قصة ثلوج كيليمانجارو للكاتب إرنست هيمنغوي، ترجمة أمل الرفاعي.

أعزائي القرّاء
تُعبّر هذه القصة عن حالة من الهذيان لكاتب مصاب بالغانغارينا وهو مُشارف على الموت؛ لذا فهي تحتوي على بعض الفقرات غير المترابطة التي صوّر فيها الخيال الأدبي للكاتب ما قد يجول في ذهن المريض المصاب بالحمى في لحظاته الأخيرة.

ثلوج كليمانجارو

تعتبر منطقة كيليمانجارو من أكثر مناطق جبال القارة الإفريقية المُغطاة بالثلوج ارتفاعاً حيث يبلغ ارتفاعها 19,710 قدما، والتي تُدعى قمتها الغربية (الماساي نغاجي ناغي)، أي: بيت الله، وهي تقع بالقرب منها منطقة جافة متجمدة تعيش فيها النمور، ولم يتمكن أحد حتى الآن أن يجد التفسير لما قد تبحث عنه النمور في مثل ذلك الارتفاع الشاهق البارد.


قال الرجل المريض: "الأمر الغريب في هذا المرض أنه غير مؤلم، لذا ليس بإمكان المرء أن يعرف متى تبدأ إصابته به "
سألت زوجته: "أهو بالفعل كذلك؟"
"تماما. وأنا آسف جداً لهذه الرائحة التي تنبعث من ساقي، لابد أن الرائحة تُضايقك."

أجابت: "لا تقل هذا أرجوك!"
ثم قال: "انظري إليهم، ترى أهو المظهر أم الرائحة ما يأتي بهم الآن إلى هنا بهذا الشكل؟"
كان الرجل المضجع على سرير من الحبال تحت شجرة ميموزا كبيرة قد شاهد، وهو يُحدق في السهل المتوهج، من خلال الظلال، ثلاثة من الطيور الكاسرة الكبيرة تجثم هناك بكل قبح، بينما كان حوالي اثني عشر من الطيور الأخرى يُحلّق في السماء، ويلقي بظلال سريعة التحرك على المكان .
قال: "كانت هذه الطيور هنا منذ اليوم الذي تعطلت فيه الشاحنة، لكنه اليوم الأول الذي يحطّ فيه أحدها على الأرض. كنت في السابق أرقب تُحلّيقها بكل اهتمام لعلي أستفيد من مشاهدة طريقة طيرانها بوصف ما أورده في إحدى رواياتي. هذا طريف الآن!."
قالت: "أتمنى لو أنك لم تفعل ذلك."
قال: "ما أقوله الآن لمجرد التحدّث إليك، لم أكن أرغب بمضايقتك لكن الأمور تُصبح بالفعل أسهل بكثير عندما أتحدث معك."
قالت: "أنت تعلم بأن هذا لا يُضايقني، لكن الأمر أنني أصبحت مؤخرا متوترة جدا؛ لأنني أجد نفسي عاجزة عن القيام بأي شيء لمساعدتك لذا أعتقد بأن علينا أن نُحاول تسهيل الأمور قدر الإمكان إلى أن تأتي الطائرة."
" أو إلى ألّا تأتي الطائرة."
"هاري أرجوك أعلمني بما بإمكاني القيام به لأجلك. لابد أن هناك ما بإمكاني القيام به "
"بإمكانك نزع ساقي لعل الألم يتوقف، على الرغم من أنني أشك في جدوى ذلك... أو قد يكون بإمكانك أن تُطلقي عليّ النار. ألم أكن قد علمتكِ إطلاق النار جيدا"
"هاري توقف أرجوك، أرجوك لا تتكلم بهذه الطريقة. هل تودّ أن أقرأ لك؟"
"ماذا الذي سوف تقرئينه؟"
" أي شيء مما في الكتب التي لدينا هنا."
"ليس بإمكاني الإصغاء، الكلام أكثر سهولة بالنسبة إلي، ماذا لو تشاجرنا ففي هذا ما سوف يجعل الوقت يمرّ."
"لن أتشاجر معك... أنت تعلم بأنني لم أرغب يوما في الشجار... دعنا نتوقف عن الشجار... لا أهمية لما سنكون عليه من توتر... قد يأتون إلينا اليوم بشاحنة أخرى أو قد تصل الطائرة."
قال الرجل المريض: "لم أعد أرغب في الانتقال من هنا، لا معنى لانتقالي الآن سوى أن في هذا ما من شأنه أن يُسهّل الأمور عليكِ."
"هذا جُبن منك."
"أليس بإمكانكِ أن تَدعي الرجل يموت بأكثر ما يمكن من راحة، دون أن تُطلقي عليه هذه الصفات، ما الفائدة من تحدثك معي بمثل هذه اللغة السوقية؟"
"لن تموت"
"لا تكوني ساذجة، أنا حاليا أموت. اسألي هؤلاء السّفَلَة"، ثم نظر إلى الأعلى، كانت تلك الطيور الضخمة الكاسرة تُحلق برؤوسها العارية المُنغمسة في رياشها بينما حطّ طائر رابع وبدأ يعدو بسرعة بأرجله إلى أن تهادى ببطء وتوجّه نحو الآخرين.
"لكنك لم تكن قد لاحظت ذلك سابقا؟... لن تموت... لن تموت... لن تموت ما لم تستسلم أنت للموت."
"أين قرأت هذا؟ أنت بالفعل مخبولة تماما "
"ربما كان عليك أن تُفكر بشيء آخر."
"بحق الله! أنت تعلمين بأن تلك كانت مهنتي."
وكان الرجل المريض قد استلقى وهدأ لبعض الوقت وأخذ ينظر من خلال وميض حرارة السهل إلى طرف الدغل. كان بإمكانه أن يشاهد فيه عن بُعد بعض الفتيان من مواطني المنطقة، كما شاهد على مسافة أبعد قطيع من الحمير الوحشية، التي تبدو بيضاء اللون بانعكاس خضرة الدغل عليها.
كان ذلك المخيم مخيّما جميلا تحت ظلال الأشجار الكبيرة إلى جانب هضبة تتوفر فيها ينابيع المياه، كما كان إلى جانبها نبع نضبت مياهه تقريبا، تُحلق فوقه كل صباح طيور الطبهوج .
جلست زوجته إلى جانب سريره وسألته :
"ألن ترغب بأن أقرأ لك الآن ؟ يبدو كأن بعض النسمات العليلة قد بدأت تهب."
"لا، شكرا"
"قد تصل الشاحنة الآن."
"لم أعد أهتم بذلك على الإطلاق."
"لكنني أهتم بذلك"
"أنت تهتمين بالكثير من الأمور التي لا أهتم بها."
"ليس الكثير جدا، هاري."
"ماذا عن تناول بعض الشراب؟"
"المفروض أنه يضرّك؟ يقول كتاب (بلاك) الطبي بأن عليك أن تتجنب المشروبات الكحولية؛ لذا لا يجوز لك أن تشرب."
نادى: "مولو!..."
"نعم بوانا، (أي: سيدي)...
"اجلب لي بعض الصودا."
"نعم بوانا (سيدي)"
قالت زوجته: "لا يجوز لك أن تفعل ذلك... ما أقصده أنه ينبغي عليك ألا تستلم بهذه الطريقة.. المشروبات ضارة بصحتك."
قال "لا، بل هو جيّد بالنسبة إلي."
ثم بدأ يُفكّر:
"ها قد انتهى كل شيء!... لن تكون لديه أبدا إمكانية إنهائها (القصة التي كان يكتبها). ها هي الطريقة التي سوف ينتهي بها الأمر., فهو منذ أصيب بالغانغارينا في ساقه اليمنى لم يعد يشعر بالألم، كما أن خوفه من الموت قد اختفى أيضاً مع تزايد الألم...
كل ما يشعر به في الوقت الحاضر هو التعب الشديد والحنق من أن تكون تلك هي نهايته. أما بالنسبة لما سيحدث بعد ذلك، فلم يعد لديه الكثير من الفضول لمعرفته. كانت رغبته في الكتابة قد تملكته لسنوات عديدة، لكنها لم تعد تعني له شيئا الآن... من المستغرب أن تكون مثل تلك الرغبة قد انتهت بهذه السهولة عندما وصل إلى هذا القدر من التعب.
حدّث نفسه من جديد:
"حسنا لن يكون بإمكانك بعد الآن أن تكتب عن كل ذلك.. نعم! لن تكتب بعد الآن عن أي شيء... لن تكتب حتى عن الأمور التي كنت قد احتفظت بها في ذاكرتك لكي يكون بإمكانك أن تكتب عنها بشكل أفضل عندما ستتوفر لديك المعلومات الكافية عنها ...
حسنا، لا بأس فربما كنت على كافة الأحوال ستُخفق في محاولة الكتابة عنها... أو ربما لم يكن بإمكانك الكتابة عنها وهذا ما جعلك تؤجّل البدء بالكتابة عنها ولن يكون بإمكانك بعد الآن حتى أن تعرف الحقيقة ...
نظرت إليه زوجته، كان مُمسكاً بالكأس بين يديه وهو يعضّ على شفتيه لشدة الألم وقالت:
"أتمنى لو أننا لم نكن قد جئنا إلى هنا على الإطلاق. لو كنا الآن في باريس لما كنت ستصاب بالغانغارينا. كنت تقول لي دوما بأنك تحب باريس. كان بإمكاننا أن نبقى في باريس أو أن نذهب إلى أي مكان آخر. كنت على استعداد لأن أذهب معك إلى أي مكان في العالم. ألم أكن قد أعلمتك بأنني على استعداد لأن أرافقك إلى مكان تريده إن كنت ترغب بالصيد. كان بإمكاننا أن نذهب للصيد في هنغاريا وكنا سنكون هناك بوضع أفضل."
"وهذا بالطبع بما لديك من أموال ."
قالت: " هاري! هذا ليس عدلا منك، كانت أموالي دوما أموالك. لقد تخلّيت عن كل شيء لأجلك... كنت أرافقك إلى أي مكان كنت تذهب إليه... كنت أقوم بكل ما أردتني القيام به ومع ذلك، فأنا أتمنى الآن لو أننا لم نكن قد جئنا إلى هنا أبداً."
"لكنك قلت لي في السابق بأنك تحبين هذا المكان."
"كنت أرغب بذلك عندما كنت أنت بخير، لكنني أصبحت الآن أكره هذا المكان.. لست أدري لماذا حدث هذا لساقك. ما الذي فعلناه لكي يحدث لنا كل هذا!.."
"أعتقد بأن ما حدث كان لأنني نسيت أن أضع عليها صبغة اليود عندما خُدشت للمرة الأولى كما أنني لم أكن قد أحسنت العناية بها بعد ذلك، فلم يُسبق أن أصبت بالالتهاب.. وبالإضافة إلى ذلك فإن ما جعل الوضع يزداد سوءًا هو استخدامي لمحلول الكاربوليك فقط، وهذا بالطبع لأن كل ما كان لدينا من مُطهّرات أخرى كان قد نفذ، وهو ما أدى إلى أن تُصاب أوردة الدم الصغيرة بالشلل وبذلك بدأت الغنغارينا تنتشر ."
ثم نظر إليها وقال: "وماذا أيضا؟"
"لا شيء ... ما كنت أقصده هو لو أننا كنا قد استخدمنا ميكانيكياً آخر بدلاً من ذلك السائق نصف المؤهّل كيكويو ... ولو كان ذلك السائق قد تأكّد من توفر ما يكفي من زيت في الشاحنة لما كانت حمولة الشاحنة قد احترقت بكاملها."
قال: "ولو لم تكوني كذلك قد تركت كل من تعرفينهم في ويستبوري وبالم بيتش لكي تأخذيني أنا على عيوبي وعِلاتي ..."
"لِمَ تقول هذا، هذا ليس عدلا، أنت تعلم بأنني تزوجتك لأنني أحببتك، وأنا أحبك وسوف أحبك دوما. ألست تحبني أنت أيضا أعلمني ألست تحبني؟"
قال الرجل المريض بعناد :
"كلا، لست أعتقد ذلك، فأنا لم أحبك يوما"
"هاري! ما الذي تقوله هل فقدت عقلك؟"
"كلا، ليس لدي عقل لكي أفقده."
ثم قالت "لا تشرب هذه الصودا، حبيبي، أرجوك ألا تشربها. يجب أن نبذل كل ما بوسعنا لكي تشفى."
قال: "أنت تفعلين ذلك، لكنني تعبت."
ثم عاد إلى الهذيان .
بدأت تتراءى في ذهنه محطة سكة الحديد في كاراكاش. خُيّل إليه بأنه يقف هناك وهو يحمل في حقيبته رزمة من الأوراق، ثم خُيّل إليه بأنه كان يُغادر تبراس بعد الاعتزال.
كان ذلك أحد الأمور التي احتفظ بها لنفسه لكي يكتب عنها.
ثم خُيل إليه بأنه في ذلك الصباح كان أثناء تناوله الإفطار ينظر من النافذة ويشاهد الثلوج التي تكسو جبال بلغاريا، وبأن سكرتيرة نانسي كانت تسأل الرجل العجوز فيما إذا كانت تلك ثلوج، وبأن الرجل العجوز كان ينظر إليها ويقول، "لا، هذه ليست بالثلوج فلازال الوقت مبكراً لسقوط الثلوج"
وبأن السكرتيرة كانت تُردّد ما قاله لبقية الفتيات وتقول:
"أترون هذه ليست بالثلوج."
ثم يقول الجميع يبدو أننا كنا على خطأ، فهذه ليست ثلوجا. لكنها في الواقع كانت ثلوجا. كانت الثلوج قد سقطت في ذلك العام طوال أسبوع عيد الميلاد.. كانا قد أمضيا ذلك العام في منزلهما في الغابة، كانت في ذلك المنزل مدفأة كبيرة من البورسلين تشغل نصف مساحة الغرفة وكانا قد ناما على فراش مصنوع من أوراق شجر السنديان..
ثم استمر في الهذيان.
وبأن الثلج كان برّاقا في يوم عيد الميلاد في شرونز، إلى الحدّ الذي يجعلك، عندما تنظر إليه من وراء مقود السيارة تشعر بالألم في عينيك.. وبأنه كان أملسا في المكان الذي كانا يتزلجا فيه فوق الجليد في منطقة المادلينر هاوس، أشبه بكعكة مُتجمدة، وخفيفا أشبه بذرات البودرة...
وتذكّر ذلك الاندفاع الصامت الذي كانت تسببه السرعة عندما يسقط المرء على الأرض أشبه بالعصفور.
وتذكّر بأنهما أثناء تلك العاصفة كانا محتجزين لمدة أسبوع في الماد لينز هاوس يلعبان الورق على ضوء المصباح في الجو العبق بدخان السجائر. وبأن قيمة الرهانات كانت ترتفع أكثر كلما كان السيد لينت يخسر أكثر، إلى أن خسر في النهاية كل شيء... كل شيء، خسر كل ما لديه من نقود.. وكل ما كان قد حصل عليه من أرباح الموسم كما كان قد أيضا خسر بعد ذلك رأسماله.
كانت هناك دوما مقامرات. فأنت تقامر عندما لا تكون هناك ثلوج، وتقامر عندما يكون هناك الكثير من الثلوج.
ثم أخذ يفكّر في الوقت الذي أمضاه في حياته وهو يقامر.,
لكنه لم يكن قد كتب إطلاقاً ولا حتى سطرا واحدا عن كل ذلك، ولا عن ذلك البرد، ولا عن بهجة يوم عيد الميلاد، ولا عن الجبال التي كانت تبدو فوق السهل الذي كان باركر قد تسلل منه عبر الأسلاك لكي يُفجّر قطار الضباط النمساويين. ثم تذكّر بأن باركر كان قد جاء بعد ذلك وبدأ يروي لهم كل ما حدث وكيف أن الجو كان هادئاً إلى أن قال له أحدهم :
"أنت أيها القاتل الحقير."
لكنه لم يكتب ولا حتى كلمة واحدة عن كل ذلك، ولا عن مونتي كورنو أو عن سيتي كومن ولا عن أرسيديو.
كم كان عدد فصول الشتاء التي كانا قد أمضياها في فورالبورغ و أرلبرج؟ كانت أربعة فصول... ثم تذكّر طعم الكرز البرّي الأحمر، وذلك الانزلاق السريع لذرّات الثلج على اليابسة، بينما تركض بشكل مستقيم إلى أسفل الامتداد الأخير للمنحدر منشدا: "هاي! هو!"
ثم سأل المرأة التي كانت تجلس إلى جانبه على كرسي مصنوع من القش (فهما حاليا في إفريقيا(:
"أين كانت إقامتنا في باريس؟"
"في الكريلون. أنت تعلم ذلك."
"لم عليّ أن أعلم ذلك؟"
"لأنه المكان الذي كنا نقيم فيه دوما".
"لا. ليس دوما".
"كنا نقيم هناك كما كنا نقيم في جناح هنري الرابع في سان جرمان وكنت تقول بأنك تحب ذلك المكان."
قال هاري المنهك :
"المحبة! ليست المحبة سوى مزبلة كنت أنا الديك الذكر الذي يصعد عليها لكي يصيح."
قالت: " هاري! أرجوك لو كان عليك أن ترحل، فهل من الضروري أن تقضي حتما على كل ما ستتركه خلفك؟ أقصد هل عليك أن تأخذ معك كل شيء؟ هل عليك أن تقتل حصانك وزوجتك وأن تحرق سرجك ودرعك؟"
قال: "نعم، كانت أموالك اللعينة درعي وسمامتي (تعبير مجازي يعني ريشتي) وسلاحي."
"هاري لا تتكلم هكذا."
"حسنا. سوف أتوقف عن الكلام. لست أرغب في جرح مشاعرك."
"لقد تأخرت قليلا في إدراك ذلك."
"لا بأس، فسوف أستمر إذن في جرح مشاعرك. ففي هذا ما يسليني أكثر. لأنه ليس بإمكاني الآن أن أفعل الشيء الوحيد الذي كنت دوما أحب أن أفعله معك."
"لا، هذا ليس صحيحا، كنت تحب القيام بالكثير من الأشياء، وكنت أنا من تقوم على الدوام بكل ما كنت ترغب به."
"توقفي عن هذا التبجّح بحق الله، ألن تتوقفي عن ذلك؟"
ثم نظر إليها ولاحظ بأنها تبكي.
قال: "أصغي إلي. لم أكن أقصد بتصرفي هذا الإساءة إليك. لست أدري لماذا أفعل هذا؟ أعتقد بأنه يُشبه تصرف من يَقتل الآخرين لكي يبقى على قيد الحياة... كنت بخير عندما بدأنا نتحدث معا. لم أقصد أن نبدأ بمثل هذا الجدال العقيم، وأنا الآن أتصرّف بالفعل بغباء أشبه بالغرّة (طائر مائي) بأن أكون قاسيا معك كما فعلت. لا تهتمي بذلك حبيبتي، ولا بما أقوله.. فأنا أحبك بالفعل. أنت تعلمين بأنني أحبك، وبأنني لم أحب أحدا في حياتي مثل حبي لك."
واستمر في تلك الكذبة التي اعتاد على أن يحمى بها نفسه دوما.
قالت: "أنت لطيف معي."
"أنت أيتها البلهاء، أنت أيتها البلهاء الثريّة. هذا شِعر... أنا أشعر الآن بأن لدي الكثير من الشِعر، الشِعر والفساد. شِعر فاسد."
"توقف. هاري، لماذا عليك أن تتحوّل الآن إلى شيطان؟"
قال الرجل "لست أرغب في أن أترك ورائي أي شيء، نعم فأنا لا أرغب في ترك الأشياء ورائي."
*****
كان الليل قد حلّ وكان هاري قد بدأ يشعر بالنعاس. غابت الشمس واختفت وراء الهضبة، وانتشرت الظلال على كامل السهل. كانت بعض الحيوانات الصغيرة تأكل العشب إلى جانب المخيّم، وهي تُحرّك ذيولها وتحني رؤوسها على العشب بحركات سريعة. أخذ يرقبها وهي تبتعد شيئا فشيئا عن الأجمّة. لم تعد الطيور تنتظر على الأرض، وإنما حطّت بثِقلٍ فوق إحدى الأشجار، كان هناك الآن عدد أكبر بكثير منها.
كان خادمه الخاص جالسا بالقرب منه إلى جانب السرير.
قال الفتى: "ها قد ذهب الرجال إلى الصيد، هل ترغب في شيء سيدي؟"
"لا شيء."
كانت زوجته قد ذهبت أيضا إلى الصيد لكي تجلب بعض ما يمكن أن يؤكل من اللحوم.. كانت قد ذهبت بعيدا عن الجيب الصغير من السهل الذي كان بإمكانه أن يشاهدها فيه؛ لكيلا تتسبب بمضايقته، ولأنها كانت تعرف بأنه يحب كثيرا مراقبة لعبة الصيد.
بدأ يفكّر كانت زوجته بالفعل وعلى الدوام كثيرة الاهتمام به، وبأي شيء عرفته عنه، وبأي شيء قرأته عنه، وبأي شيء كانت قد سمعته عنه.
ليست غلطتها أن يكون قد انتهى عندما وصل إليها. تساءل كيف سيكون بإمكان تلك المرأة أن تفهم بأنك لم تعد تعني شيئا مما تقوله، وبأنك تتكلم فقط بحكم العادة لكي تشعر بالراحة؟ فبعد أن أصبح لا يعني ما يقوله، أصبحت أكاذيبه على النساء أكثر نجاحا مما كانت عليه، عندما كان يقول لهن الحقيقة.
لم يكن الأمر أنه كان يكذب أكثر من أنه لم تعد لديه أية حقيقة قد يقولها. كان قد عاش حياته لكن تلك الحياة كانت قد انتهت... وكان بعد ذلك قد استمر من جديد في العيش مع أشخاص آخرين، ومع المزيد من الأموال، وفي أماكن أفضل، ومع أناس جُدد.
فكّر: "عندما كنتَ قد توقفت عن التفكير كان كل ما حولك رائعا. لم تكن قد هزمت بتلك الطريقة، أو بالشكل الذي حصل للكثيرين لأن في داخلك الكثير من الخير.. فعندما لم يعد بإمكانك أن تقوم بالعمل الذي اعتدت القيام به، كنت قد اتخذت موقفا يوحي بأنك لم تعد تهتم بتلك الأمور على الإطلاق... لكنك في داخلك، كنت تقول بأنك سوف تكتب عن جميع أولئك الأشخاص، سوف تكتب عن أولئك الأثرياء جداً الذين لا تنتمي إليهم أنت على الإطلاق.. لأنك في الواقع بمثابة الجاسوس في موطنهم، كنت تعتزم أن تتركهم وتكتب عنهم، وبذلك سوف يكون أحدهم قد كتب عنهم ولو لمرة واحدة على الأقل. وهو دون شكّ أحد الأشخاص الذين يعرفون جيدا ما يكتبونه...
لكنه لن يقوم بذلك أبدا بعد الآن، لأن كل يوم يمرّ به دون أن يكتب، ولأن كل يوم راحة، ولأن كل يوم يمرّ وهو في هذه الحالة التي يزدريها، سوف يؤدي ذلك إلى أن تكون همته للعمل قد أثبطت وأدت إلى شعوره بالإحباط .
لن يكون بإمكانه بذلك أن يعمل وعلى الإطلاق... وبذلك سوف يشعر الأشخاص الذين عرف حقيقتهم بالكثير من الراحة عندما لن يعد بإمكانه أن يعمل...
كانت إفريقيا هي أكثر مكان شعر فيه بالسعادة في الأوقات الجيّدة من حياته، لذا كان قد جاء إلى هنا لكي يبدأ من جديد. كانا هو وزوجته قد أعدّا لرحلة الصيد هذه بأقل ما يمكن من مستلزمات الرفاهية. لم تكن هناك أية صعوبات، كما لم يكن هناك أيضا ما هو من الترف. كان قد اعتقَد بأنه سوف يتمكن بهذه الطريقة من العودة إلى الكتابة وبأنه سيكون بإمكانه التخلّص من ذلك التبلّد في ذهنه أسوة بالمقاتل الذي يذهب للتدرب في الجبال لكي يتمكن من حرق الشحوم التي تراكمت في جسمه.
كانت زوجته قد رغبت أيضا بذلك وقالت بأنها تحب ذلك، وبأنها تحب كل ما هو مثير، وكل ما من شأنه أن يُشعرها بتغيير المشهد، وبأنها تحب الأماكن التي تلتقي فيها بأناس جُدد، والتي تكون فيها الأشياء ممتعة. أما هو فقد شعر حينذاك بوهم إمكانية استعادة مقدرته السابقة على العمل...
أما الآن فلو كانت الأمور سوف تنتهي بهذا الشكل، وهو يعرف جيّدا بأنها سوف تنتهي هكذا، فليس من حقه حاليا أن ينظر إلى الخلف أشبه بالثعبان الذي يلدغ نفسه لأن ظهره قد كُسر...
لم يكن كل ما جرى غلطة تلك المرأة، فحتى لو لم تكن هي، فسوف تكون هناك امرأة أخرى ومادام قد عاش في كذبة فيجب أن يموت هكذا.
ثم سمع صوت طلق ناري من وراء الهضبة.
حدّث نفسه: "هي الآن ُتجيد الرمي تماما، تلك الثرية السافلة، تلك الحارسة الأمينة التي حطمت موهبته؛ لأنها قامت برعايته... هراء...! كان قد حطم موهبته بنفسه. لِم كان عليه أن يلوم تلك المرأة لأنها قامت برعايته بشكل جيّد؟ نعم كان قد حطم موهبته بنفسه لأنه لم يستخدمها، حطمها بخيانته لنفسه، وبخيانته لمبادئه، وبإدمانه على الشراب الذي أدى إلى تبلّد مداركه وأفكاره... حطمها كذلك بالتواني والتخاذل وبتكبّره وبتحامله وبالاحتيال وبجميع الطرق الملتوية الأخرى ...
ماذا الذي كان عليه؟ لم يكن سوى فهرس من الكتب القديمة؟ وماذا الذي كانت عليه موهبته على أية حال؟ هذا لو افترضنا أن لديه موهبة، فهو بدلا من أن يستخدمها قام بالاتجار بها. لم يكن الأمر إطلاقاً بسبب ما كان قد قام به و لا بما كان بإمكانه أن يقوم به.. كان قد اختار أن يكسب عيشه بشيء آخر وليس بالريشة والقلم.
من الغريب أيضا أنه حتى عندما وقع في حب امرأة أخرى، كان يجب أن تكون من يعيش معها دوما تلك المرأة التي تمتلك الأموال أكثر من الأخيرة؟ لكنه عندما كان يكذب كما يفعل الآن مع هذه المرأة، التي لديها كل أموال العالم، والتي كان لها زوج وأولاد، والتي كانت قد اتخذت لنفسها الكثير من الأصدقاء، رغم عدم اقتناعها بهم، تلك المرأة التي أحبته بقوة... تلك المرأة التي أحبته ككاتب وكرجل وكرفيق وكصاحب مهنة رفيعة...، من الغريب أيضا أنه على الرغم من أنه لم يكن يحبها على الإطلاق كان يكذب عليها، وكان عليه أن يمنحها لأجل أموالها أكثر مما كان قد يمنحه لها لو أنه كان قد أحبها بالفعل...
أخذ يفكّر" :يجب علينا أن نُكرس أنفسنا لما نقوم به، فعلى أية حال أنت تكسب عيشك في المكان الذي تكمُن فيه موهبتك. كان طوال حياته قد باع موهبته بشكل أو بآخر. فأنت تُعطي قيمة أكبر للمال عندما لا يتعلق الأمر كثيرا بعواطفك وقد تبيّن له ذلك، لكنه بعد الآن لن يكتب أيضا عن ذلك...لا... لن يكتب عن كل ذلك، رغم أنها من الأمور التي تستحق أن يُكتب عنها."
كانت زوجته قد ظهرت الآن زوجته للعيان، كانت تمشي نحو المخيم وهي تحمل بندقيتها، وكان الفَتيان يسيران وراءها وهما يحملان البنادق.
فكر: "لا تزال امرأة وسيمة، لها قوام متناسق، لم تكن جميلة، لكنه يحب شكل وجهها. كما أنها امرأة تقرأ كثيرا وتحب ركوب الخيل والصيد. من المؤكد أنها كانت أيضا تشرب بإفراط. كان زوجها قد توفي زوجها وهي لا تزال امرأة شابة نسبيا ما جعلها تكرّس نفسها لفترة لولديها اللذين لم يعودا في حاجة فعلية إليها عندما أصبحا يافعين، وإنما وعلى العكس، كانا يشعران بالحرج من وجودها حولهما، ومن ذلك الأسطول من الخيول، ومن تلك الكتب، ومن تلك الزجاجات. كانت تحب القراءة مساءً قبل تناول العشاء وكانت تشرب عندما تقرأ. وبذلك، وإلى أن يحين موعد العشاء، تكون قد ثملت تماما وإلى الدرجة التي تجعلها تشعر بالنعاس.
كان ذلك قبل أن تتخذ لنفسها العديد من الأصدقاء.. لم تعد تتعاطى الشراب بعد أن أصبح لديها ما أرادت من صداقات؛ لأنها لم تعد في حاجة لأن تثمل لكي تنام. لكن جميع أولئك الأصدقاء كانوا قد جعلوها تشعر أكثر فأكثر بالملل. كان أحد ولديها قد توفي في حادث طائرة، وبذلك لم تعد بعد ذلك ترغب بأية صداقات، وبما أن الشراب أيضاً لم يعد يُخدّرها، فقد كان عليها أن تجد لنفسها حياةً أخرى. كانت قد بدأت تشعر فجأة بالخوف من الوحدة لكنها بذات الوقت كانت ترغب في أن يكون إلى جانبها من تحترمه... وكان هذا ما جعلها تتزوج هذا الرجل الذي لا يجعلها تشعر إطلاقا بالملل.
كان الأمر قد بدأ بكل بساطة. أحبت كتاباته وكانت تُغبطه على طريقته في العيش، وكما كانت قد شعرت بأنه قام تماماً بجميع الأشياء التي كان قد رغب بها .
كانت الطريقة التي حصلت بموجبها عليه قد تمت بشكل تدريجي ومُنتظم.. وكانت بذلك قد بَنت لنفسها أخيرا حياةً جديدة، بينما قام هو بالمُقايضة على ما تبقى من حياته.
فهو بالحقيقة كان قد قايض بحياته لقاء حصوله على الأمان، وعلى الرفاهية أيضاً. ليس بإمكانه إنكار ذلك، وعلى ماذا أيضا؟ والحقيقة أنه لا يدري على ماذا كان قد قايض أيضا... ربما لأنها كانت ستشتري له كل ما يرغب به، وكان يعرف ذلك. كما أنها أيضاً امرأة جميلة وهذا ما جعلهما يرتبطان بسرعة، وبأسرع ممن عرفهن قبلها من نساء، ربما لأنها كانت الأكثر ثراء والأكثر إرضاء له، ولأنها لم تكن تختلق المشاكل...
لكن هذه الحياة التي بَنتها لنفسها سوف تنتهي الآن، وكل ذلك لأنه لم يكن قد وضع صبغة اليود على ركبته عندما خُدشت بتلك الشوكة منذ أسبوعين.
حدث ذلك عندما كانا يتقدمان إلى الأمام لمحاولة أخذ صورة لقطيع من الظباء المائية التي كانت تقف برؤوسها المرفوعة إلى الأعلى، لكي تستنشق الهواء بمناخيرها، وقد فتحت آذانها لكي تسمع أي صوت يجعلها تندفع بسرعة نحو الدغل، لكن تلك الظباء كانت قد هربت حتى قبل أن يتمكّن من تصويرها."
