فور علمي بطلب المسؤول الكبير بالشركة التي أعمل بها دخَـلـتُ غرفته شبه مهرول، وسمح لي السكرتير بمقابلته على الفور بإشارة من يده دون كلمة، فشعرت بأن مصيبة ما تنتظرني بعد ثوان.. وبعـد أن قرعت عليه باب مكتبه ودلفت توقفت بغـتة، حيث أشار المسؤول بيده لي بالثبات.. كان يجلس متأنقا مهيبا على مقعـد وثير يكاد يحـيطه من كل الجـوانب، ويقبع أمامه مكتب فخم ضخم يعزله ويفصله عن أي فرد يمكن أن يوجد بالغرفة الفسيحة.. لم يكن هناك غيري بالغرفة مما زاد من توتري لخصوصية هذه المواجهة.. دعاني في صمت للجلوس بإشارة من يده تجاه كرسي صغير موضوع بجانبي.. تسمّــرت للحظات متعجبا وأنا أرقب وأتفحص هذا الكرسي.. فهو يبدو قديما.. مكسوا بالجلد الرقيق دون أي حــشـو أو بطانة بداخله.. ويبرز شكل خـشبه بوضوح من خلال هذه الكسوة، كعـظام شـخص نحـيف مريض انكشـفت عظامه من وسط لحمه الذائب.. لاحظت أيضا أن كل المقاعـد الخاوية بتلك الغـرفة ضخمة وشـديدة الفخامة عدا هذا الكرسي الحقير الذي سأجلس عليه.. فأحسست بإهانة متعمدة من هذا الرجل.. ولإنهاء المقابلة سريعا دون خسائر جلست عليه ثم نظرت له مباشـرة.. كان يتابعـني بعـيني صقـر منذ لحظة دخولي وحتى لحظة مجـلسي، فشعـرت بأنه أدرك كـل ما يجول بخـاطـري لحظتها.. رحّب بي قائلا بصـوت رخـيم واثـق:

- أهلا ومرحبا بك.. يشرفنا قدومك فور طلبنا لك.

اعتدلت في جلستي زيادة في الاحترام رغم ارتباكي بطريقة حديثه التي لم أدرك لحظتها أهي مدح حقيقي أم تهكم ساخر.. ابتسمت له مرغما وقلت بصوت خفيض:

- الشرف لنا يا سيدي.. وأنا تحت أمركم في أي وقت.

تراجع الرجل بظهره للوراء، وغطس في مقعده أكثر وأكثر، ثم سحَـب نفسا عميقا من سيجار فاخر بيده، لم ألحظه منذ البداية، وقال لي وهو يخرج من فمه دخانا كثيفا:

- أعلم حسن صيتك واحترامك للوقت.

- حسن صيتي شهادة لي منكم، واحترامي لوقتي هو احترام لنفسي يا سيدي.

- وهذا هو ما دعاني لأن أطلبك بشدة.

- عفوا سيدي!.. لا أفهم مقصدكم!

- إنك ذكي.

- رهبة الموقف، وقلة معلوماتي تجعلني عاجزا عن الفهم.

- أنت تعلم مقصدي من دون شك.

- لو كنت أعلمه ما كنت أجهدت سعادتكم في هذا النقاش.

- نريدك معنا.

- عفوا سيدي!.. من أنتم؟!

- ألم أقل لك إنك ذكي.

- لماذا سيدي؟

- لأنك استفهمت عنا ولم تستفهم عما نريده منك.. إذن أنت تعلم وتريدني أن أعلم.

- ما زلت عاجزا عن الفهم.

- قلت لك إنك ذكي.. فلا تبخس قدراتك.. أو تقلل من شأني.

- لا أقصد هذا.. أقسم لك معاليك.

- أنت خبير بكل شيء.. ولكنك تراه بعين المراقب.. فادخل في قلب اللعبة، وخذ ثمن خبرتك.

- أخاف على نفسي وعلى أسرتي.

- كلنا هذا الرجل.

- ولكن هل يا سيدي من ليس مـعَـكم تعتبرونه ضدكم؟

- بالتأكيد.. ولكن لا تعـتبر هذا أبدا تهديدا.

- لم أفكر لحظة أني سوف أواجه هذا الموقف.

- لو كان هذا صحيحا لما كنت قد طلبت مقابلتك.

- لا أعلم ماذا أفعل.

- استعد لاستخدام ذكائك الأكيد وخبراتك المتراكمة بأقصى درجة.

- العواقب وخيمة.

- العواقب وخيمة في كل الأحوال.

تأملته بعين خَلَـت من الرهبة والخوف، ثم سألته بصوت قوي لم يدهشه على الإطلاق:

- وما الثمن إذا وافقت؟

تراجع الرجل فجأة إلي الوراء بمقعده، ثم سكن وهو يرقبني معلقا نظراته في عيني مباشرة.. سحــَب نفسا عميقا من سيجاره ثم ضغط بيده الأخرى على زر صغير مثبت بالحائط خلفه، فوجدت جلد الكرسي الذي أجلس عليه ينتفخ ويتضخم بسرعة كبيرة وهو يرتفع بي ويحيطني في نعومة لم أتوقعها.. وخـيـّـل لي بعد أن سكنت حركته من حولي أنه يماثل تماما المقاعد الفاخرة القابعة أمام المسؤول.. وفي قمة ذهولي ومع محاولة إدراكي للموقف سمعته يصيح بي:

- الــتــقــط.

ورأيته يقذف لي بسيجار فاخر متجها نحو رأسي مباشرة، فمددت يدي لألتقطه.

 

( تمت )

 

التدقيق اللغوي: أبو هاشم حميد نجاحي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية