هرج ومرج في قاعة المحكمة... أصوات تعلو وتصخب... فوضى لم يسبق لها مثيل في أية قاعة من قاعات المحاكم. عَلَتِ الأصوات مطالبة بإعدام ذلك الرجل المحتجَز خلف القضبان... حشد كبير غصّت به قاعة المحكمة.
وفي الجانب الآخر يقبع رجل في متوسط العمر. رجل بوجه خالٍ من التعبير. رجل يبدو كأنه لا يعي شيئًا مما يحدث حوله. رجل توحي ملامحه بالكثير من المعاناة. كان ينظر إلى ذلك الحشد كأنه في غيبوبة غافلًا عن كل ما يدور حوله.


أما على منبر المحكمة فكان القضاة يتداولون ويتهامسون فيما بينهم كأنهم في حيرة من أمرهم. فما هو القرارالقانوني الذي عليهم اتخاذه؟ ذلك القرارالذي يتوقف عليه مصير الرجل القابع خلف القضبان؟
ضرب رئيس القضاة بمطرقته بشدة على المنبر  طالبًا من الحشد الثائر التزام الهدوء تحت طائلة إخلاء القاعة بالكامل.
وفي الطرف الخلفي من القاعة كانت مجموعة من الصحفيين ومن ممثلي وكالات الأنباء بانتظار ذلك القرارالحاسم؛ لكي تحقق به سبقًا صحفيًّا... فقد كانت تلك الجريمة جريمة العصر...
قال رئيس القضاة: "تتطلب القواعد القانونية والعدالة سماعنا دفاع المتهم عن نفسه مادام قد رفض توكيل أي من المحامين بالدفاع عنه." وصاح أحدهم:
"لكنه اعترف بجريمته الشنعاء."
توجه رئيس القضاة من جديد إلى الحشد الثائر، وقال:
"لابد أن نسمع دفاع هذا المتهم؛ لأن علينا أن ندوّن أقواله مع ثبوتيات القرارالقاضي بالتجريم  رجاءً! رجاءً! بعضَ الهدوء! لا داعيَ للإساءة لهيئة المحكمة فسوف نطبق القانون والعدالة.
ساد الصمت أخيرًا، وحبس الجميع أنفاسهم بانتظار سماع ما سيدلي به ذلك الطبيب الذي أقدم على قتل زوجته؛ ذلك الطبيب الذي لم يتوانَ عن ارتكاب جريمته النكراء، رغم أن زوجته كانت في مراحل المرض الأخيرة.
طلب رئيس المحكمة من المتهم الإدلاء بدفاعه ما دام لم يوكل أحد المحامين بالدفاع عنه وفق قانون أصول المحاكمات الجنائية.
نهض الرجل القابع خلف القضبان وهو يترنح ويكاد يقع على الأرض، وبدأ دفاعه بالقول:
"نعم، أنا الطبيب الذي قتل زوجته... أنا الذي أنهيت حياة زوجتي... زوجتي التي كانت توأم روحي... زوجتي التي ربطت بي بها خلال عشرين عامًا أنبل وأرق المشاعر... زوجتي التي كانت لي الزوجة والأم والصديقة والسند والأمان..."
علت الأصوات من جديد: "فإذن لِمَ قتلتَها إذن؟ أيها النذل؟"
طرق رئيس المحكمة من جديد بمطرقته على المنبر، وهدّد بإخلاء القاعة، والتزم الحشد بالصمت.  
تابع المتهم دفاعه بجمل متقطعة -وهو يلهث ويتلعثم - وقال:
"قتلتُ زوجتي إشفاقًا عليها... قتلتُها لشدة محبتي لها... قتلتُها لكي أريحها من معاناة دامت ستة أشهر... قتلتُها لأنني لم أعد أحتمل  رؤيتها تعاني... قتلتُها لأنها طلبت ذلك مني مرات ومرات. نعم... كانت تتوسّل إليّ أن أنهي معاناتها بعد أن تغلغل ذلك المرض اللعين (مرض السرطان) وانتشر في جميع أعضائها، وأنهك قواها بحيث لم تعُد هناك فائدة لا للأدوية المسكنة للآلام ولا للعقاقير المهدئة... نعم، أنا طبيب أقسمت قسم سقراط... لكنني قبل كل شيء إنسان! أنا من البشر الضعفاء؛ لذا كنتُ في لحظة ضعف قد أنهيتُ حياتها إشفاقًا عليها... لم يعُد بإمكاني احتمال معاناتها، وكنتُ في لحظة ضعف قد تخليتُ عن كل مبادئي، كنتُ قد غفلتُ عن كل شيء ما عدا أن عليّ أن أنهي تلك المعاناة  إشفاقًا على  تلك الزوجة الغالية بعد فشلي في علاجه، وبعد أن استخدمتُ كل ما في علوم الطب من إمكانيات. كان ذلك المرض بعد أن انتشر في جميع أعضائها قد وصل حتى إلى نظرها... أتعلمون؟ إنه سرطان في الرأس وأنا كطبيب خير من يعلم مقدارالآلام التي تنتج عنه... كانت قد أُصيبتْ في الفترة الأخيرة بالشلل، وكنتُ أنظر إلى ذلك الجسد النحيل الذي أنهكه المرض وأشعر بأن قلبي سوف يتوقف عن الخفقان...
كان كل جزء من أعضائها يموت يومًا بعد يوم، وكنتُ أشاهد كل ذلك بعيني الطبيب، ولكن أيضاً بقلب الزوج المُحب، إلى أن كانت معاناتها في تلك الليلة قد وصلت إلى حدّ كبير. كنتُ قد أعطيتها حقنة مورفين لكن تأثيرها لم يدم أكثر من نصف ساعة. كنتُ جالسًا إلى جانبها ممسكًا بيدها الصغيرة الرقيقة، وأنا أسمعها تصرخ من جديد من شدة الألم، وكانت قد نظرت إليّ بتضرع وقالت بتوسّل:
"أيمن! أرجوك... أستحلفك بالله... أن تنهي معاناتي إن كنتَ تحبني بالفعل... ساعدني أرجوك! ارحمني من هذا العذاب! أنا اعلم بأنني سوف أموت لكن موتي اليوم أو غداً لن يغيَّر شيئًا سوى أنه سوف يجعل معاناتي تستمر وتطول وتصبح أسوأ. لا أمل لديّ بعد الآن لا بالشفاء ولا بالحياة، ما أطلبه هو الراحة. أيمن! أرجوك خفف معاناتي بإنهاء حياتي..."
وهكذا... وأمام ذلك التضرع ممن كانت وسوف تبقى إلى الأبد أحب الناس إلى قلبي وأغلاهم  وأقربهم إليّ... كنتُ قد قمتُ مذهولًا غافلًا عن كل شيء... أشبه بمن أصيب بمس، أشبه بمن كان في حالة من التنويم المغناطيسي... كنتُ... كنتُ قد قمتُ وأنا أذرف الدموع بإعطائها تلك الحقنة المميتة التي تحتوي على كمية أكبر من المورفين...
ثم جلستُ إلى جانبها أنتحب!
كانت قد نظرت إليّ بامتنان، وشاهدتُها بعد ذلك تنام نومًا هادئًا كانت قد حُرِمتْ منه طوال الأشهر الأخيرة من حياتها. كنتُ أرقب الحياة تنسل منها رويدًا رويدًا بهدوء وسكينة، لكنني عندما شاهدتُ أنفاسها تتباطؤ شيئًا فشيئًا... نهضتُ كالمجنون وشعرتُ بأن عليّ أن أنقذها... بأن عليّ أن أعيدها إلى الحياة مهما كان ثمن معاناتها... بأن عليّ أن أسعفها... لكنني شعرت فجأة أيضًا بأن يدي أُصيبتْ بشبه الشلل وبذلك توقفتُ وبدأتُ أنتحب وأنتحب ثم... أعدِموني! أنا استحق عقوبة الإعدام... أعدِموني!"
وكان ذلك الزوج الطبيب قد سقط مغشيًّاعليه...
ساد صمت مُطبق في قاعة المحكمة، وكان الكثيرون قد أخرجوا مناديلهم لتجفيف الدموع التي سقطت من أعينهم، وكان القضاة قد أطرقوا رؤوسهم في حيرة، بينما حبس الجميع أنفاسهم بانتظار تلاوة القرارالذي سوف يقرر مصير ذلك الرجل ويحدد العقوبة القصوى بحقه...
ما الذي سيكون عليه الحكم؟
ما هي العقوبة التي يستحقها ذلك الزوج الطبيب الإنسان؟
هل يستحق الإنصاف أم أن على العدالة أن تأخذ مجراها؟
لكن الله تعالى قال في كتابه العزيز:
"لكل أجل كتاب"
"ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق"
وبعد فترة من المداولة والتردد كان القاضي الأول قد نطق بالحكم التالي معللًا بالحيثيات:
"يُحكم على أيمن بعقوبة الإعدام، ولكن نظرًا للظروف التي رافقت ارتكابه لجريمته تخفف العقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. لعل المجرم يكفر عن جريمته خلال سنوات السجن ويلجأ إلى الله - تعالى - ويطلب منه الغفران."
 
أرجو منك أيها القارئ الكريم أن تشارك بإبداء وجهة نظرك في قرار المحكمة. هل كان ذلك القرار عادلً أم منصفًا؟ أليس هذا ما بإمكاننا أن نطلق عليه تعبير رصاصة الرحمة؟
 
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية