البقاء في بؤرة العطاء، وما زلنا نُزوِّد الهباء الموزَّع هنا وهناك، بمحركات الأحاسيس التي تنبتُ من الياسَمين حليبًا تمتصُّه الأجنَّة الساكنة في النثار.
قالت الأشياء: أَوَتظُنُّ بأن الغابات ستتجرَّد من ظلالها وأشباحها وفتحات الشمس التي تتسلل من الذوائب؟ أم أنها ستتنازل عن طبع يأبى التطبع؟
هي الغابات أيها المشرَّد، كانت مذ وُجِدَت وستبقى تزودُ ذاتها بالتحلل الذي تصنعه الأنياب المختلطة بأنواع السموم، ما زالت رغم أنها شرِبت كميات هائلة من الدماء، من الأرواح، من الأجساد، من الأشجار، من الصوان، ومن الهواء والشهد، من الآثار الغابرة المغبرة، من الذكريات والأوجاع والعذابات، من شهقات الموت المترصِّد كل شيء، ما زالت رغم ذلك، هي المحشوة بالجوع والسغب والأُوَم والصدى، وما زالت تطلُّ من علوها إلى السراب الذي يسكن الصحارى بتوقِ المفترس الذي أفلتَت منه الضحية بعد تذوُّقه طعم الدماء واللحم، وستبقى تطارد السراب مطاردة نجمٍ للضياء، ولن تتوقف حتى وإن انتهت الحياة بها، ستدفن رغبتها الجامحة في عمق المجهول، وستنتقل إلى الغابات الناشئة المتكوِّنة في أماكن أخرى، وسيبقى السراب في مرمى شهوتِها حتى لو اختفى لمعانُه لبُعْد أو مسافة أو زمن أو مكان مُتغيِّر.
أَأُشفِقُ عليك؟ يجب أن تتعلَّم، بعد هذا الرحيل المتواصل بالتَّرحال، بعد هذا التشرد الموصول بالتوزُّع والتفرُّق، بعد هذه الخديعة، وهذه الخديعة المتصلة بخديعة تتصل بخدع، عليك أن تفهم كيف تتنفس الغابات، وكيف يستطيع السراب أن يُعذِّبها ويصلبها على نيران التوق المستحيل، السراب ليس وهمًا كما تعتقدُ وكما يعتقد الآخرون، اعتقاد الآخر لا يهمني، لكن عليك أنت صاحب الملحمة التي لن يستطيع أحد يومًا ما أن يصل فقط إلى تدوين نقطة بدايتها، عليك أن تدرك بأن السراب يحمل في تكوينه الخفي الحياة والنجاة والبقاء والديمومة.
لولا السراب لوقَف الناس وسط الصحراء ينتظرون حتفَهم بخنوع مفرطٍ، لكن ولأن السراب أدرك وسَبَر أغوار الغابات التي تتطلع ومنذ البَدْء إلى امتصاصِه ونفيِه عن الوجود، نما وتمدَّد، توزع على مساحات الصحارى؛ ليستنهض الأمل المذبوح لفحًا وفحيحًا وقيظًا، يدفعه نحو التصور بأن ما يراه هو سر النجاة والبقاء والحياة والوجود، ارتبطت الروح المعلقة بالرؤيا، فتم اصطيادُ المشاعر، نهض المذبوح من جثته، وأسرع يلاحق الوميض المتقدِّم بُعدًا عنه، يغُذُّ الخطى، يسرع ويسرع ويسرع، وفجأة، من قلب المجهول، يأتي صوت، صوت لا تستطيع الأذن أن تتعدَّاه أو تخطئ في تحديده، فيه نسمات فياضة، وموسيقا حياة، مياه تتحرَّك في قِرْبة ماء على جمل في قافلة، تدق الحياة أوتادها بقوة، نقاط قليلة تنقط في الحلق، يلتَئِم الوريد المذبوح، تكبر الصحارى وتتسع، فتبدو للعين وكأنها بساتين غنَّاءَة، تزدحم بالنسيم الرقراق المنبعث من ظلال السراب الذي لولاه لدفنت الروح بالأمل في رمل متَّقِد ملتهب.