ها قد جاءت زوجته الآن، استدار برأسه وهو على السرير النقّال لكي ينظر إليها قال: "أهلا"
قالت له: "أصبت خروفا، وهذا ما سوف يؤمن لك حساء جيدا، سوف أجعلهم يُعدونه لك معه بعض البطاطا المجروشة. كيف تشعر الآن؟"
"أفضل بكثير."
"أليس هذا جيّدا؟ أتعلم، كان قد خطر ببالي بأنك قد ترغب بذلك. كنتَ نائما عندما تركتُك."
"كنت قد نمت بشكل جيّد. هل قطعت مسافة بعيدة؟"
"كلا، كان ذلك حول الهضبة فقط."
"أتعلمين، أنت الآن تجيدين الرمي بشكل رائع."
"أنا بالفعل أحب ذلك. أحببت أفريقيا بالفعل, ولو كانت صحتك جيدة الآن، لكانت هذه من أمتع الأوقات التي أمرّ بها في حياتي. أنت لا تعرف مدى ما أشعر به من تسلية عندما أقوم بالصيد برفقتك. لقد أحببت هذه البلاد."
"وأنا أيضاً أحبها."
"لا يمكنك أن تتصور يا حبيبي مقدار سعادتي بأن أراك الآن بوضع أفضل. لم أكن أحتمل رؤيتك بذلك الوضع. أرجوك ألا تتحدث معي بعد الآن بذلك الأسلوب. ألن تفعل ذلك؟ عِدني بذلك؟"
قال "لن أفعل ذلك، ولست أذكر ما قلته لك."
"ليس عليك أن تُحطّمني. أليس كذلك؟ فأنا امرأة في متوسط العمر تحبك وترغب في أن تفعل كل ما تريده منها. كنت قد حُطّمت سابقا مرتين أو ثلاث. لا أعتقد بأنك ترغب في تحطيم أعصابي ثانية. أليس كذلك؟"
ثم قالت: "سوف تصل الطائرة غدا".
"كيف تعرفين ذلك؟"
"أنا متأكدة. يجب أن يتم ذلك. فقد أعدّ الفتيان الخشب وكذلك الأعشاب التي سيتم بواسطتها إطلاق الدخان في السماء. ذهبت اليوم لرؤيتها لمرة أخرى. هناك مكان واسع يمكن أن تهبط فيه الطائرة، وقد أعددنا كل ما يلزم لإطلاق الدخان على جانبَي المكان."
"ما الذي جعلك تعتقدين بأنهم سيأتون غدا؟"
"أنا متأكدة من ذلك. فقد تأخروا وقد آن الأوان لقدومهم. سوف نقوم بمعالجة ساقك عندما سنصل إلى البلدة .
قال: "هل بإمكاننا تناول القليل من الشراب؟ فقد غربت الشمس."
"هل تعتقد بأن عليك ذلك؟"
"سوف أتناول كأساً واحدة فقط."
"سوف نتناول كأسا معا".
ثم نادت: "مولو، أحضر لنا بعض الشراب."
قال لها: "من الأفضل لك أن تضعي الآن الغطاء الواقي من البعوض."
"سوف أنتظر إلى أن أستحم. . ."
ثم تناولا معا بعض الشراب معا بينما بدأ الظلام ينتشر. كان أحد الضباع قد مرّ بالقرب منهما في طريقه إلى الهضبة قبل أن ينتشر الظلام تماماً. قال الرجل:
"هذا اللعين يمّر من هنا كلّ ليلة، كلّ ليلة ومنذ أسبوعين."
قالت: "هو بالتأكيد من يُصدر ذلك الصوت أثناء الليل. لست أهتم بذلك على الرغم من أنني أكرهه لأنه من الحيوانات القذرة."
لم يكن يشعر بذلك الألم المُبرّح وهما يتناولان الشراب معا، ما عدا ما كانت تسببه له مشقة الاستلقاء على وضعية واحدة.
ثم بدأت النيران التي أشعلها الصّبية تُلقي ظلالها حول الخيام، وبذلك أصبح بإمكانه أن يشعر فقط بعودته إلى تقبّل تلك الحياة المريحة من الاستسلام.. كانت زوجته بعد ظهر اليوم طيّبة جدا معه، بينما كان قاسيا معها.. لم يكن منصفا لها. هي بالفعل امرأة رقيقة ورائعة وفي تلك اللحظة بالذات خطر بباله بأنه سوف يموت.
كان قد أصيب بها (الغانغارينا) بسرعة بالغة، ليس بسرعة المياه ولا بسرعة الرياح، وإنما كانت قد أتت إليه فجأة نتيجة حماقة مشؤومة وبتلك الرائحة البغيضة.. والشيء الغريب هو أن الضباع تتسلل معها أيضا بخفة.
سألته زوجته: "ما الخطب هاري؟"
قال: "لا شيء، من الأفضل لك أن تبتعدي عن مجرى الريح لكي لا تصابي بالبرد."
سألته: "هل قام مولو بتغيير الضمادات؟"
"نعم، وأنا الآن أستخدم حامض البوريك فقط."
"كيف تشعر الآن؟"
"أشعر بقليل من الرعشة."
قالت: "سوف أذهب للاستحمام، وسوف أعود بسرعة لكي أتناول الطعام معك، وسوف نقوم بعد ذلك بوضع سريرك النقال في الداخل."
حدّث نفسه: "فعلنا خيرا بتوقفنا عن الشجار."
ثم بدأ يفكّر :
"لم يكن قد تشاجر كثيرا مع هذه المرأة، بينما كان يتشاجر كثيرا مع النساء اللواتي أحبهن. كان يتشاجر دوما لمجرد الرغبة في الشجار. كان قد أحب كثيرا، وتطلّب كثيرا، وقد أجاد كل ذلك.
ثم أخذ يفكّر في الوقت الذي كان فيه بمفرده في القسطنطينية، وكيف كان قد تشاجر أيضا مع من أحبها قبل أن يغادر باريس وكيف فشل يعد ذلك في قتل وحدته. كان قد كتب إليها حينئذ، كتب إلى المرأة الأولى التي أحبها، وهي أيضا المرأة الأولى التي هجرته.. كتب إليها رسالة أعلمها فيها كيف أن ليس بإمكانه على الإطلاق أن يقتل ذلك الحب... وكيف أنه كان قد شعر ذات مرّة بالدوار وبالألم في أحشائه، عندما خُيّل إليه بأنه شاهدها في (الريجينسي)، وبأنه كان سيلحق بامرأة تُشبهها كانت تمشي بين الأشجار في شارع البوليفارد، وبأنه كان يخشى ألا تكون هي ويخشى أن يفقد ما كان قد ولّده ذلك لديه من مشاعر. وكيف أن كل من عاشرهن جعلنه يشعر أكثر بالحنين إليها وكيف أن كل ما فعلته لا أهمية له بما أنه يعلم بأن ليس بإمكانه أن يُشفى من حبه لها.
كان قد كتب تلك الرسالة في النادي وهو في كامل وعيه، وأرسلها في البريد إلى نيويورك، وطلب منها فيها أن تُراسله على عنوان مكتبه في باريس. فقد بدا له ذلك آمنا. كان في تلك الليلة يشعر بشوق كبير إليها... وكان ذلك قد تسبب له بالألم في أحشائه.
لكنه ذات صباح، كان قد تلقّى الردّ على إحدى الرسائل التي كان قد كتبها إليها، كانت الرسالة قد سُلمت إليه على طبق كبير مع باقي الرسائل، كان عندما شاهد الخطّ شعر بالبرودة تسري في أوصاله، وحاول دسّ الرسالة تحت الرسائل الأخرى. لكن زوجته قالت:
"ممن هذه الرسالة، عزيزي؟" وكانت تلك بداية النهاية لكل شيء.
ثم تذكّر الأوقات السعيدة التي كانا قد أمضياها معا، وتذكر شجاراتهما. كانا يختاران دوما أفضل الأماكن لكي يتشاجرا فيها. لكنهما لِم يكونا يتشاجران دوما بعنف عندما يشعر بأنه بأفضل حالاته...
لكنه لم يكتب أبدا عن ذلك. أولا لأنه لم يكن يرغب في جرح مشاعر أحد، ولأنه كان قد اعتقد أيضا بأن لديه ما يكفي للكتابة. لكنه كان مع ذلك ُيفكر دوما بأنه لابد وأن يكتب عن كل ذلك في آخر الأمر لأن هناك الكثير مما سيكتبه...
كان قد شاهد كيف حدث التغيير في كل العالم. لم يكن ما تغيّر هي الأحداث فقط، وعلى الرغم من أنه كان قد شاهد الكثير من تلك الأحداث، لكنه شاهد أيضا ذلك التغيير الملحوظ في البشر... بإمكانه أن يتذكرّ الآن كيف كان هؤلاء الناس في مختلف الأوقات. كان من واجبه أن يكتب عن كل ذلك بما أنه كان داخل تلك الأحداث، وبما أنه كان قد رقبها لكنه لن يتمكن من أن يفعل ذلك أبدا... أبدا بعد الآن.
خرجت زوجته من الخيمة بعد الاستحمام، وقالت:
"كيف تشعر الآن؟"
"لا بأس"
"هل بإمكانك أن تأكل الآن؟"
شاهد مولو خلفها، كان يحمل الطاولة المَطوية وكان الخادم الآخر يحمل الأطباق.
قال: "أريد أن أكتب."
"يجب أن تتناول بعض الحساء لكي تستمّد بعض الطاقة."
قال: "لن أحتاج للطعام.. لأنني سأموت هذه الليلة."
قالت: "هاري، أرجوك، لا تكن مأساويا".
"لم لا تستخدمين حاسة الشم لديك؟ لقد تعفن حتى الآن نصف فخذي... من الذي سأخدعه بهذا الحساء؟"
ثم صاح: "مولو... أحضر لي بعض الشراب ."
قالت زوجته برقّة: "أرجوك، فلتتناول الحساء."
"لا بأس."
كان الحساء شديد الحرارة. لذا كان عليه أن يحمل الكوب إلى أن يبرد، لكنه وضعه بعد ذلك جانبا دون أن يتناول حتى ولو قطرة منه ثم قال لها:
"أنت امرأة رقيقة، لا تُلقي بالا إليّ."
نظرت إليه بوجهها المُحبب الذي يعرفه جيدا، كان وجهها قد أصبح أسوأ بقليل لكن مرور الزمن لم يكن قد غيّر كثيرا من شكل وجهها ومن يديها الناعمتين. كان قد شعر وهو ينظر إليها بأن الموت قد اقترب منه مرّة أخرى، لا حاجة للسرعة هذه المرة، فسوف تكون عبارة عن نفخة، كما تُطفِئ الريح الشمعة ويتصاعد منها اللهب إلى الأعلى.
قال: "بإمكانهم أن يحضروا الشبكة ويربطوها بالحبال على الشجرة ويشعلوا النار. لا يستحق الأمر نقلي إلى الداخل، فهذه ليلة صافية ولن يسقط المطر."
ثم بدأ يُحدث نفسه من جديد، وهكذا سوف تموت بين همسات لا تسمعها. حسنا، لن يكون هناك المزيد من الشجار، بإمكانه أن يَعدها يذلك الآن. لن يُفسد الآن التجربة التي لم يكن قد عرفها من قبل، لكنه على ما يبدو سوف ُيفسدها. لقد أفسد كل شيء ولكن ربما لن يفعل ذلك...
قال: "هل بإمكانك أن تكتبي ما سوف أمليه عليك؟ هل بإمكانك ذلك؟"
قالت: "لم يسبق أن تعلمّت ذلك."
"لا بأس."
حدّث نفسه من جديد :
"لم يعد لديه بالطبع ما يكفي من وقت، رغم أن ما سيكتبه كان سيبدو كأنه كُتب بأسلوب البرقيات، بحيث يكون بإمكانه أن يورده في فقرة واحدة هذا لو تمكّن من القيام بذلك بشكل صحيح."
ثم بدأ يهذي من جديد .
"كان هناك بيت خشبي أبيض مُتصدّع يقبع على هضبة فوق البحيرة، وكان هناك جرس على عمود بجانب الباب يتم استدعاء الناس بواسطته لتناول الوجبات، وكانت هناك وراء ذلك البيت حقول وكانت هناك وراء تلك الحقول غابات، وصفّ من أشجار الحور تمتد من المنزل إلى جوار حوض السفن، ثم احترق ذلك البيت الخشبي بكامله،
أما بعد الحرب فكانا قد استأجرا بيتا في الغابة السوداء. كان ذلك البيت بجانب الجدول وكان هناك طريقان يؤديان إليه، يمتد أحدها من أسفل السهل في )تريبرغ) في ظل الأشجار التي تحيط بالطريق الأبيض ويتجه إلى الأعلى عن طريق جانبي يمتد من خلال الهضاب وإلى ما وراء المزارع الصغيرة ومساكن شوارزوالد الضخمة، إلى الطريق المتقاطع مع الجدول، حيث كانا قاما بصيد الأسماك.
أما الطريق الآخر فكان على المرء أن يسلكها بصعوبة من طرف الغابات، ثم عبر الهضاب العالية ومن خلال أشجار الصنوبر، ثم من طرف المرج الأخضر، ثم عبر المروج في أسفل الطريق إلى الجسر. كانت هناك على طول الجدول بعض الشجيرات، لم تكن تلك الشجيرات كبيرة، لكنها كانت متينة وثابتة، تتصالب معا في بعض الأماكن تحت جذور الأشجار.
كان الموسم في فندق (تريبرغ) من المواسم الجيّدة بالنسبة للمالك. كان ذلك مُبهجا للغاية وكنا جميعا من أروع الأصدقاء. ثم جاء التضخم المالي في العام التالي، وبذلك لم تعد الأموال التي جمعها مالك الفندق في العام السابق تكفي لشراء المؤن لكي يتمكن من افتتاح الفندق؛ لذا فقد شنق نفسه.
سألته زوجته: "ألا ترغب بالمزيد من الحساء؟"
أجاب: "لا، شكرا جزيلا، كان لذيذا جدا".
"فلتجرب تناول بعضه فقط."
"أود أن أتناول بعض الشراب."
"هذا ليس جيدا بالنسبة إليك."
"كلا، هذا سيء بالنسبة إلي. سترددين ما كتبه كول بورتر يبدو أنكِ سوف تصابين بالجنون لأجلي."
أخذ يفكّر من جديد :
"عندما ستذهب، سوف أحصل على كل ما أريده... ليس على كل ما أريده... وإنما على كل ما هو مُتاح لي..."
كان يشعر بالتعب، التعب الشديد. سوف ينام قليلا. استلقى بسكون، لم يكن الموت هنا. يبدو أنه ذهب إلى مكان آخر .
عاد يفكر من جديد :
"كلا، لم يكتب إطلاقا عن باريس. ليس عن باريس التي كان قد اهتم بها، ولكن ماذا عن الباقي الذي لم يكن قد كتب عنه قَطّ ؟ حسنا. لن يهتم الآن بالموت. كان الشيء الوحيد الذي يخشاه دوماً هو الألم. بإمكانه أن يصبر على الألم مثله مثل أي رجل، لكن إلى الحدّ الذي لن يكون فيه الألم قد استمر لمدة طويلة وألا يكون قد بدأ يُنهك قواه. أصبح لديه الآن هنا ما يؤلم بشكل رهيب ومع ذلك لقد توقف لديه ذلك الإحساس بالألم عندما شعر بأن هذا الألم سوف يقضي عليه.
ثم تذكر ما كان من زمن بعيد، عندما أصيب الضابط المسؤول عن رمي القنابل وهو يجتاز الأسلاك الشائكة بشظية قنبلة كان قد رماها عليه أحد عناصر دورية ألمانية، وكيف كان ذلك الضابط في تلك الليلة يصرخ ويتوسل إلى كل شخص أن يقوم بقتله. كان ذلك الرجل مكتنزا وشجاعا جدا ومن الضباط الجيدين، لكنه في تلك الليلة وعلى الرغم من أنه كان معتاداً على المهمات الصعبة، كان قد علق بين الأسلاك وكان يحترق بتلك الشظية وقد تناثرت أحشائه على الأسلاك. كان عليهم بذلك عندما تمكنوا من نقله إلى الداخل وهو لازال حيّا، أن يُقطّعوا أوصاله.
"أطلق عليّ النار، هاري. بحق الله أطلق عليّ النار..."
كان قد جرى بينهم ذات مرّة نقاش حول ما يمكن أن يبتلي الله به المرء من الأمور التي ليس بإمكانه أن يحتملها.
كانت لدى أحدهم نظرية تقول بأن الألم يزول بشكل آلي في وقت من الأوقات، لكنه يتذكر دوما كيف كان ويليامسون في تلك الليلة. وكيف كان الألم قد استمر إلى أن أعطاه كل ما لديه من حبوب المورفين التي كان يحتفظ بها لنفسه، وحتى أنها لم تعد بعد ذلك تُجدِه نفعا.
ومع ذلك، لو لم يكن الألم الذي يشعر به الآن قد بدأ يزداد سوءا؛ لما كان سيتسبب له بالقلق لأي شيء. فلا يوجد ما يقلقه الآن سوى أنه كان يُفضّل أن يكون بصحبة أفضل.
فكّر قليلا بما كان سيفضّل أن يكون معه الآن من صحبة... فكّر، لا، فعندما يكون كل ما تقوم به قد أخذ وقتا طويلا، وعندما تكون قد قمت به في وقت متأخر، فليس بإمكانك أن تتوقع أن يكون الناس هنا. ذهب الجميع. وانتهت الحفلة، وأنت الآن مع مُضيفك فقط .
فكّر، بدأت أشعر بالضجر من الموت كما قد أشعر تجاه أي شيء آخر. ثم قال بصوت مرتفع: "هذا مُضجر."
"ما هو، عزيزي؟"
"كل ما تفعلينه يأخذ الكثير من الوقت."
ثم نظر إلى وجهها الذي كان يبدو ما بينه وبين النار. كانت تستند إلى خلف الكرسي، وكان اللهب ينعكس على تقاطيع وجهها، وكان بإمكانه أن يدرك بأنها كانت تشعر بالنعاس. ثم سمع ذلك صوت ذلك الضبع الذي كان يقف خارج نطاق النار تماما..
قال: "كنت أكتب، لكنني تعبت."
"أتعتقد بأنك سوف تتمكن الآن من النوم؟"
"بالتأكيد، لم لا تذهبين إلى الداخل؟"
"أفضّل الجلوس معك هنا."
سألها "هل تشعرين بشيء غريب؟"
"لا، أنا أشعر بالنعاس قليلا".
قال: "وأنا أيضاً."
لكنه كان يشعر باقتراب الموت منه من جديد.
قال لها: "أنت تعلمين بأن الشيء الوحيد الذي لم أفقده بعد هو الفضول."
"لم تفقد شيئا طوال حياتك، أنت الرجل الأكثر كمالا من كل من عرفتهم."
حدث نفسه: "يا لله، كم قد يكون إدراك المرأة للأمور محدودا؟ ما هذا؟ هل هو حدسك؟"
كان يشعر بأن الموت كان قد اقترب منه تلك الليلة.
قال لها: "لا تصدّقي أبدا ما يُقال عن منجل أو عن عقل جمجمة. فقد يكونا بكل سهولة شرطيان على دراجات، أو عصفور. أو قد تكون فطيسة مثل الضبع."
ها قد أصبح الموت الآن فوقه تماما، ليس له أي شكل. لكنه يستحوذ على بعض المكان فقط.
قال وهو يهذي: "اطلبي منه أن يذهب من هنا."
لكنه لم يكن قد ذهب بعيدا، وإنما اقترب أكثر.
شعر بأنه قد بدأ يقترب منه بسكون أكثر... فأكثر... لم يعد بإمكانه أن يتحدث معه الآن، لم يعد بإمكانه أن يتكلم عندما ظهر، ها قد اقترب أكثر... بدأ الآن يحاول إبعاده عنه دون أن يتكلم. لكنه اقترب وأصبح في داخله. أصبح كل ثقله على صدره، وبينما كان ينهش هناك لم يعد بإمكانه أن يتحرك أو أن يتكلم.
سمع صوت المرأة وهي تقول للخادم:
"لقد نام هاري الآن. احمل السرير بلطف وأدخله إلى الخيمة."
لم يكن بإمكانه أن يتكلم، ولا أن يطلب منها أن تجعله يذهب بعيدا عنه. كان قد بدأ ينهش في صدره أكثر وبشكل أثقل. ولم يعد بإمكانه حتى أن يتنفس. ثم شعر فجأة وهم يحملونه على السرير النقّال بأنه أصبح بوضع أفضل، وبأن ذلك الثقل الذي كان على صدره قد زال.
طلع الصباح، وكان الصباح قد طلع منذ فترة.. سمع صوت الطائرة. كانت تبدو صغيرة جدا، قامت بالتحليق بشكل دائري. ركض الفتيان وأشعلوا النيران بواسطة الكيروسين وقاموا بتكديس الأعشاب بحيث يظهر الدخان على مستوى المكان ومن جميع الأطراف، بينما كانت نسمات الصباح تعصف بها باتجاه المخيم. دارت الطائرة مرتين فوق المكان ثم توجهت بشكل مستوي إلى الأسفل وحطّت برفق على الأرض. قال كومبتون العجوز وهو يتوجه نحوه:
"ما الأمر أيها الديك العجوز؟"
وأجاب: "ساق مريضة، أترغب بتناول الإفطار؟"
"شكرا، سوف أتناول بعض الشاي فقط. وسوف نذهب بعد ذلك إلى بوس موس، لن أتمكن من ارتياد الطائرة معك. فهناك مكان لشخص واحد فقط. لكن شاحنتك في طريقها إلى هنا."
أخذت هيلين كومبتون جانبا وتحدثت معه ثم عاد كومبتون وهو أكثر حبورا مما كان عليه.
قال: "سوف نحملك إلى داخلها. وسوف أعود مع الرجال. عليّ الآن التوقف في أروشا للتزوّد بالوقود، ومن الأفضل أن نذهب الآن."
"ماذا عن الشاي؟"
"أتعلم، في الحقيقة لست أشعر بالرغبة في تناوله الآن."
حمل الفتيان السرير النقّال حول الخيام الخضراء ثم إلى الأسفل من جانب الصخور، ثم فوق السهل. مروا بجانب مناطق الدخان التي كانت قد بدأت حاليا تلتهب وتسطع. كانت الريح تُؤجّج النيران، والتي كان العشب قد تلف من حولها. ثم حملوه إلى الطائرة الصغيرة. كانت هناك بعض الصعوبة في إدخاله إلى الطائرة، لكنه كان قد بدأ يشعر بالارتياح عندما أصبح بداخلها. تمدّد على ظهره على المقعد الجلدي، وتم تثبيت ساقه بشكل مستقيم إلى جانب المقعد الذي كان يجلس عليه كومبتون.
أدار كومبتون المحرك ودخل إلى الطائرة. ولوّح بيده إلى هيلين وإلى الفتية. تحرك المحرك وأطلق صوت هدير مرتفع. قاموا بدورة حول محور المكان، ثم هدرت الطائرة وارتطمت بقوّة على طول امتداد خطوط النيران وانطلقت بضربة أخيرة.
شاهد الجميع.. كانوا يُلوّحون له من الأسفل، ثم بدأ المخيم يختفي عن ناظريه من جانب الهضبة بينما كانت الطرائد تتوجه ببطء نحو ينابيع المياه. كانت هناك ينابيع جديدة لم يكن قد شاهدها من قبل. شاهد الحمير الوحشية الأفريقية بظهورها المستديرة، وشاهد المُهر ذات الرؤوس الكبيرة، التي كانت تبدو وهي تتنقل على قوائمها الطويلة عبر السهول كأنها تصعد إلى الأعلى، وكانت قد بدأت تتفرق عندما اقترب منها الظل. أصبحت الآن أصغر حجماً، ولم يعد في تحركاتها ما يُشبه العدو بسرعة. كان السهل على أبعد امتداد بإمكانه أن يشاهده فيه، يبدو بلون أصفر رمادي، ثم شاهد إلى الأمام ظهر كومبتون العجوز. لقد أصبحوا الآن فوق أول التلال حيث كانت الحمير الوحشية الإفريقية تجرجر قوائمها بتثاقل ثم فوق الجبال التي بدت بداخلها فجأة الغابات الخضراء وأشجار الخيزران المتينة. ها قد ظهرت الغابات الكثيفة مرّة أخرى، وظهرت من جديد تلك التلال الممتدة إلى الأسفل.
أصبح الطقس فجأة حاراً كانت السماء قد أصبحت بلون قرمزي. كان كومبتون ينظر إلى الوراء لكي يتبيّن كيفية توجيهه الطائرة، ثم بدت أمامهم جبال داكنة أخرى.
لكنهما بدلا من أن يتوجّها إلى أروشا استدارا إلى الجهة اليسرى. خطر بباله بأن هناك ولابد مشكلة في الوقود. لكنه عندما نظر إلى الأسفل شاهد هناك غيمة قرمزية اللون تتحرك على الأرض وكان في الجو ما يُشبه بداية لعاصفة ثلجية كانت قد بدأت تهب من جهة ما. ارتفعا بالطائرة من جديد، كانا يتوجهان كما يبدو نحو الشرق.. ثم أظلمت السماء، وسقط المطر بغزارة إلى الحدّ الذي أصبحا فيه كأنهما يطيران من خلال أحد الشلالات..
ثم أصبحا خارج تلك العاصفة... استدار إليه كومبتون وابتسم ابتسامة عريضة وأشار إلى الأمام. كان كل بإمكانه أن يراه هو تلك القمة المربّعة التي تبدو باتساع العالم. قمة كبيرة، مرتفعة، تبدو شديدة البياض تحت أشعة الشمس بشكل لا يُصدّق. كانت تلك هي قمة جبال كيليمانجارو وبذلك أدرك بأنهما كانا يتوجهان إلى هناك.
كانت الضباع في ذلك الوقت من الليل قد توقفت عن الأنين، وبدأت تصدر عنها أصوات غريبة، أصوات إنسانية تشبه صوت البكاء.
سمعت المرأة تلك الأصوات وتقلّبت في فراشها باضطراب، لكنها لم تكن قد استيقظت تماما من نومها. كانت تحلم بأنها في منزلها في لونغ أيلاند، وفي الليلة التي سبقت وفاة ابنها، وبطريقة ما كان والدها أيضا هناك وبأنه كان قاسيا جدا معها.
ارتفع صوت الضباع إلى الحدّ الذي جعلها تستيقظ.. لم تكن للحظات تدري أين هي، كانت خائفة جدا. نهضت من فراشها وحملت الضوء الكاشف وعكسته على الطرف الآخر من الخيمة في الجهة التي كان فيها السرير النقال الذي تم حمل هاري عليه إلى الداخل بعد أن خلد إلى النوم.
وبذلك كان بإمكانها أن تشاهد عبر حاجز البعوض بأن ساقه كانت قد أُخرجت من تحت الحاجز وبأنها كانت تتدلى إلى جانب السرير وبأن جميع الضمادات كانت قد نزعت عنها، لم يكن بإمكانها أن تنظر إليها أكثر من ذلك.
صرخت: "مولو! مولو!"
ثم نادت: "هاري.. هاري!" وارتفع صوتها أكثر وأكثر وهي تُنادي: "هاري! أرجوك! آه هاري!"
لكن لم تكن هناك أية إجابة كما لم يكن بإمكانها أن تسمع حتى صوت أنفاسه.
في ذلك الوقت كانت الضباع في الخارج لا تزال تطلق ذلك الصوت الذي كان قد أيقظها من نومها لكنها لم تعد تسمعها لما كان من تسارع في ضربات قلبها.


لمحة موجزة عن جائزة نوبل:

جائزة نوبل هي الجائزة التي خصصها العالم السويدي ألفرد نوبل بموجب وصيته في العام 1895 وقدرها عشرة ملايين كراون سويدي .
تمنح لكل من يثبت تميّزه في العلوم التالية: في الكيمياء، والآداب، والفيزياء، والفلسفة، والطب، والسلام .
تتم مراسم منح تلك الجائزة سنويا باحتفال رسمي في مدينة أستوكهولم في السويد ما عدا جائزة نوبل للسلام التي تقام مراسمها في مدينة أوسلو في النروج وكان قد تم منح تلك الجائزة للمرة الأولى في العام 1901.
كما تم في العام 1905 أي في الذكرى الخامسة لوفاة ألفرد نوبل إضافة جائزة نوبل في ميدان العلوم الاقتصادية
كان ألفرد نوبل هو لا يزال في سن السابعة عشر يتقن سبع لغات وكان إلى أن توفي في العام 1896قد حصل على 355 براءة اختراع في مختلف أنحاء العالم ما جعله يحصل، عدا عن شهرته العالمية، على ثروة كبيرة خصصها بموجب وصيته الأخيرة لكل من يقدم أفضل خدمة أو اختراع لخدمة الإنسانية .
وكان الكاتب إيرنست هيمنغواي أحد من تم منحهم جائزة نوبل في الآداب وذلك في العام 1954.


السيرة الذاتية للكاتب إيرنست هيمنغوي 1899ـ 1961:


“In order to write about life, first you must live it!”
– Ernest Hemingway
لكي يكون بإمكانك أن تكتب عن الحياة عليك أن تعيشها قبل ذلك...
ولد عام 1899 في أوك بارك بولاية إلينوي في الولايات المتحدة الأمريكية وبدأ مسيرته الأدبية بأن عمل كاتبا في إحدى الصحف في مدينة كينساس.
كان تطوّع في إحدى وحدات الإسعاف في الجيش الإيطالي وخدم في الخطوط الأمامية للقتال عندما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الأولى وكان قد جُرح خلال المعارك وأمضى فترة طويلة في المشافي وكان قد تم منحه وساما لما أبداه من شجاعة.
وكان هيمنغوي عندما عاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية قد عمل مراسلا لبعض الصحف الأمريكية والكندية، ثم تم إيفاده بمهمة إلى أوروبا لتغطية أحداث الثورة اليونانية.
كان عضوا في جمعية المغتربين الأمريكيين في باريس وكانت تلك الفترة التي أمضاها هناك هي مصدر الإلهام لقصته الشهيرة التي نشرت عام 1926 تحت عنوان (ستُشرق الشمس من جديد)، وكذلك لقصّة (وداعا للسلاح) التي نشرت عام 1929.
كما كانت خبرة هيمنغوي أثناء فترة عمله في مجال الصحافة أثناء الحرب الأهلية في اسبانيا مصدرا للإلهام لروايته الشهيرة (لمن تُقرع الأجراس) التي نشرت عام 1940. ثم تم نشر روايته (العجوز والبحر) عام 1952 ورواية (سيول الربيع) وغيرها من العديد القصص القصيرة ومنها قصص (رجال بدون نساء)، و(الطابور الخامس)، والعديد من الروايات الأخرى ومن القصص القصيرة والقصائد الشعرية.
تم منحه في العام 1954 جائزة نوبل للآداب .
كان هيمنغوي مولعا بممارسة الرياضة وبالصيد وبمصارعة الثيران وهذا ما تجلّى في الكثير من مؤلفاته .
لكن كان خلال فترة عمله مراسلا صحفيا قد بدأ يدمن على الشراب وبذلك كان التأثير السيئ للإدمان قد بدأ يظهر عليه عام 1940 بإصابته بارتفاع في الضغط الدموي تلاه دخوله المشفى لمدة عام لإصابته يمرض تشمّع في الكبد. وكان في نهاية حياته قد أصيب بانهيار عصبي أدى إلى انتحاره ببندقية الصيد الخاصة به وهذا ما أدى إلى وفاته عام 1961في ولاية أوهايو.

 

 

التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية