تطلعت إلي وجه الشيخ الجالس أسفل شجرة ضخمة .. كان ينظر للصحراء أمامه وكأنه يقرأ سطوراً كتبت علي الرمال أو تشكلت في أفق السماء .. لقد قطعت مئات الأميال لأصل لهذا الرجل، لعله يرشدني عن استفهامات طالما أقلقتني ولم أجد لها الإجابات الشافية .. كان صيته يسبقه في كل مكان، وتأججت شهرته من كونه يجيب علي أي سؤال يطرح عليه بكل بساطة .. أي سؤال .. بل ويلقي بالإقناع في قلب سائله دون مشقة ..
تقدمت إليه في رهبة بعد أن علمت من خادمه أن وقتي معه فقط خمس دقائق .. بعـدها يجـب أن أتركه ليأتي غيري .. جلست أمامه وأنا ألقي السلام، فنظر لي بوجه مشرق باسم وهـو يرده وبأحـسـن منه .. ثم ابتسم في رقة معـلناً انتظار سؤالي .
بلعـت ريقي وبدأت في السؤال من فوري بصوت خفيض :
- سأبدأ بحياتنا .. ما هو جوهـر الحياة يا شيخنا ؟
زادت ابتسامة الشيخ وشعرت بأن سؤالي هذا قد القي عليه ألف مرة قبل ذلك، ثم قال لي بصوت هادئ محبب للنفس بعـد أن تعـلق نظره مرة اخري بأفق الصحراء :
- الحياة الدنيا كالغـابة .. فكن صياداً متأهباً .. لا فريسة .
نظرت له مبهوتاً بعد أن توقـفـَت إجابته للحظات ثم أكمل بهدوء :
- وهي حقيقة ليست وحشية كما تـُـفهم عادة .. فالمؤمن مثلاً صائد للحسنات في ميزانه.. متأهب لوساوس قرينه وشيطانه، سواء أكان من إنسه أو جانه، مدركاً لبحـوره وشطآنه، حتي لا يقع فريسة لسوء حـسـبانه .
سكـَتَ للحظات ثم أردف باهتمام :
- وحذار من أن تكون فريسة وتتوهم أنك صـائـد .. فهذه من كبري المكائد .
قلت له باسماً :
- أري يا شيخنا أنك أعطيتني مفهوما مبسطا للحياة !
تنهد في عمق وقال :
- عندما تكتشف خطأك فيما بعد .. بسبب خبرتك القليلة، ونظرك المحدود، وعـقــلـك المحبوس، أن عـمق ماء الحقيقة في بئر الحياة قليل .. ولكن ما هو بقـليل .. بل عـميق .. عميق .. أعمق مما كنت تعتقد .. أعمق لدرجة أن البرهان الوحيد علي وصولك لحقيقة عمقه هو إشتعال رأسك شيبا، أو جنونك، أو موتك .. وفي الحالة الأخيرة ستري أن عمق الماء في ذلك البئر لا يقارن بعمق محيط ما بعـد الحياة .. عـمق المحيط الأبدي .. فأي بساطة تجدها هنا يا ولدي ؟!!
اعتدلت في جلستي بعد أن شعرت بسخونة في رأسي، فأردت أن أهديء من روعي مؤقتاً فسألته باسماً :
- ما العلاقة بين الماضي والحاضـر والمسـتقبل ؟
- إننا ننظر إلي الماضي .. ونتطلع للمستقبل .. فنصنع حاضراً قوياً .
اعتدلت في مجلسي أكثر وسألته مجدداً :
- ما هو الأفضل .. أمس أم اليوم .. أم غـدا ؟
- الأحباب يتفرقون .. والأعداء يتكاثرون .. والأحوال في جنون .. واللحظات تساوت بالسنون .. المشاكل تتعـقـد .. والآلام تتجـدد .. والحروب تتمـدد .. ولأن الموت زائـر غـدك القريب أو البعيد .. فاليوم حتماً أفضل من الغـد .
- أري أنك تناسيت الأمس ؟!
- الأمس لا تملكه .. أنت تملك يومـك، وتحـدد غـدك .
- الأمس هـو الذكريات .. الأمس عـالـق في الذاكـرة .
- الذكريات كالمحلول القابل للترسيب، يحتاج الي تقليب للمحافظة عليه .. والذاكـرة إناء الذكريات المثقوب، يجب ملؤه من آن لآخر حتي لا نفقد ما فيه .. والأمس العالق قـد ينفـذ من ثـقـب الذاكرة ولا يعـود .. فلا تفكر في شيء كـتب في صحـيفتك وجـف حبـره .. فكر فيما سيكتب في صفحاتك البيضاء المتبقية .
زادت سخونة رأسي وأنا أكمل استفهاماتي قائلاً :
- هل الخير في عصرنا هذا أكثر أم الشر ؟
- أن تجد اناساً لعمل أشر الأفعال .. وبدقة .. أمر سهل .. أن تجد اناساً لعمل الأفعال الخيرة .. وبصدق .. أمر صعب .
- ترجيحـك لسطوة الشر عجيب !!
- هو كـثرة .. لا سـطوة .
- إذن لن يعـم السلام بين البشر في الوقت الحاضر ؟!!
- لا وجود للسلام حاليا علي سطح تلك الأرض .. إن هذا السطح أكثر اشتعالا وسخونة من قلب الأرض المنصهر .
- هل هو صراع بين الخير والشر ؟
- خليط بين صراع الخير والشر، وصراع الشر والشر .
- وكيف نفرق بينهما ؟
- صراع الخير والشر عنيف ولا يستمر طويلاً .. أما صراع الشرور فهو الذي يطول .
- أري أنك متشائم يا شيخنا في أكثرية الشر !
- تشاؤمي واقـعي .. لا مبالغة فيه .. كـتشاؤم شخص يقـطـن بيتا آيـل للسـقـوط ، ويخـاف الموت تحت أنقاضه .
- وما هو الحل إذن حتي يعـود السلام ؟
- الحل هـو أن نتحد ونعـود إلي منهجنا السليم، وفطرتنا الطاهرة .
صمَـتَ للحظات وأكمل بكلمات بطيئة واضحة :
- وأن نعرف كـينونة الحياة التي نحن فيها وغـرضها .. وأنها أولا وأخيراً وسـيلة وليست غـاية .. كالقـلم الذي معـك .. فقد تكتب به آيات قرآنية تنال بها حـفـظاً وبـركـة، وقد تفقأ به عـينيـك فتنال الأذى والألم .
تعلقت عيناي بالصحراء للحظات قبل أن ألتفت له مجددا وأسأله :
- أحيانا أتردد بين قرار قـلبي وقرار عـقلي إذا اختلفا وتنافـرا .. فماذا أفـعـل ؟
- التردد بين العقل والقلب يجعلك تضع حدا .. التردد بين العـقل والعـقل يجعـلك مخـتل جدا .. أما التردد بين القلب والقلب يجعلك لا تثق به أبدا .
- آه ، فهمت ..
عدلت من وضعية جلوسي وأنا أسأله :
- إذا طلبت منك يا شيخنا أن تنصح بني الإنسان في بضع كلمات .. فماذا تقول حتي ينصلح الحال ويصبح الخير أغـلبية ؟
أغمض عـينيه وقال :
- أيها الإنسان .. أنت أسمي من العالم المادي الذي تسجن نفسك فيه .
أيها الإنسان .. حافظ علي نفسك .. من نفسك .
أيها الإنسان .. لا تتخطي حدودا رسمت لصالحك .
أيها الإنسان .. لا تخف من الموت .. بل تأمله .
أيها الإنسان .. كما يفخر الأسد بلبدته ومخلبه .. وكما يفخر الطاووس بذيله وجماله .. إفخر بعقلك .. وإستخدمه .
أيها الإنسان .. فكر .. تعرف طريق نجاتك .. فقط فكر .
أيها الإنسان .. إتحد مع أخيك الإنسان .. بلا أضغان .. ليعود السلام .. كما كان .. قبل وجود الإنسان .
سكت الشيخ ليأخذ أنفاسه فتطلعت لوجهه مبهورا وأكملت استفهاماتي قائلا :
- هل واقعنا العربي الحالي به أي أمل للتحسن ؟
بدت نبرة حزن واضحة في صوته وهو يجيب :
- لا أفخر الآن لكوني عـربياً .. ولكني أفخـر الآن وأبداً لكوني مسـلماً .
- لقد تخلفنا يا شيخنا عن ركب الحضارة .. وبتنا نحسد سكان الغرب علي تقدمهم .
ابتسم الشيخ وقال متهكماً :
- نحسد الأوروبيين علي بياض بشرتهم .. ونحقد علي الزنوج لبياض أسنانهم .. بينما يتعجب الكل من بياض عقولنا .
ضحكت علي الرغم من قسوة ما أسمعه، وأكملت كاشفاً عن يأسي صراحة :
- أصبحت عاجزا عن فعل أي شيء في حياتي ..
أطبقت فمي المرتعش للحظات ثم قلت :
- جعلني اليأس عاطلا .
نظر لي الشيخ مباشرة لأول مرة منذ بداية الحوار وقال بعيون غاضبة :
- عندما صَـمَتَ لـسانه .. وسكَـنـَتْ ريشته .. وجـف قـلمـه .. وتحـجـر ساعــده .. وتـبخـر أمــلـه .. عندها .. توقف قلبه .
لم أنبس ببنت شفه، وسألني الشيخ لأول مرة :
- ما عملك ؟
انعقد لساني وأنا أنظر اليه قبل أن أجيب :
- كاتب قصص .
تمعن النظر لي بقوة ولاحظ همي بادياً فسألني بنبرة لطيفة :
- من أصحاب القلم أنت ؟
- كنت .
- إن قلبك مازال ينبض .
- لا أجد الحافز الجيد الذي يجعلني أكتب .. ولمن أكتب ؟! .. ولماذا ؟!
- غالبا ما يكون الحافز الذي يحرك خيال الأديب وقلمه من نتاج مشاعـر سلبية تدهـمه .. تحفزه .. ترغـمه علي ترك حياته وحياة البشر العادية، والانحراف خارجـها، ليبـدع أفـكاراً وروائـع قد تدهـشه قبل أي شخص .. لذا فهي من العـوارض التي توضع جـنباً لجنب مع حوافز الحاجة والإحباط والكذب والسرقة، وحتي القتل .
اتسعت عيناي تعجباً، وقلت لا شعـوريا :
- يا إلهي !
سمعـت نحنحة خفيفة تأتي من خلفي، فالتفت سريعا لأجد الخادم ينظر لي نظـرة تعـني أن وقتي قد انتهي، فـنظرت للشيخ الذي عاد بنظره إلي افق البيداء وقال لي :
- تذكـر .. أنه يمكنك الوصول .. فهذا احتمال .. ولكن لا بد من الرحيل .. فهذا أكيد .
نظرت له متعجباً وفي رأسي مئات الأسئلة التي تفجرت وكنت أتمني أن القيها عليه، ولكني نهضت وشكرته وهممت بالانصراف عندما استوقفني الشيخ قائلا :
- يا بني .
تسمرت في مكاني وأنا ألتفت اليه فوجدته ينظر لي بوجهه الباسـم الذي رأيته في بـداية الجـلسة وقال لي :
- لقد أحسَـنت السؤال كشخصٍ كـسـير .. ولكن .. هـل أدركت الجواب كإنسانٍ بصـير ؟
ابتسمت له من فوري ابتسامة ذات معـني جـليّ، وتركت مجلسه، وقبل أن أنصرف لمحت شخـصاً بعـيون حـزينة يتجه للشـيخ ويلقي عـليه السـلام، فـنظـر له الأخـير بهـدوء وهـو يـرده وبأحسـن منه .
انتهت الجلسة.