عليك أن تكون أنت السراب المستنهض للأمل، لصوت الماء وهو يتقلقل ويرتجُّ مع تقلقل وارتجاج النُّوق، حتى يمتزجَ الخرير بجدران القِرْبة، فيتحوَّل إلى صوت خارج من طاقة القدرة والإلمام عن إدراك ماهيته، فلا هو بالخرير الممعن بالنقاء من الارتجاج، ولا هو الارتجاج أو التقلقل الممعن بالنقاء من الخرير، هو صوت الحياة إن شئت، وإن شئت هو صوت البقاء والتواصل والتوالد والانفتاح على الماضي والحاضر والمستقبل، بل هو رغم أنف مشيئة الخديعة بذاتها صوت المفاتيح المتناثرة في كل نسمة خفيفة ناعمة فوق البصيرة، هو صوت الأنفاس التي تُسوِّر المفاتيح بهالات الروح المولودة للتو واللحظة، وهو أيضًا هالات الروح المغادرة في التوِّ واللحظة، وهو بين البين في هذا وذاك، وهو كل ما تعرف ولا تعرف، ما يمكن ولا يمكن، المملوك والمستحيل، الكائن وما سيكون.
قلت: لكنكِ نسيتِ شيئًا، فدرسُك الذي تَودِّين مني الإحاطة به، هو يسيرٌ إلى حد الانفعال والغضب والسَّوْرة، لكنه مُفرَّغ من رائحة الزيتون الكامنة الهدوء، ومن ورق التين المفروش بالخضرة المزدحمة بالسكينة، والأهم أنه لا يعرف روعة الليل المغرق تلحُّفًا في جُلَّنار الرمان الحامل في الثمر حُبَيْبات تكاد تضاهي الفيروز والشفق والغسق في نفس الآن، بعيدًا عن سنابل القمح التي تطرز الجبال والسهول والوديان بذهب يسبقُ سبائك الشمس وأَلَقها ورقصات توهُّجها، هو أيضًا لا يتساوق مع زهر اللوز الذي يكاد يمزق طهر البياض وعذريته الأبدية.
نحن عرَفنا الغابات، اختبرناها، شجرة شجرة، وكائنًا كائنًا، حتى إننا استطعنا بخبرةِ ملحمة الرحيل المتواصل بين شقوق الشمس، ومزق القمر، وفتحات العتمة، وتسربات الضياء - أن نلمس بأناملنا، بل برأس الأناملِ، الهواءَ والنسيم والعواصف والرياح والزوابع والأعاصير، لمسًا مكَّنَنا من قدرة عدِّ الهدوء الذي في النسيم والهواء، والغضب الذي في العواصف والزوابع والأعاصير، فرَزْناه، كما يفرز الكون الوجود المخفي عن الأعين، وحتى هذا خبرناه، فحشَوْنا الغضب بطاقات الهدوء، والتفجر بالسكينة، والارتجاج بالثبات، وقلنا للغابات والصحارى ما قلناه، قلنا للصحارى: احتفِظي بوجودك كما أنت، فلا أروع من الأصل الذي خُلِقت عليه، فأنت كما أنت، شوكة تُدمِي روح الغابات التي تحاول اجتياز المسافات لتصل إليك، مُحمَّلة بطباعِ التماسيح والفهود والنُّمور، تُقاتِل ومنذ ملايين الأعوام لاغتيالِ السراب من بريقِ وبرقِ ترابك الذي يَغلِي حرارةً تُوشِك على الاشتعالِ، لولا طبع الكتمان وصبر المكان، لولا هذا الصبر لاغتيل السراب، الأمل، سراب الأمل الذي أوصل لنا عبرَ تاريخ الخديعةِ والملحمة صوتًا لا تخطئه الآذان، صوت الماء الساقط في حلق التشرد والتشريد والهجرة والتهجير، تنفتح العوالِم الخفيَّة تحت التهاب حرارة الرمل القادرة على امتصاص كل سائل، إلا سائل خطواتنا المرسومة على صفحات الذهب الذي ينادي ذهب السنابل الذي ينتظر المفاتيح.
قلنا لك أيتها الأشياء: إننا نشعر بالألم حين نضع أقدامنا على الرمال الملتهبة، وإننا لا نُنكِر الوحشة والتحسُّب والتوقُّع الذي يقتحِمُنا حين يَقِبُ الليل ظلمته الخارقة السواد على الغابات، ولا ننكر بأننا فكَّرنا بانقلاب الجواري ونحن نتوزع ونُوزَّع عبر المحيطات، وأننا نرجف حين تنعقد عاصفة أو تتكوَّم زَوْبعة، لكنه ألم الحياة، الذي يُشعِرنا بقوة الخوض من أجل إيجاد نهايةٍ لمثل هذا الألم، حتى الألم سخَّرناه لإرادة المفاتيح، الحلم، الأمل، وكذلك فعلنا مع الرجفة وانتفاضة الجلد أمام المحيطات.
لم نَزِدْ عن القول: إننا بشر، ولا نريد أن نزيد على ذلك شيئًا، لكننا بشر نحمل خصوصية الخبرة الطافحة بالتناثر كرذاذِ النَّدى في كل صباح من صباحات الكرة الأرضية، وخصوصية الانتشار كهمي وضباب وبخار، ككائنات تعتلي الآفاق في مساء من مساءات الكرة الأرضية، خصوصية النور والإشراق والضياء، كنورٍ متأنق من قمر يطلُّ بخجل أنثى تتوسَّد مَخْدعَها ليلة دخلتِها، وكشمسٍ ولدت بفجأة الانبعاث لتطلَّ من كل الجهات على الأرض المنتشرة فوقها، خصوصية الليل المعقود فوق شيء كان قادرًا على إبصار ذاته وغيره، ولحظة الانعقاد الظلامي شُلَّت قدرة بصره وبصيرةُ الشيِّ، لكن بصر الظلام وبصيرته كانت لنا طوعًا، فكنا قادرين على الانتشار حتى مع الرجفة، مزودين ببصر وبصائر، رغم تنافرها وتباعدها وتضادِّها، فإنها لا تملك ولا تستطيع أن تملك التوحد والتواؤم إلا فينا ومن خلالنا.
اعلم أن الرحلة طويلة، وأن أدوات الخديعة الأولى، يوم حملنا غبار الأرض على أقدامنا وأجسادنا ورؤوسنا، يوم حملنا فسائلَ الزيتون والكُروم في أعماقنا، أبسط وأكثر حمقًا وغباوةً من زمن الخديعة الذي يأبى أن يرى كيف تزاوجنا مع الشمس فأنجبنا الضياء، لكننا رغم إدراكنا العظيم والهائل، من خبرة أصقاع الأرض التي وزعنا وتوزعنا عليها، فإننا نعلم علم اليقين، اليقين المطلق، بل عين اليقين المطلق، بأن الخديعة الأولى بحماقتها، والخديعة أو الخدع التي تتمنطق الآن بالعلم والإعلام والصبر والأناة والمال والجاه، لا يمكنها أن تتجاوز خنصر طفل خرج من الرحم في التوِّ واللحظة ليمسك المفتاح مطاردًا سرابَ الأمل الذي يقود إلى الماء، ماء البقاء والاستمرارية والصمود، ولا شاهد عجوزًا لا يقوى إلا على تحريكِ الشاهد تلبية لنداءِ الله ـ عز وجل ـ، وهو يلتقط الشمس ليعلقها على أهداب شهيد وأم شهيد، ليكبر حلم الإشراق ويصل إلى حلم الحرية، الذي سنقطفه لنوزِّعه على مَن خدعونا، ليعلموا كيف كانوا عبيدًا، وكم ناضلنا لنُحوِّلهم من خلال حريتنا إلى أحرار يتذوَّقون طعم الشمس حين تُخلَط بحليب القمر والقُبَّرات والعنادل.
قالت الأشياء: أنت بليغ، أبلغ مما توقعت وحسبت، تعرف كيف تبني الكلمات لتُحوِّلها إلى عوالِم، وكيف ترصف المفردات لتُحوِّلَها إلى مدن وعواصمَ، وكيف تسبكُ الجُمَل لتجعلها مدنًا وأمصارًا وحواضِر، وكيف تربط الفقرات، لتخلق قارات لا تقسمها أبحرًا أو محيطات.
فما الذي استطاع أن يجعلك تملك مفتاحًا ولا تملك بابًا؟
قلت: أنت الأشياء، اسم بلا مسمى، لا يدل على معنى محدد، ولا يملك التمدد في الخيال والحلم، لا تربط اللغة بك روابط، ولا تملكين رابطًا بأي حرف، ورغم ذلك استطعت أنا ولو لفترة قصيرة أن أجعَل القارئ يراك وكأنك واقعًا يملِكُ أسباب البلاغة ودقَّة التحديد بالمفردات، لكن ما يجب أن تعلميه وتعلمه اللاأشياء، أنني لا أنتسب إلى بلاغة الحروف، ولا إلى قوة التعبير، وإن سعيت إلى رسم صورة كاملة النضوج حتى تتحول إلى مشتهاةٍ، يشتهيها الفيلسوف أو الشاعر أو الراوي، فإنني إنما أكتُبُ ما تُملِيه عليَّ الملحمة، ملحمة الرحيل التي فاقت تغريبة بني هلال، بل وأوضعتها وقزَّمتها إلى حد أنها وجلجامش والأوديسا، حين التقوا بها، انحَنَوا وهم مُجلَّلون بالخزي والعار والصَّغار، بكَوا بكاء المهزومين أمام قوةٍ لا قيمة لها لا في الحسابات والتقديرات، وندبوا ندب أفلاطون وسقراط حين واجه أحد الموزَّعين على الأرض، من شتات متصل بالخديعة، لم يُتقِنوا ولم يفهموا كيف كان لهم شأن في تاريخ لا يعرف عن رحلتنا وملحمتنا شيئًا.
من خلال هذا كله، استطعت إخراجك من المجهول وأنت الأشياء، التي لا تَعرِف ولا تُعرَف ولا تُعَرَّف، وأنا من خلال مأساتي استطعتُ حتى حين أُضِيفت لك "أل"، فكنتِ اللاأشياء؛ أي: مجهولًا مستغلقًا يغطسُ إلى حد الغرق في مجهول مُتخَم بالمجهول الحاوي كل المستغلق، استطعتُ وبقوة مرغمة أن أجعل العميان يبصرونك وأنت تنبضين بالواقع والخيال، ككائنات من عالِم واقعي مخلوط بعبثية السحر والخيال، واستطعت أن أمنح الطرشان قدرةً لسماع صهيل خيولك وصليل سيوفك، فانفتح الصمم على موسيقا الحلم والرؤيا، واستطعتُ رغم أنف المستحيل تحويلك إلى لحن ناي على ألسن الخرس، فعزوفك روائع من ألحانٍ اختلطت بآذان الكون المفتوح على أسماع الثُّغاء الهارب من أنياب الذئاب، واستطعت أن أُعِيدك من الماضي لأُتوِّجك الحاضر الموصول بالمستقبل، وأخيرًا استطعتُ أن أزجَّ ظلمتك بعين الشموس، لتضيء الأقمار فقط من انعكاس حقيقتك على الكون.
أنا مَن صنع كل هذا لك وفيك، فكيف تعتقدين أني أملك مفتاحًا ولا أملك بابًا؟ معي ملايين المفاتيح، ولكن لي باب واحد، أحمله في العين والقلب والروح، وأحمله في الأوردة والشرايين، أُخبِّئه في أعماق الدم الذي سال ولم يَجِفَّ، هذا الباب فيه السر الكامن الذي يفتح كل الأبواب، هذا الباب هو الوطن، الوطن الذي سيفتح الحرية على كل الأوطان، لكنه لا يفتح إلا بالمفتاح الذي توزَّع على العالم كما توزعنا، لا يفتح إلا بالمفتاح الفلسطيني.
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي