هل هناك في الكون عدالة تعادل عدالة الله تعالى؟
أليس الله تعالى من نشر العدالة بين البشر؟
أليس من أسمائه الحسنى "الكريم العادل الحق؟"
أليس الله تعالى من يُحقّ الحق ويكشف عن الباطل حتى لو تكالبت جميع قوى العالم ضد المقهور والمظلوم؟
سوف نرى في هذه القصة الواقعية التي هي من سجلات القضاء ومن صميم الواقع ومثالا حيّا على قدرة الله تعالى على إظهار الحق وعلى كشف الحقيقة مهما أحاطتها من غموض. وكيف أن الله تعالى قد يعجّل عقاب المجرم في الحياة قبل أن يلقى عقابه من المحكمة الإلهية الأكثر عدلاً.
كانت أم احمد مثلها مثل جميع الأمهات الصالحات قد كرّست نفسها بعد وفاة زوجها لولدها الوحيد أحمد . عملت لسنوات كعاملة تنظيف في أحد مصانع الزجاج في القرية التي تقيم فيها مع ولدها، والتي تقع بالقرب من إحدى المدن، لكي تتمكن من تأمين مصروفات دراسته وكانت قد حرصت على تنشئته تنشئة صالحة على مكارم الأخلاق.
كانت تحرم نفسها حتى مما يكفي من غذاء لكي تؤمن له تكاليف الدراسة، ولم تكن تبخل عليه بما يجعله يشعر بأنه ليس أقلً من رفاقه سواء في المرحلة الدراسية الأولى أو في مرحلة الدراسة الجامعية، إلى أن حصل من المعهد المصرفي المحاسبي على شهادة محاسب قانوني و بتفوّق.
وكانت والدته قد تمكنت بعد ذلك، بما شهد لها الجميع من حسن السيرة والسلوك ومن أمانة وإخلاص، أن تتوسط له لدى أحد كبار التجار ما جعله يحصل فور تخرجه على عمل في إحدى أكبر المؤسسات التجارية.
وبذلك كان ولدها قد وجد بأن على والدته بعد جهد تلك السنوات الطوال أن تأخذ حصتها من الحياة وحقها من الراحة وقال لها:
" أمي الغالية ! ها قد أديت رسالتك على أفضل وجه، كنت قد عملت لسنوات طويلة بأكثر من طاقتك لكي تؤمني لي ما يضمن وصولي إلى برّ الأمان، لذا آن الأوان لكي تستريحي وأن تتركي لي الفرصة لكي أرد ّإليك ولو القليل من حقك عليّ".
كان بإمكان تلك الأم الصالحة أن تترك العمل وتجعل ولدها يتولى المسؤولية عنها. لكنها أصرّت على الاستمرار في العمل بحجة حاجتها للتسلية أثناء غياب ولدها في عمله في المدينة القريبة.
كانت قد ظلت تعمل وتدخر كل ما تحصل عليه من أجور لأنها كانت تتطلع إلى استكمال رسالتها في الحياة، بأن تؤمن لولدها بالإضافة إلى ما يتقاضاه من راتب بعض المال مما سيُمكّنه من الزواج.
كانت أمنيتها الأخيرة في الحياة، بعد كل تلك التضحيات والجهد، أن تصبح له عائلة وزوجة مُحبة، وأن يُشرق منزلهما المتواضع بضحكات أحفاد صغار يُضفون على حياتهما البهجة والسعادة.
واستمرت حياتهما خمس سنوات على ذلك المنوال، وكان أحمد ووالدته قد اقتربا من تحقيق تلك الأمنية بعد أن توفر لديهما من المدخرات ما يكفي لإعالة زوجة وأولاد.
وبذلك كانت أم أحمد قد قالت لولدها ذات يوم بأن الوقت حان لأن يفكر جدّيًا بالارتباط بالزوجة المناسبة، وبأنها سوف تساعده على ما سيصبح على كاهله من مسؤوليات ومن نفقات إضافية بما لديها من مدخرات
لكن ما كل ما يتمنى المرء يُدركه تجري لرياح بما لا تشتهي السفن
كان أحمد بعد مضي شهر، قد اتصل بوالدته فجأة من المدينة لأنها كانت لاتزال مقيمة في تلك القرية، وقال لها بكثير من الأسى والاضطراب:
"أمي ! أرجوك أن تنقذيني بسرعة، سوف يُحطم مستقبلي، سوف يتم احتجازي في السجن، أرجوك أمي ! ثقي بأنني لم أرتكب أية خطيئة وبأنني لازلت ولدك الذي أنشأته على الأمانة ومكارم الأخلاق، لكن أحد العاملين معي في مكتب المحاسبة قد اختلس أربعمائة ألف ليرة سورية وهرب بها، وربما كان في طريقه الآن إلى خارج البلاد، وقد تم اتهامي بالتواطؤ معه واحتجازي على ذمّة التحقيق ما لم يظهر. أرجوك يا أمي أن تتدبري مبلغ الكفالة وأن تأتي إلى إدارة قسم التحقيقات لكي يتم الإفراج عني بكفالة ريثما يتم العثور على الجاني. هذا هو أملي الوحيد لأن لديهم بعض الأدلة التي قد تجعلهم يعثرون عليه بإذن الله وبذلك سوف تثبت براءتي. أميّ ! أرجوك أن تسرعي قدر الإمكان. استقلّي سيارة على الفور لأن كل ساعة أمضيها رهن الاحتجاز ستؤدي إلى تشوهه سمعتي وتجعل الجميع يعتقدون بأنني الجاني، وهذا ما سيجعلني أفقد ثقة جميع التجار وبذلك لن أتمكن طوال حياتي من العثور على أي عمل، إلخ..
بإمكان القارئ، وبإمكان أي أم أن تتخيّل موقف تلك الأم التي ضحت بشبابها في سبيل ذلك الابن. كانت بالطبع قد أصيبت بأسوأ صدمة في حياتها بعد أن اعتقدت بأن الأيام قد تعوّضها عما عانته وعما قدمته من تضحيات.
كانت تلك الأم البائسة وهي تنتحب قد أسرعت بجمع كل ما لديها من مدخرات من عمل شاق دام سنوات وأخذ من حياتها ومن عزيمتها ومن صحتها الكثير، كما كانت قد خلعت من يدها سواري الذهب اللذين كانا كل ما تبقى لها من ذكرى عقد قرانها على زوجها الراحل ووضعتها مع المال في حقيبة يدها، وعلى الرغم من أن الوقت كان قرب المساء كانت قد خرجت على الفور للبحث عن أية وسيلة تقلّها إلى المدينة.
إلى تمكنت أخيرًا من الاتفاق مع احد سائقي سيارات الأجرة على نقلها إلى المدينة. ولكن نظراً لأنه لم يكن هناك في ذلك الوقت أي مسافر آخر فقد اضطرت لإعلام السائق بأنها على عجلة من أمرها لذا فسوف تستقّل السيارة بمفردها وسوف تُضاعف له الأجر لقاء ذلك. وبذلك كانت بعد أقلّ من ساعة قد أصبحت في طريقها لإنقاذ ولدها الذي نذرت له حياتها من الفضيحة والضياع.
كان ذلك السائق قد لاحظ ما كانت فيه تلك السيدة من اضطراب، وبأنها كانت طوال الوقت تزرف الدموع وتبتهل إلى الله. وبذلك كان فضوله قد جعله يبدأ بالاستفسار منها عن سبب ذلك الحزن و عن سبب إصرارها على السفر في مثل تلك الساعة المتأخرة وعن عمل ولدها إلخ.. وكان بالتدريج قد تمكن من أن يطلع من تلك البائسة التي كان قلبها يفيض بما فيه من حزن وقلق على جميع التفاصيل.كانت أم أحمد قد روت له قصة حياتها وكفاحها وأعلمته بأنها في طريقها لإنقاذ ولدها الوحيد من الضياع وبأنها تحمل الآن كل ما تمتلكه في هذا العالم من مال لكي تسدد له الكفالة القانونية التي سيتم بموجبها الإفراج عنه إلى أن تنتهي التحقيقات إلخ..
وهكذا كان الجشع ووساوس الشيطان، في غفلة من ضمير ذلك السائق، قد جعلاه يُحدث نفسه:
"الوقت الآن قرب المغيب وهذه السيدة تسافر بمفردها، فإن قمت ... لكن لا ... لا... لن أفعل ذلك"
ثم عاد يحاور نفسه " لكن ماذا لو اقتدتها إلى إحدى المزارع القريبة وأخذت المال؟ سوف آخذ المال فقط ، نعم المال فقط ، لن أؤذيها ولن اعتدي عليها، لكنها قد تُبلّغ عني وتعلم الشرطة بأوصافي، لذا عليّ أن أتخلص منها لكي أبعد عني الشبهة لكن لا لن أفعل ذلك. لكن أنا أيضًا في حاجة ماسة للمال. لدي أنا أيضًا أولادي. ربما كان ولدها قد اختلس بالفعل تلك الأموال لذا فهو يستحق العقاب. كما أنه لو احتفظ بما اختلسه من صاحب العمل فلن يكون في حاجة للمال الذي تحمله إليه والدته.
واستمر صوت ضميره بذلك الحوار الداخلي إلى أن كانت نوازع الشر قد انتصرت على نوازع الخير وأسكتت صوت الضمير. وكان بذلك قد انحرف بالسيارة عن الطريق المأهولة وبدأ يتوجه نحو طريق ترابية داخلية تقع بالقرب من أحد المنحدرات قليلة العمق.
كانت تلك السيدة البائسة عندما التفتت حولها ووجدت نفسها فجأة في قفر موحش قد سألت السائق:
" لِم تسلك هذه الطريق الترابية ؟"
كان السائق قد أجابها بحدّة:
"لأنها الطريق الأقصر إلى المدينة. ألست علي عجلة من أمرك؟ سوف تصلين إليها بأقرب وقت".
كان الليل قد بدأ يُسدل ستاره وقد بدأ الظلام يحلّ شيئًا فشيئًا ما جعل تلك اليائسة تشعر أكثر فأكثر بالذعر. لكن هيهات ! لم يكن في كل تلك المنطقة من بإمكانه أن يُنجّدها.
ثم كان السائق عندما ما وصل إلى أحد المنعطفات المظلمة قد توقف وطلب من السيدة أن تترجل من السيارة وقال لها بأن عطلاً طارئًا قد أصاب المحرك، لكنه كان بعد ذلك قد اقتادها بالقوة نحو ذلك المنحدر . ضربها ضربة قوية جعلها تسقط على الأرض ثم طعنها عدّة طعنات بسكين حاد كان في جيب سترته.
وكان بعد أن نظر إليها وأيقن بأنها فارقت الحياة، قد استولى على حقيبة يدها التي تحتوي على المال والمصاغ وتركها دون حراك مضرّجة بدمائها وعاد بسرعة إلى سيارته وتوجّه إلى القرية.
لم يكن هناك بالطبع في ذلك القفر المظلم من شاهد ما حدث. وبذلك اعتقد السائق بأن الأمر قد انتهى إلى ذلك الحدّ. لكنه كان يجهل بأن الله يرى وبأنه لابدّ أن يظهر الحقيقة ولو بعد حين.
وبمحض الصدفة لم يكن السائق قد عاد بغنيمته إلى منزله، لأنه لدى عودته إلى مكان انطلاق سيارات الأجرة كان قد وجد بانتظاره عدة مسافرين كانوا طلبوا منه أن ينقلّهم إلى المدينة. حدث نفسه:
"سوف أخفي الحقيبة في مكان آمن هنا وسوف أقلّهم إلى المدينة ثم أعود . لم عليّ أن أفوّت مثل هذه الفرصة؟ لا ضرر من أن أحصل على المزيد من المال"
وبذلك كان قد توجه من جديد في طريقه نحو المدينة. لكن شاء الله تعالى أن يخطر بباله أن يمر مرورًا سريعًا بذلك المكان لكي يتأكد من أن أحدًا لم يكتشف بعد جريمته، وبأنه لم يتم العثور بعد على ضحيته التي لابدّ أنها فارقت الحياة.
اعتذر من المسافرين بحجة قضاء حاجة ثم ترجّل من السيارة وتوجه نحو المكان الذي ترك فيه ضحيته. وإذا به يسمع من ذلك المكان أنينًا خافتًا ما جعله يقترب أكثر إلى أن أصبح بالقرب من ضحيته وكان حينئذ قد فوجئ بأن تكون تلك البائسة لاتزال على قيد الحياة. كانت أم أحمد عندما شاهدته بالقرب منها قد مدّت يدها نحوه باستعطاف وهي تنظر إليه بتوسل وكأنها تطلب منه إنقاذها.
شعر السائق بالفزع وقال" تبًا لك ! ألا زلت على قيد الحياة ؟"
وكان بعد أن نظر حوله قد عثر إلى جانبها على حجرة كبيرة الحجم وكان بذلك قد تناول تلك الحجرة الثقيلة الوزن كي يضربها بها على رأسها لعلّه هذه المرّة يقضي عليها تمامًا..
كان المسافرون الذين طال انتظارهم لذلك السائق قد سمعوا فجأة صدى صرخة كانت قد دوّت وشقت سكون المكان، ما جعل أحد الرجال يُسرع إلى ذلك المنحدر، ويقول:
" أخشى أن يكون السائق قد أصيب بمكروه. علينا أن نسرع لنجدته".
ولكن، يا لهول، يا لهول ما شاهده ! كان قد شاهد على بعد عدة أمتار في منطقة مظلمة من ذلك المنحدر سيدة مضرجة بالدماء كانت ممدة على الأرض الترابية تئن أنينًا يكاد يقطع نياط القلوب، كما شاهد على بعد بضع خطوات منها ذلك السائق. كان السائق المجرم يلوّى ويصرخ صراخًا يصمّ الآذان وقد التف حول ذراعه ثعبان كبير الحجم، كان ذلك الثعبان مُختبئاً تحت تلك الحجرة الكبيرة التي حملها السائق بسرعة لكي يضرب بها رأس تلك السيدة وبذلك كان قد هاجمه وانقض عليه.
لاشكّ أن القارئ سوف يتساءل عما حدث بعد ذلك.
أما ما حدث فهو أنه قد تم على الفور إسعاف الاثنين معًا إلى أقرب مستشفى. وكان ذلك السائق الذي قد شعر باقتراب منيته قد اعترف بجريمته وأعلم جهات الأمن عن المكان الذي أخفى فيه حقيبة يدّ السيدة المصابة.
أما تلك الأم البائسة فكانت بعد أن تم إسعافها واستردت وعيها قد تمكنت من إعلام المحققين بما حدث وبالهدف النبيل الذي جعلها تسافر بمفردها برفقة ذلك السائق. ثم رجتهم رجاء حارًا أن يُسلموا المبلغ إلى جهات الأمن الجنائي لكي يتم الإفراج عن ولدها البريء الذي تخشى أن تُلصق به تهمة الاختلاس وأن تؤدي إلى تلوث سمعته.
وكانت عدالة الله أحكم الحاكمين وإنصافه المظلوم قد جعلت عناصر الشرطة تقبض أيضاً على الشخص الذي اختلس ذلك المبلغ قبل أن يتمكن من مغادرة البلاد، وبذلك تم على الفور إخلاء سبيل الابن البريء .كما تماثلت تلك الأم الطاهرة المُتفانية للشفاء ولكن بعد أن دامت معاناتها مدة طويلة لخطورة إصابتها. أما ذلك المجرم فقد حُكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات مع الأشغال الشاقة بتهمتي السرقة ومحاولة القتل. لكن لسعة تلك الأفعى كانت مع ذلك أشد إيلامًا بكثير من معاناة الاحتجاز.
لا عجب ! فهذه هي عدالة الله تعالى الذي يُظهر الحق ويُنصف المظلوم.
التدقيق اللغوي: لجين قطب