كانت القنابل تُدّوي في جميع أرجاء تلك القرية الصغيرة، وكانت القذائف تتساقط في كل ركن فيها. جلست أم عماد في تلك الغرفة المُتداعية التي تخلو تقريباً من الأثاث، والتي تقع في ساحة غابة جرداء تكاد تخلو تماماً حتى من الأشجار ومن العشب. غابة أصبحت جرداء بعد أن أحرقت نيران القذائف كل ما كان فيها من أشجار ومن نباتات، وبعد أن قام سكان القرية بقطع ما تبقى منها كي يستخدموها في التدفئة لعلهم يحصلون على ما يُساعدهم على مواجهة العيش في العراء في ذلك الشتاء القارس البرودة.
كان أطفالها الثلاثة يُحيطون بها، ابنتاها إلى جانبها، أما ابنها عماد فكان رابضاً بالقرب من قدميها أشبه بكلب حراسة، وفي حجرها طفلها الصغير ذلك المولود الجديد الذي لم يتجاوز بعد الشهرين...
كان الطفل يبكي بكاءً مريراً، بكاء أشبه بالعويل يتردّد صداه مع تردّد صدى الصوت الصامّ الذي يلي سقوط كل قذيفة.
كان الجميع يرتعشون، أما أم عماد فكانت كلما سمعت دويّ سقوط إحدى القذائف تضمّ أولادها بأكثر من قوّة وهي تُردّد هذه العبارة التي هي أشبه بمن يُغني في الظلام طرداً للخوف: "لا بأس.. لا بأس... سوف يتوقف كل شيء بعد قليل!"
أما رجل البيت ودعامته فكان في ميدان القتال.
وكانت القذائف قد توقفت أخيراً. ساد الصمت والسكون لبعض الوقت، ولم يعد يشقّ ذلك السكون سوى صوت أنين خافت كان يصل بشكل مُتقطع من خارج الغرفة.
نهض عماد بسرعة وقال وهو يتوجه نحو الباب:
"أمي! هل تسمعين ما أسمعه؟ يبدو أن هناك جريحا في الخارج؟ سوف أخرج لاستطلاع الأمر".
وكان دون أن ينتظر إجابة والدته قد أسرع إلى الخارج.
أخذ عماد يركض وهو يتعثر بين ما خلّفته القذائف من دمار إلى أن لمح شكلاً بالقرب من مبنى مُتداعِ يقع بالقرب من تلك الساحة. اقترب من مصدر الأنين وإذا به يشاهد صديقه نهادا مُمدداً على الأرض تسيل الدماء من وجهه ومن ذراعه. كان يتأوه لكن تأوُّه نهاد الذي كان يتلوى من الألم لم يكن وحده ما جعل عمادا يشعر بالأسى وما جعله يبكي بنشيج مرتفع؛ بل لأن نهادا كان بين آهة وأخرى يبكي بحُرقة شديدة وهو يردّد عبارة:
"قتلوا جميعاً... قتلوا جميعاً... أمي وشقيقي وحتى شقيقتي الصغيرة هبة... سقطت القذيفة قرب المبنى بينما كنت أجلب بعض الماء من البئر التي تقع هناك..".
وكان عماد قد ساعد صديقه إلى أن وصلا إلى الغرفة التي يُقيم فيها حيث كانت والدته بانتظاره على المدخل وهي أكثر شحوباً من أي وقت مضى.
وكان نهاد قد انضم إلى أفراد تلك العائلة التي كانت تعيش تحت خط الفقر.
كان عماد قد ظلّ لبضعة أيام في حالة من الذهول الدائم، لكنه كان مع مرور الوقت قد أدرك أن عليه لو أراد الاستمرار في العيش في كنف تلك العائلة الفقيرة أن يتعاون مع عماد في أداء بعض الأعمال لتأمين القوت اليومي لتلك العائلة التي كان مُعيلها مُتغيباً.
عمل الصديقان في نقل المياه من الآبار وبيعها لبعض السكان الذين كانوا لا يزالون يعيشون تحت أسقف منازلهم نصف المُتداعية، كما كانت أم عماد تتدبر أمور تلك العائلة بذلك القدر القليل من المال الذي كانا يحصلان عليه.
لكن لا بدّ أن يكون للحروب الجائرة مآسيها ونكباتها! ومن بإمكانه أن يأمل في أن يُمهل صانعو الحروب من حُرموا لسنوات من الأمان حتى من فرصة العيش بسلام ولو لبضعة أسابيع؟
كان ما حدث بعد بضعة أيام أن احتدم القتال من جديد بين الفئات المُتحاربة، وبذلك عادت القذائف تتساقط من جميع الجهات، واستمر ذلك لثلاثة أيام بلياليها كانت أشبه بجحيم مستعر...
ولم يتمكن عماد ورفيقه من مغادرة المنزل لمُزاولة عملهما بنقل المياه وبيعها بغية تأمين ما يسدّ حاجة تلك العائلة البائسة، إلى أن سُمع في اليوم الثالث ما يُشير إلى سقوط إحدى تلك القذائف في مكان قريب من تلك الغرفة المُتداعية التي كانت الملجأ الوحيد لأم عماد وأولادها...
وكان عماد عندما ساد السكون من جديد قد قال لصديقه نهاد:
"يبدو أن القصف قد توقف أخيراً. لقد نفد كل ما كان لدينا من طعام ومن ماء، لذا لا بدّ أن نغامر بالخروج بحثاً عن القوت، وكذلك للبحث عن أقرب مكان قد يكون بإمكان والدتي وإخوتي اللجوء إليه قبل أن يتداعى هذا السقف فوق رؤوسنا... لا بدّ أن نتأكد من أنهم سيصبحون في أمان قبل أن يُستأنف القصف...".
وعندما استطاع الاثنان بصعوبة فتح باب تلك الغرفة المُتداعية الذي كان قد تراكم أمامها ركام كبير من الأتربة والأحجار؛ كان قد وصل إلى مسامع أم عماد صوت انفجار هزّ جدران تلك الغرفة ثم تلاه السكون، حينئذ صاحت أم عماد:
"عماد! ما الذي حدث؟ أين أنتما؟
لكن لم يجبها أحد... صاحت من جديد بصوت أبح أشبه بصوت حيوان جريح:
"عماد! نهاد! أين أنتما؟".
لكن لم يجبها أحد أيضاً.
ثم خطر ببالها أن تتمسك بآخر وميض من الأمل، أمل الغريق في النجاة، وهمهمت:
لابدّ أنهما قد أصبحا في مكان بعيد عن مكان سقوط القذيفة... أنا أعلم أن الله تعالى رحيم، لَعلّهما لم يصابا بسوء".
ثم ركضت إلى المدخل.
لكن قضاء الله تعالى كان قد حلّ.. ولا مردّ لقضاء الله!
كان الاثنان مُمددين دون حراك حولهما بركة من الدماء، بركة من تلك الدماء الزكية التي اختلطت بالأتربة وبالأحجار المُتناثرة هنا وهناك، والتي روتها لعلها تُطهّرها من ذلك الجور ومن المطامع التي أفسدت نفوس البشر..
كانا قد فارقا الحياة...
تساءلت أم عماد وهي تنشج نشيجاً يقطع نياط القلوب:
"ما قيمة النجاة؟ وما قيمة الحياة عندما يفقد المرء أغلى من يحبهم؟".
التدقيق اللغوي: حميد نجاحي