تجمعت النيران في اجتماع غير عادي داخل أحد المعابد... تزعمته نار قدس الأقداس لطول عمرها، واحترام الجميع لها، ناراً وبشرا... كان مشهداً مبهراً بكل المقاييس... كتل من النيران متفاوتة الحجم واللون والشدة، التفت حول كتلة مهيبة من النار، تتغذي علي فروع من شجر البلوط المقدس في داخل إناء من الذهب الخالص المبطن بالحجر الأملس.
اهتزت زعـيمتهم تلك في وقـار، وتلفــتت حولها وهـي تنشـر بهـيئتها نوعاً خاصـاً من الهـيبة والرهبة، ثم تساءلـَـتْ بصوت رخيم عـميق:
- هل حـضر الكل؟
سكت الجميع لبرهة ثم أجابت نار الشمعة بصـوت خـفيض:
- لا... لا يا مولاتي... لم تحضـر نار شعـلة بئر البترول بعـد.
اهتزت نار الحطب لتلفت الانتباه إليها، ثم قالت وهي تتلفت حولها بصوت مخـتنق:
- ليعلم الجميع... أن نار شعلة بئر البترول... كـح... لن تأتي مرة أخرى.
انعكس علي جدران المعبد الحجرية وهج أصفر ذهبي مرتعش، نتيجة اهتزاز النيران بشدة، وبدا المشهد وكأنهم يؤدون رقصة طقسية كئيبة، شاركتهم فيها نار قدس الأقداس... وبعد أن هدأوا تابعت نار الحطب قولها وهي تسعـل:
- لقد علمت وأنا آتية إلي هنا... كح كح... اعذروني... فالحطب رديء... كح... وصدري كأن به ماء... كح... لقد علمت أن البئر قد نضب.
عـمّ الاجتماع صمت مطبق، إلي أن كسرته نار قدس الأقداس قائلة بأسي:
- شيء عجيب!... لقد توقعنا لها الصحة وطول العمر، فلم يخـطر ببال أحـد أن يجف هذا البئر الجديد فجأة!
قالت شرارة لنار قدس الأقداس معقبة بحياء:
- معذرة يا مولاتي... ولكن عمرها بالتأكيد يفوق عـمري، فأنا كالجنين في بطـن امـه كما يقول البشر... قد أنضج وأصبح ناراً... وقد...
قاطعتها نار قدس الأقداس في هدوء قائلة:
- لا تفكري بمنطق البشر يا صغيرتي... الأعـمار بيد الله... لا أحـد يعلم كـم سيعيش ومـتي سيموت... هذا تفكير أجوف يعـود إلي تلك الكائنات الحمقاء، التي يحوي ثلثي اسمها علي الشر.
عادت الزعـيمة ودارت ببصرها بين النيران المتجمعة حولها، ثم قالت بصوت مرتفع:
- والآن... دعونا نناقش سبب اجتماعنا الطارئ هذا.
والتفتت إلي نار الحريق قائلة لها بصرامة:
- ها نحن في انتظار سماع موضوع الحياة والموت الذي ناديت به يا نار الحـريق... نحـن لك مستمعـون.
اهتزت النيران في رفق كدليل علي إنصاتهم باهتمام، وبدأت نار الحريق في الحديث:
- لقد رأيت أن نناقش قضية هامة ومصيرية بالنسبة لنا... ألا وهي معاملة البشر لنا.
وأكملت في غضب واضح:
- معاملة تلك المخلوقات الطينية لنا...
ساد هرج ومرج بين النيران التي اهتزت بعـشوائية، وارتفعت أصوات طـقطـقتها، فما كان من نار قدس الأقداس إلا أن صاحت بشدة:
- هدوء... هدوء من فضلكم .
ثم التفتت لنار الحريق وقالت لها معنفة:
- ما الذي أسمعه منك؟!... إنك تذهـبين بتعـليقك الأخـير إلي موضوع شـائك، لا حاجة لنا إلي مناقشته الآن.
اهتزت نار الحريق في توتر وقالت لزعيمتها:
- أعتذر مؤقتا عن نعتهم بالطينيين يا مولاتي... ولكن... ولكن طريقة معاملتهم لنا أفقدتني صوابي ورشدي... إنهم يعاملوننا كأننا... لا شيء... مجرد وسيلة حقـيرة لإنجاز أعـمالهم... كثير من أعمالهم حتي أكون دقيقة... وفي المقابل... لا نحظى ولو بجزء من الاحترام... يأتون بنا في أي وقت... يكثروننا عندما يريدون... يحافظون علي حياتنا عند الحاجة فقط... ولكن عند انتهاء مهمتنا... نلقي أسوأ مصير... إما بالماء المؤلم اللعين... أو يقتلوننا خنقاً... ولا يخجلون وهم يقضون علينا تحت أحـذيتهم القذرة كالحشرات... فماذا فعلنا بهم حتي نلقي هذا المصير؟!
تمعنت نار قدس الأقداس النظر إليها دون أن تنطـق... ثم التفتت نار الحـريـق بعـصـبية إلي نـار الشمعة وسألتها بانفعال:
- ماذا فعلتِ لهم يا نار الشمعة حتي تقضي نحبك بتيار هـواء خـانق؟!
أجابت نار الشمعة بصوت ذليل:
- أضيء لهم ظلامهم، وأحتفل معهم بأعياد ميلادهم.
ارتعشت نار الحريق وهي تتجه بنظرها إلي نار عـود الثقاب وهي تقول:
- يا للقسوة الوقحة... وماذا فعلتِ لهم يا نار عود الثقاب حتي تختنقي وتلقي في الطرقات وسط الأوساخ، وتدهـسي تحت الأقدام؟!
- أعطي لهم من لحمي... وأنجب لهم نيران الشموع وجذوات لفائف تبغهم.
- ماذا فعلتِ لهم يا نار الفرن حتي تموتي جوعاً من انقطاع الغاز؟!
- أطهو لهم طعامهم.
- وماذا فعلتِ لهم يا نار لهب المعمل حتي تجدين نفسك لا شيء؟!
- أساعدهم في تطور علمهم.
- وأنتِ يا نار الحطب... ماذا فعلتِ لهم حتي تختنقي بالماء البـشع والتراب؟!
- أصنع لهم الدفء.
ثم بدأت نار الحريق في مخاطبة الكل قائلة بحماس:
- وددت أنا لو صنعت لهم الدفن... فماذا فعلنا لنلقي تلك النهايات البشعة؟!... نحن في حاجة إلي إعادة النظر في مستقبلنا... يجب أن نلفت انتباه البشر إلي أننا في رتبة أعـلي مم يتصورون... فنحن نتنفس الأكسجين مثلهم... ونأكل مثلهم... ونتكـاثـر مثلهم... ونرقص مثلهم... هه... ونجتمع مثلهم... بل... ونموت مثلما يموتون... بل الأدهى أننا لسنا في حاجة إليهم... ولكنهم في أمس الحاجة لنا... وفي كـثير من أعمالهم الحيوية... بل ماذا سيفعـلون لو مات رفقاؤنا مشعـلو الشمس؟!... طبعا سيتجمد هذا الكوكب ويصبحـون هم أول الضحايا ويلقون أبشع نهاية.
اهتزت في عنف وقالت هاتفة:
- علينا بالثورة... لنحرق كل شيء علي هذه الأرض، ونحوّلها إلي شمس أخري... فمشعلي الشمس ليسوا أفضل منا.
اهتزت النيران بعشوائية وتعلقت الأبصار الحائرة بنار قدس الأقداس التي تمايلت بعصبية داخل إنائها الذهبي، وقالت محاولة أن يخرج كلامها بارداً لتهدئ من حرارة النقاش الملتهب:
- لا أعتقد أن مهمتنا هنا مثل مهمة نيران الشمس... فالظروف مختلفة.
ردّت عليها نار الحريق وقد اكتسبتا جرأة كبيرة:
- بل أعتقد أن مهمتنا لنحـوّل هذا الكوكب إلي شمس أخري سهلة جدا، فهذا الكوكب صغير، ويمكن احتواؤه بسهولة... بالإضافة إلي أنه مليء بالمواد القابلة للاشتعال والانفجار... نفط وفحم وغاز... وقلبه مازال منصهرا مشتعلا... بل واخترع البشر بحماقتهم المعهودة البارود والقنابل... فلنستدعي نيران المتفجرات وعلي رأسهم نار القنبلة الذرية حتي...
قاطعتها نار قدس الأقداس وقد فقدت هدوءها قائلة لها بعصبية:
- ونفجـّـر الكوكب وننسفه نسفاً!... ونحوله إلي ذرات!... وتصبح كل نار منا هائمة لوحدها علي ظهر نيزك أو داخل شهاب!... أهذا ما تريدينه؟!... لا... انظري إلي كوكبنا...
والتفت إلي من حولها من نيران وأكملت:
- انظروا إلي هذا الكوكب... لقد حوّله البشر بالفعل إلي قنبلة موقوتة، يتدلى فتيلها أمام الجميع... ولكن يجب ألا يغرينا هذا... فالعقل يحتم علينا أن نحـافظ علي كـياننا ووحـدتنا... وعلي كوكبنا أيضا.
قالت لها نار الحريق في عناد:
- بل الحل يا مولاتي في الثورة... لتكن لنا الكلمة العليا ما دام الإنسان قد فقد تعقله.
عـقــّـبت عليها نار الفرن قائلة:
- رأيي من رأي نار الحريق... فلنتملك زمام الأمور... وهذا أفضل... للجميع.
سعلت نار الحطب وتحدثت بصوت محشرج:
- أعتقد أن الحل في الثورة... كح... فعلي الأقل أنتقي الحطب بنفسي، وألتهم الجيد منه... بدلا من أن يلقي إليّ كطعام كلب أجرب... كح كح... اللعنة عليهم.
توهجت نار الشمعة ودخلت في الحديث قائلة:
- ولكن إذا قمنا بالثورة... فما مصير باقي الكائنات التي لا ذنب لها في هذا الخلاف؟!
وأكملت نار عود الثقاب قائلة:
- ومصير البشر الغير مذنبين، من الذين يعاملوننا برحمة أو يقدسوننا؟!
وقالت الشرارة:
- وما مصير الأطفال في كل مكان؟!... إني أقشعر لو رأيت أي طفل يحترق أمامي.
هتفت بها نار الحريق قائلة بتعجب:
- أأنت تقولين هذا يا صغيرتي؟!... وماذا عن مصيرنا نحن؟!... كم شرارة انطفأت قبل أن تصبح نارا؟!... كم عدد الذين أبيدوا منا؟!
والتفتت إلي الجمع من حولها وقالت بعصبية:
- إن الشرارة التي تقشعر من رؤية طفل يحترق، لا تتأثر برؤية بني جنسها وهم يوءدون في الماء أمامها!
أجهشت الشرارة بالبكاء وساد الصمت للحظات، أمسكت بعدها نار قدس الأقداس بدفـة الحـديث وقالت:
- مـن فـضلكم... دعـونا نفـكر بهـدوء وبصـوت مسـموع... حتي لا تطـغي عـواطـفنا عـلي عقولنا... والآن... أريد أن أسأل أنصار قيام الثورة بضع أسئلة بسيطة.
ردت عليها نار الحريق قائلة:
- تفضلي يا مولاتي.
نظرت لها نار قدس الأقداس نظرة ذات معني، وابتسمت بخبث ثم عادت إلي جديتها علي الفـور وقالت:
- لو قمنا بما تقولون عليها ثورة... ونجحنا... وتحوّل هذا الكوكب إلي شمس أخري... ماذا سيكـون هدفنا في الحياة بعد ذلك؟... لا أريد أن أسمع هدف البقاء لغرض البقاء... أو نحيا لنأكل، ونأكل لنحيا... أريد هـدفاً يستحـق خرق إحدى النوامـيس التي ظـلت ثابتة لملايين السنين.
اهتزت النيران المعارضة بارتباك، وبدا عليها التردد، إلا أن نار الحريق تماسكت وقالت:
- هـدفنا!... وما هو هـدف نيران الشمس؟
اعتلت الثقة والسيطرة هيئة نار قدس الأقداس بعد أن أمسكت بقوة المنطق في النقاش، وقـالت لنار الحريق:
- الوضع مختلف يا عزيزتي... الشمس موضعها مركزي في تلك المجموعة النجمية، لذا فإنارتها وتدفئتها وجاذبيتها لباقي الكواكب ضروري... خاصة هنا... حيث الحياة بصورتها تلك... لذا فنيران الشمس يساعدون في إقامة حياة، وأنتم تريدون القضاء عليها!... أهذه هي الوسيلة المثلي لرد الاعتبار؟!... بتلك الحـماقة؟!... ماذا تركـنا إذن للبشـر؟!... ثم... أين رسالتنا في الحياة؟!
قالت نار الفرن بتقزز واضح:
- لا حياة لمن طغي وأفسد وقتل.
أيدتها نار الحطب قائلة:
- نعم... ولكل حرب ضحاياها... وكفي ما خسرناه من جانبنا... كرامتنا فوق الجميع.
صاحت نار لهب المعمل:
- نعم... كرامتنا فوق الجميع.
تبعتها صيحات لنيران الحريق والحطب والفرن:
- كرامتنا فوق الجميع... كرامتنا فوق الجميع.
اهتزت نار قدس الأقداس بشدة، فصمَت الجميع احتراما لها... ثم عادت إلي هـدوئها المصـطـنع وقالت بنفاذ صبر:
- أريد أن أعرف ما هي غايتنا في هذه الدنيا، قبل أن أسمع أي شعارات تنطـلق كـفـقاعات الهواء... سأقول لكم رأيي الشخصي... غايتنا هي أن نقوم بما هـو مفـروض ومقدر عـلينا عمله منذ قـديم الأزل، وهو ما نفعله الآن دون تغـيير... أما متعة جـهنم فليست لنا الآن... ويجب ألا ننظر لنيران الشـمس أو أي نجــم مشـتعـل آخـر، فلكل منا قدره... ومحاولة الخروج عن الطريق هي الخـطيئة الكبرى... والانسياق وراء المتع هـو بداية النهاية.
سكتت لبرهة وخيم الصمت الرهيب علي الاجتماع، ودارت نار قدس الأقداس ببصرها علي الجميع لتري تأثير كلماتها، ثم أكملت بقـوة:
- لذا فإني أري أن يتم التصويت الجماعي بيننا في رفض أو قبول الثورة... أنا لا أفرض الرأي، فلكل منا بصيرته وحكمته في تقرير مصيره.
قالت لها نار الحـريق ممتعـضة معترضة:
- التصويت علي ماذا؟!... فهل لنا سبيل آخر غـير الثورة ؟!... إنه الحـل الوحـيد أو بـقاء الهوان كما هـو... أو...
صمتت للحظات ثم أكملت ببطء كمن يلقي بكلمات سحرية:
- أو الاعتزال الكامل من حياة البشر... أي اختزال أحزابنا إلي حزبين أساسيين فقط... حزب نيران معابد مقدسة، وحزب نيران حريق متأججة... حيث الكرامة والحرية... القداسة والقـوة... والباقي يتحول إلي أي منهما... أو ينطفئ إلي الأبد... تخـيلوا معي الإنسان الضعيف وهو يحاول أن يطهو طعامه ويفشل... يحاول أن يحـصل علي دفء من أقرب مدفأة له فيجدها أبرد منه... تظل شموعه مظـلمة، وليله حالك أسـود... إنه كابوس يستحقه الجنس البشري... ويظل حلمهم في أن يروا ولو شرارة تنبعث من أي مكان... ولكن هيهات.
وارتفع صوتها بحماس:
- هيهات وحتي الممات.
توهجت النيران كلها داخل المعبد، وصدر منها طقطقات عالية تأثراً بكلمات نار الحـريق، التي كانت مباغتة لهم... ونافذة... ولكن سرعان ما هـتفت نار قدس الأقداس بنار الحـريق قـائلة بغضب:
- أحذرك من هذا السلوك يا نار الحريق!... لا أحب من يتملكه غرور الزعامة وهو لا يدري عواقب ما يقول.
تسمّرت نار الحريق لبرهة قبل أن تخفض من صوتها وتقول بلهجة مسالمة:
- مولاتي... أنا أعرض ولا أفرض الحلول... إما الهوان أو الثورة.
سكتت للحظات أمام نظرات متقدة من نار قدس الأقداس وأكملت:
- أو التضحية الكبرى.
هتفت بها نار قدس الأقداس مجددا وهي تقول:
- أحذرك مرة أخري من أسلوب التأثير هذا... إنك بلا شك ماهرة في الخطابة واللعب بالألفاظ لأخذ مجامع قلوب من حولك... والتضحية التي تنادين وتلعبين بها كوتر حسّـاس، ما هو إلا وجه آخر لثورة بديلة تعلمين حقيقتها جيدا كما أعلم أنا... إنك بكل بساطة تتطلعين إلي زعامة مزعـومة، وتريدين التخلص من باقي الأحزاب والمنافسين بحركة بارعة... ومصلحة الجميع إلي الجحيم... أليس كذلك؟
ارتعشت نار الحريق وقالت لزعيمتها بصوت ذليل:
- حاشا لله... إنك تظلمينني يا مولاتي... لم يدر بخلدي هذا قط... كل ما في الأمــ...
تجاهلتها نار قدس الأقداس وهتفت للجميع قائلة:
- إن سلبيات ثورة غير مدروسة سوف تكون رهيبة... وإذا فشلت فسوف تكون وبالاً علينا جميعا... بل ان عرش الكرامة والحرية الذي تنادي به نار الحريق سيهتز... وفكرة الانسحاب ساذجة للغاية، فالإنسان يملك البديل... أنسيتم الكهرباء التي احتلت أماكن النار في كثير من متطلباته؟!
عادت نار الحريق للحديث بصوت واثق وقالت لها بعناد:
- مولاتي... لنترك المسميات جانباً... فنحن كـفيلون بالكهرباء تلك.
والتفتت إلي الشرارة لحظة قبل أن تدور ببصرها لمن حولها وهي تقول:
- فشرارات الماس الكهربي كفيلة بردع الكهرباء، وكتم أنفاسها وحـرق خـطوطها في أي مكان.
ثم عادت ونظرت إلي زعيمتها وهي تكمل قائلة:
- وإذا كانت فكرة الانسحاب محفوفة بالمخاطر، ففكرة ثورتنا وسيادتنا للأرض مضمونة... ستكون ثورة مدروسة بكل المقاييس، ولن تفشل أبدا... إن كل حريق يشتعـل يا مولاتي في أي مكان علي هذه الأرض ما هـو إلا ثورة صغري منا، ثورة مصيرها الإخماد والفشل في النهاية لكونها قامت بعشوائية... ولكنها تحصد في كل مرة أي شيء... الأخضر واليابس، وحتي الأرواح، فما بالنا بثورة منظمة تنفذها كل نيران الأرض.
همـّـت نار قدس الأقداس بالكلام، إلا أنها سكنت وتركت نار الحريق تعاود حديثها قائلة:
- أما لهذا الهوان الذي نحياه من نهاية؟!... هذا ليس لساني فقط، ولكنه لسان حال الكثيرين هنا في المجلس، حتي من عارض فكرة الثورة قولاً يؤيد معي أن الهوان في حياتنا حقيقة لا خيال... وهذا الهوان سيطول الجميع... حتي... حتي أنتِ يا مولاتي.
صاحت بها نار قدس الأقداس بجنون وهي تقول:
- اصمتي... حذار ثم حذار أن تتعدي حدودكِ معي.
ثم تماسكت وخطبت في الجميع بنبرة قوية ممتزجة ببعض العنف قائلة:
- إذا كان كلامي السابق لا يعجب البعض، فهذا مجلس شوري، وسنري ما هو الحل الآن... الثورة كما يقول عنها الثائرون... أم نلفـظه ونري حلاً آخر... وسأبدأ بنفسي... أنا أري أن نبحث عن حل سلمي... إذا تخطي الإنسان حدوده... العقل يقول هذا... والآن... لنسمع الآراء.
نار الحطب:
- الثورة هي الحل.
نار الحريق:
- الثورة طبعا، فقد تخطي الإنســ...
قاطعتها نار قدس الأقداس بصياح غير معهود قائلة:
- أريد الرأي فقط وكفانا تفسيرا... ألا تفهمين؟!
ألجـم الصياح نار الحريق التي صمتت مرغمة، وازداد توهـجها أكــثر وأكـثر، وتابعت باقي النيران إبداء الرأي...
نار الشمعة:
- الحل السلمي هو صـوت العقـل.
نار عود الثقاب:
- حل سلمي.
نار لهب المعمل:
- الثورة.
نار الفرن:
- الثورة أولا وأخيرا.
الشرارة:
- رأيي أن...
قاطعتها نار الحريق بفظاظة قائلة:
- ليس لك صوت يا صغــيـ...
صاحت نار قدس الأقداس في نار الحريق بنفاذ صبـر وقالت لها مقاطعة:
- كفي تشتيتاً لنا يا نار الحريق!... الشرارة عضو منا... ولها حق التصويت مثلك تماما... وإلا ما كانت حاضرة هنا في هذا الاجتماع.
اهتزت نار الحريق بغضب، وزاد توهجها، ولكنها سكنت مرغمة وهي تغمغم:
- اللعنة!
واصلت الشرارة كلامها في خجل وقالت:
- رأيي... الثورة... لا تناسبني... أري الحل السلمي أفضل.
كررت نار الحريق غمغمتها ولكن بصوت أعلي قليلا:
- اللعنة... اللعنة.
التفتت لها نار قدس الأقداس للحظات فعادت لسيرتها السابقة الساكنة، ثم تحولت الزعيمة للجميع وقالت بهدوء:
- أري أن الحزبين... عفواً... الفريقين متساويين... ولا سبيل إلا إلي رأي آخـر يرجح كفة أي منهما.
اعترضتها نار الفرن فجأة وقالت بتهور:
- وكيف لنا أن نعلم بحياد الآخر وانه ليس مدسوساً؟!
التفتت لها نار قدس الأقداس بحدة، وتوهجت داخل إنائها الذهبي وهي تصرخ فيها قائلة:
- ويحك!... أتشكين في اقتراح ونزاهة زعيمتك يا نار الفرن؟!
انعقد لسـان نار الفـرن ولم تستطـع النطـق، فـردت عـنها بسـرعة نار الحـريق مدافـعة بحـماس وقالت:
- إنها لا تقصد، ولكن...
قاطعتها نار قدس الأقداس بعد أن التفتت لها وقالت محتدة:
- هل بالنيابة عنها تردين يا زعيمة؟!
وانتقلت ببصرها بين أنصار قيام الثورة الواجمين وقالت لهم بحـسم:
- تقصدون أم لا... هذا هو الحـل الوحـيد...
ثم صمت الجميع فجأة... ففي بداية ممر المعبد الموصل إلي قدس الأقداس، حيث الاجتماع المنعقد، كانت هناك شعلة من نار تقترب في هدوء... تراءي إلي مسامع نيران المجلس صوت طقطقتها الهادئة، فران صمت مطبق علي الكل، وقد انصبت كل أنظارهم إلي نهاية الممر، حيث انعكس توهج الشعلة القادمة علي جدرانه... وظهرت الشعلة أمامهم عند مدخل القاعة وتوقفت... بادرتها نار قدس الأقداس قائلة بترحاب:
- أهلا... جئت في الوقت المناسب أيتها الغريبة.
لم ترد الشـعـلة الغامضة وظلت علي حالها، وقد اتجهت كل الأبصار إليها... فبادرتها نـار قـدس الأقداس مجدداً، محاولة لفت انتباهها وقالت لها:
- نريد رأيك في شيء هام، قبل الخوض في سبب مجيئك...
كان توهج تلك الشعلة فريد، فقد اختلط اصفرار لهبها بلون أسود مائل للاحمرار... والعجيب أن هذا السواد كان يتراقص بوهج لافت، وكأنه مجموعة أجساد هلامية تتلظي في السعير... ظـلت تلك الـزائـرة صامتة، وإن دارت ببصرها بين الجميع دون أن يبدر منها أي بادرة... تجاهلت نار قدس الأقداس هذا التصرف المريب وأكملت لها علي أمل كسب توددها وحسم الجلسة وقالت:
- فقد تناقشنا في أمر مصيري، وأدركتنا الفرقة ثم...
قاطعتها الشعلة الغامضة أمام ذهول الكل وقالت لها بثبات:
- أتركوا ما لا تعـلمون... إلي من يعـلمون.
تزايدت نظرات الرهبة لتلك الشعلة، خاصة بعد جملتها المقتضبة الغامضة تلك... وسرعان ما قالت لها نار قدس الأقداس متسائلة في تعـجب:
- لا نفهم!... ما هذا الذي لا نعـلمه؟!... ومن الذين يعـلمون؟!... بل ومن أنت ِ؟!
ردت الزائرة بصوت وكأنه آتٍ من الأعـماق قائلة:
- أنا فاعلة خـير... وخـير لكم أن تنبذوا فكرة التمرد، وأن تجعـلوا السـلم خياركم... فليس الكفاح مجالكم الآن...
انصرفت النيران من قاعة قدس الأقداس، بعد أن رجحت كفة الحل السلمي، وحتي إشعار آخـر لتهدئة المعترضين وأنصار الثورة... وبقيت نار قدس الأقداس داخل إنائها الذهبي تتراقص في هدوء ونشوة ... وها هو الهزيع الأخير من الليل يشرف علي الانتهاء، عندما خرج من المعبد شخص يتشح بالسواد يتمتم بقوة:
- اتركوا الانتقام لأهله... فهم خبراء فيه خبرة الدهـر.
ردّد الصدى وراءه بتكرار متسلسل مخيف:
- خبرة الدهـر... خبرة الدهـر... الدهـر... الدهـر...
تلفت الكائن يميناً ويساراً، وقد التمعت عيناه بوهج مارج من نار قبل ان تبتلعه الظلمة.
( تمت )