"لا أستطيعُ أن أستشعرَ ، غير شفرة الساطورِ العظيم . الفضيّة ، الحاسمة . المذْبح ، بكلِّ شياطينه ، شرّه وأخطائِه وأسَاطيره المَسائيّة ، المفزعه . دمُ الجرذانِ والكلاب الوحشيّة ، المتخثّر ، الأسودُ المعذّبْ ، المسفوكُ غدراً ونذالة . جثثٌ متمزقةٌ ، متفرقةٌ متحللّةٌ ، من دونِ أعضاء الكائن ، ولا كرامة . فقطْ ، أنْ يكونَ الشّحمُ المقرفُ ، المؤلمُ ، واللفافةُ المهترئةُ ، المُهانة . عيونٌ ، متنفّخةٌ ،متحدّقة، متشظّيةٌ و متناثرةٌ في الساحة . ترى القهرَ ، والحزنَ ، والخرافةَ المزعجة ، والجنازة . ظلمٌ مجرمٌ ، مستفشيٌ ، متبقّيٌ و مستحكم بإتقان حتى اللحظةَ ، في عروقي ، و يكبُر بسرعةِ الذّبابة . فقطْ ، أن أترقّب الفضيحةَ الكبيرة الأكيدةَ ، والفاحشةَ ، والشماتة . في الغرفةِ الزرقاءِ ، المستطيلة ، الوفيّة . ذات الشباك الوحيد ، الأعور ، العجوزْ . لايُمرّ منه الضوءَ ، ولا الماءَ ، ولا الهواءْ . فقطْ ، أن تكونَ الرائحة العاهرةُ ، هي السيادة .
السيطرةُ والاستعباد ، والسّكن . سخريةٌ كافرةٌ ، فاجرة . لا قانون في الإساسِ ، ولا عِقاب ، ولا طريق ، ولا أحكامْ . فقطْ ، أن يكون الخوفُ في جلدي ، ويؤذي النهاياتَ العصبية حتّّى النياحة . فقطْ ، أن يكونَ دائماً . وهكَذا . حاولتُ أن أجدَ السبب، أو البداية . بِلا تفسير ، ولا تحليل ، ولا حتّى هداية . وهكَذا . "ثمّ أبْكي ، فقطْ " .
أنْ أخافَ ، داخل صدري الضيّق ، المخلوق برقّة . وأنْ أهذي ، وأنْ أُفقدَ وأنا أبكي كثيراً ، في المَتاهة . مذلولٌ . مذلولٌ ، يا أنتَ الذليل ، حتّى بعد نهايةِ الذّلالة . أنْ أستشعرَ هذا الجحيم ، الكئيب ، وأنتشي . كلُّ يومٍ ، حتّى الآن أصبحت سبعة أشهرٍ ، وبضعة أيامٍ في حدادٍ ، و ساعة . وأنا ، أنظرُ كلَّ نهار ، الى عظمِ صدري المقوّسِ ، الحنونْ . أهمسُ اليه ، ثمّ أتحسّسه . أحاولُ ، أنْ أبقيه دافئاً ، يقظاً ، متصبّراً ، متفهّماً ، متأنقاً وصامتاً ، ولكنّني " ثم أبكي " . مابِك ، يا حبيبي ! يا أنا . يا كياني ، وأنتَ الأمانة . إصبرْ . إصبرْ . فستمرُّ الشرورُ ، مثلَ العادة . فهيَ دائماً تتحدّى ، حتّى وإنْ طالتْ . ولكنْ ، لا مَحالة .
فقطْ ، أنْ يبقى اللهيبُ ، وتتغلْغلُ القذارة و العبادة . أصبحتُ ، أبحثُ عن هذه الثعابين ، المنتفخةِ ، الطويلةِ ، المديدةِ ، بكل دقّةٍ ، وبكلِّ عناية . فلا أجدُ ، حتى أذيالَها . أريدُ ، أنْ أكونَ في المواجهةِ ، فقطْ ، ولتُكنْ الجنةُ أو الجناية . أحدُنا سيعصِرُ الآخرَ ، بالتأكيدْ ، ويمتصَّهُ حتّى الكِفاية . ولكنْ ، ولا حتّى بيضةً مكسورةً ، أو إشارة . فقطْ ، أنْ يدومَ الجنونُ الخليع ، والكابوسُ الأسود المستمرُ ، والخيانة . فقطْ ، أنْ يتشرّبَ ، بكلِّ بطءٍ ، في مساماتِ جسَدي النحيل . ويسمّمني ، حتّى أننّي أبكي ، وأنتفضُ ، وحيداً . كثيراً . فقطْ ، أنْ يكونَ ، منْ تحتِ الجلدِ .. كـآبة .
شيءٌ واحدٌ تعلّمته . ليسَ الصبر ، لا ! فإنّني أخافُ مِنه ، حدّ الرُّعب . لقد استسلمت . وسلمّت ولمْ أجدُ ، غيرَ أن أبكيْ ، وحيداً ، كثيرا ً ، في الغرفةِ الزرقاءِ المستطيلة . أصبحتُ أشربُ حبوبَ الشجاعةِ والتمرد ، لأستمرّ وأبقىْ بينهم . و شكيتُ واشتكيت ، تشبّثتُ بِهم كلّهم ، حتّى أشرارهم ، تمسّحتُ بثيابهم ، ثمّ ، ردّدت تعاويذَهم . تعلّمت إذاً . أنّ هذا الشيءُ الجديدُ الغريب ، الذي في الداخلِ ينتشر . أنّه مؤلمٌ جداً ، وشرّيرٌ جدأً ، وقويٌ وعظيم ، ولا غالب له . مخيفٌ جداً وبديعٌ حتّى الدهشة . سبحانكَ ياخالقي . ما أبدعَ هذه الأشياء التي من الداخل ! ما أبدعَها ، كيف أنّها جعلتني أتلّوى ، وأتعجّب منها حتى تمزّقت ملامحي ، وسقطت جُفوني ، وحتى أصبحَ قلبي عصفور صغير مسكين ، مكسّر ، ومرتجف . رغم كلّ ثوابتي ، وأشيائي التي كنتُ أظنُّ يوماً ، أنّها راسخةٌ جدا ً ، و باقية جداًّ . فقطْ ، أن أرفعَ راحتيّ ، وأشهدَ الجحيم في أحشائيْ ، وأ ُدهش حدّ الإغماء . كيفَ أنّها جعلتني أبكيْ ، بنشوةٍ فريدة . وأرتعشُ برقّة ، وأنا أغنّي مع أبونورة " أجيْ ملهوف .. ملهوفْ عطش .. تحت المطرْ .. ملهوف .. وقتي يطوف .. لوني ضايع ومخطوف " فيْ ضبابِ أبها العارية . وكأنّني أمارسُ احتضار الكائنات كلّها ، وإلى الأبدْ . تعلّمت إذاً . كيف أنّ هذه الأشياء محكمة ، وعبقرية ، وبالغة التعقّد والتعقيد . وأنّ محاولةَ حلّ شفرتها مضيعة للوقتِ ، وللبَشر . فهي منَ الخالقِ الواجد ، فقط . فقط . إنّها أشياء تهبطُ من الفراغ ، أفهمها قدرِ ، أو تهبطُ من الليلِ المتلثّم ، لتُمتْ شرّ ميتةٍ . هذا اعتراف عنْ قناعةٍ حقيقية ، قوية وعمياء . أريدُ به أنْ أُعلن فشل المنافسةِ وانصر بهِ العدمْ . تعلمّتُ كيف أنّني لم أفهم ممّا يحصلُ ، غيرَ أنّ ثمةَ أشياءٌ متلخبطة ومتشابكة ، تصبُّ بغزارة ، كالتيار الجلف الغبي ، و تُوجعني بكلِّ نجاح ، وبكلّ شدّة . ما أبدعَ انسجامها ، ووصولها لِحزني العميق ، هناكَ في أقصايَ البعيد . ما أذكاها وأشرسها ! كيفَ أنّها مقدمةٌ بكلِّ تلهّفٍ وشهية ، وشراهة . فهمتُ جيّداً ، أنْ في النفس تكونُ الغرائب ، وتلتئم . وأنّ الحياة كلَّها ، تتدفقُ متخفّية بانسياب ، وببطءٍ ، من هذا ، فأحسُّ بالنبضِ ، بالحرارة ، وبالحزن .
الآن ، أنا متورّطٌ في جثّتي الثقيلة ، المُشحمة . التي لا ذنبَ ليْ فيها ، غيرَ أنّني أردتُ ، أن أصلّي ثمّ أحبَّ أنثى ، ولو لساعة . ثمَّ انتحر . متورّطٌ بهذا الشيء العجيب . الذي قد يكونُ إثمٌ قديم " أستغفركَ يا عظيم " . ليسَ لدي غير أنْ أستمرّ ، لأنّني في الأصل أتنفّس ، وموجود وباق . ليسَ لدي غير أنْ أتعامل مع هذا بكلِّ احترام ، وبكلِّ انفتاح و سخرية الأسى ، وخوف وبكاء ، وبكلّ ترقّب . وأنْ أبقى مذلولٌ و معتوه منه ، وللأبد . سأستمرُّ ، ولا أظنُّ أن هناكَ نهاية . لا أظنّ أنّه سيكونُ العادة . بلْ ثورة غريبة ، لا قانون لها ، ولا غاية . فقطْ ، أنْ أبكي وأصبح نشارة . "
الغرفةُ الزرقاءُ المستطيلة
أنا معَ هذا الذي منَ الداخل
الخميسْ 23/11/2002 - 21/11/1423
الساعةُ الحاديةُ و العشرون وأربعة عشرة دقيقة