داخل أحد المعابد العتيقة المعبقة بالبخـور، جلس أحد الأشخاص بتضرع أمام واحد من الـتمـاثـيل المقدسة المنتشرة بأرجاء المكان، وحدثه شاكياً في مرارة بصوت باكٍ متهدج:
- ولدت فقيراً... كسيحاً... قبيحاً... اضطررت إلي السرقة لأطعم نفسي، وإلا كـنت هــلكـت جوعاً منذ زمن... لا أجد سوn هذا السبيل لأظل علي هامش تلك الحياة المقـفرة... حاولت أن أفعل الخير ولكن ليس بيدي أي شيء... لا أتعمد إيذاء أحد... حتي في سرقاتي أتعمد أن أحصل علي فائض من أسرقه، وبأنه لن يتأذى بفعلتي .. لا أجد من يعطني ولو حتي كسرة خبز أو شربة ماء... الكل يهابني لمظهري المنفر... الكـل يعـتـقـد أني روح شريرة تكفـّـر عن نفسها... حتي نظرات العطف والشفقة لا أحظي بها... أبسـط حـقـوقي كإنسان لم أحصل ولو علي جزء يسير منها.
ابتلع ريقه وبلل شفتيه الجافتين بطرف لسانه وأكمل:
- أنا لا أبرر السرقة فأنا أعلم أنها محرمة... ولكن... ما حل معضلتي؟!... لقد فكرت أكثر من مرة أن أقتل نفسي، ولكني أكره الموت بنفس قدر كرهي للحياة.
سكت للحظات وهو ينظر للتمثال بعيون جاحظة لامعة وسأله ببطء:
- ماذا أكون في نظر الآلهة؟
اقترب أحد الكهنة وأشعل مزيداً من البخور أسفل التمثال القابع أمامه، فتزايدت كثافة الدخان وحجبت للحظات عيون الصنم عن نظـر مريده الذي أكمل تساؤلاته:
- هل أنا روح شريرة فعلاً كما سمعت؟!... وإذا كان هذا صحيحاً فهل لي فرصة لحياة أفضل وأطيب في المرة القادمة؟!... هل وُفــّـقـت في حيواتي السابقة؟!... ومتي ستتطـهر روحي؟!... هل هذه آخر فرصة؟!... هل أتساوي مع غيري ممن أعطوا حياة الغني والصحة؟!... هل أتساوي مع الحكماء؟!... هل لي في فرصة لأكون مثلهم أم أنني استنفدتها من قبل؟!
أمعن النظر إلي التمثال عبر الدخان الكثيف، منتظراً الشعور بأي إجابة أو بارقة أمل تسطع داخل نفسه المظلمة... نكـّس رأسه بوهن وبكي... تساقطت الدموع من عينيه المجهدتين إلي الأرض أسـفـل التـمثـال... حيث البخور المشتعل... صوت احتضار الجمر تحت سيل عبراته أيقظه من غفلة سريعة احتوته... وانقشع الدخان كاشفاً عن وجه التمثال بوضوح وجلاء... رفع رأسه إليه حيث رأي النظرة الجامدة فتساءل بنفاذ صبر:
- هل تسمعني؟!... لماذا لا تجيب؟!... كلماتك الحكيمة التي يحفظها ويرددها الكهنة لا تعطني الجواب الذي أنشده... هل مكتوب لي النجاة والراحة حاضراً أو مستقبلاً؟!
انتظر الجواب... ولكنه كان الصمت المطبق... أدار جسده ببطء باتجاه باب المعبد... زحف علي الأرض بصعوبة... وقبل أن يخرج من الباب نظر خلفه حيث التمثال الرابض في سكون... وتساءل داخل نفسه (متي أعلم؟... متي؟!)... أكمل زحفه البطيء حتي أصبح خارجاً في الهواء الطلق... وهنا لمح رجلاً قعيداً ضئيل الجسد علي كرسي متحرك... استشف من نظرات عينيه الخامدة والجامدة أنه ضرير... كما أدرك من هيئة ملابسه واتجاهه ناحية أحد المساجد أنه مسـلم علي غير عقيدته... كان الرجل المسلم يحرك كرسيه بإحدى يديه الواهنتين في حين كانت اليد الأخرى تمسك بالعصا لتتحسس معالم الطريق... رأي بعض الطعام معـلقاً في كيس علي مقبض كرسي هذا الرجل، فإتخذ قراره السريع بالسرقة عن طيب خاطر... زحف بسرعة ناحية الرجل المسلم قبل بلوغه المسجد، وعند اقترابه وجده يقف بكرسيه ويضع العصا بجانبه ثم يمد كفيه لأعلي قائلا: (الحمد والشكر علي ما أنا فيه... اللهم عافـني مما ابتلي به غيري)... وهنا تسمّر الرجل للحظات متعجباً، وأعلن عن وجوده بجانب الرجل المسلم وسأله بنوع من الحدة:
- علي ماذا تشكر وتحمد يا رجل؟!... أيوجد بلاء أكثر مما أنت فيه؟!
خفض المسلم كفيه والتف برأسه ناحية الرجل مبتسماً وكررها متعجباً:
- الشكر علي ماذا!
ثم سكت للحظات قبل أن يسأله متشككاً:
- أمسلم أنت؟
رد الرجل من فوره:
- لا.
عاودت البسمة وجه المسلم وهو يقول له:
- إني أشكر ربي علي وجودي ذاته وقدرتي علي طاعته... أشكر ربي علي انه خلق لي قلباً راضياً، وجسداً علي البلاء صابراً... أشكره علي وقوف الكثير من خلقه بجانبي ومساعدتهم لي بشتي الطرق.
صمت الرجل ولم ينطق، فأكمل المسلم وهو يحرر كيس الطعام من كرسيه ويمده ناحية الرجل وهو يقول:
- هل لي في أن تساعـدني بالثواب وتعـطي هذا الطـعام لمن تراه يستحـق... فـكـلـنا بـشــر ومن واجبنا مساعـدة بعـضنا البعـض مهما اختلفنا.
أمسك الرجل بكيس الطعام وقد تحجرت قسمات وجهه وظل علي صمته، ثم قال له المـسـلم قـبل أن يتحرك بكرسيه لداخل المسجد:
- إني أمر من هنا كل يوم عند الفجر، وأوزع بعضاً من خيرات ربي التي أعطاني إياها من غير حول لي ولا قوة... السلام عليكم.
وعند اختفاء المسلم داخل المسجد أجهش الرجل بالبكاء الحار، ثم زحف سريعاً واختفي، تاركاً كيس الطعام علي قارعة الطريق.
( تمت )