تنحنح المذيع اللامع بعد أن هدأ تصفيق الجمهور من حوله، وبدأ في الكلام موجها حديثه على الهواء مباشرة إلى المشاهدين من خلال الكاميرا القابعة أمامه قائلا بحماس:

- مساء الخير مشاهدينا، وكل عام وأنتم بخير... نقدم لكم اليوم أولى حلقاتنا من برنامجكم التليفزيوني الجديد (من الفائز؟).

سكن للحظات ثم غير من وضعية جلوسه بحِرَفية مصوبا نظره لكاميرا أخرى وقال مكملا:

- برنامج (من الفائز؟) يعتبر مسابقة ثقافية في المقام الأول... فهو يختبر معلوماتكم بمعنى الكلمة... لا مجال هنا للحظ بتاتا... أما الجوائز فقيمة جدا... ونحن نعي ما نقول... المهم الإجابة الصحيحة على السؤال المطروح على المتسابق أو المتسابقة... لا توجد اختيارات من متعدد... أو أي وسيلة مساعدة بخلاف عقولكم وما بها من معلومات... ما نريده هو الإجابة السليمة والدقيقة على سؤال واحد فقط... إذا لم يستطع المتسابق الإجابة عليه أو أحس بأنه قد يجيب إجابة خاطئة؛ فيحق له أن يطلب سؤالا آخر... ولكن... في تلك الحالة ستهبط الجائزة إلى النصف... وإذا لازمه عدم التوفيق مجددا يطلب السؤال التالي... فتهبط الجائزة إلى الربع... وهكذا... ولكن إذا تلفظ بالإجابة الخاطئة يخرج فورا من المسابقة.

 

والتفت إلى الجمهور مبتسما وهو يكمل بثقة :

- ونكون قد كسبنا مشاركته معنا.

صمت المذيع وقد دارت الكاميرا بين الجمهور لبيان الملامح وردود الأفعال التي ساد عليها الجمود مع بعض الهمهمات، فقال بلباقة بعد أن عادت الكاميرا لوجهه:

- أرى ملامح دهشة وأسمع عبارات احتجاج من صعوبة المسابقة... ولكن سيزول كل هذا إذا علمتم بأي مبلغ تبدأ مسابقتنا تلك.

يصمت، فتتصاعد صيحات تخمين من الجمهور حوله: (مليون)... (مليونان)... (خمسون ألفا)... (خمسمائة وعشرون ونصف)... (علبة شوكولاتة)... (مزحة وحسب)... (تذكرة قطار)... (صابونة)... (كتاب)... (ظهورنا في التلفاز)... تتخللها بعض الضحكات والابتسامات... وبعد أن هدأت التعليقات ابتسم المذيع وهو يجول ببصره بين الجمهور، ثم التفت بغتة إلى الكاميرا التي أمامه وقد علت ملامحَه جديةٌ مفاجئة وهو يقول بقوة:

- ستبدأ مسابقتنا بمبلغ مليار دولار.

دوت الصيحات من حناجر الجمهور، وسادت همهمات قوية ظهرت جليا على شاشة الكاميرا التي انتقلت بينهم لتنقل ردود الأفعال المتباينة، والتي ساد عليها الاندهاش وعدم التصديق بكـافة أشكالهما... فلم يتوقع أحد هذا المبلغ الضخم.

- والآن سنبدأ بالمتسابق الأول الذي اختارت أحجار النرد رقمه... تفضل يا 168.

قالها المذيع وهو يتحسس بسبابته سماعة أذنه التي تصله بمُعدي البرنامج، فتقدم متسابق شاب من وسط الجمهور الذي بدأ بالتصفيق الحاد... رحـّب به المذيع وأجلسه على كرسي شاغـر أمامه، ثم سأله بتودد:

- كيف الحال؟... مستعد؟

ظهر ارتباك واضح على قسمات وجه المتسابق الذي التفت حوله في توتر ثم أجاب:

- نعم... نعم... مستعـد.

التقط المذيع مجموعة من الأوراق الكرتونية كانت موضوعة بجانبه ولا يظهر منها للمتسابق أو الجمهور ولا حتى للمشاهدين بالتلفاز سوى شعار البرنامج بظهرها... وهي بالطبع المكتوب على وجهها أسئلة المسابقة.

- والآن ستبدأ المسابقة بالسؤال الأول... وقيمته إذا أجبت الإجابة الصحيحة... مليار دولار... خالصة الضرائب.

التمعت عينا المتسابق وفتح فمه لا إراديا... فهو قطعا يتمنى العودة لمنزله بهذا المبلغ... بل بهذه الثروة القومية... ليس هو وحده... فنحن نعلم تلك الحقيقة بالطبع.

- السؤال الأول... يقول...

تسارعت دقات القلوب داخل صدور الجميع... وبدا وجه المتسابق وكأنه على وشك الإصابة بأزمة قلبية من فرط اضطرابه.

- ما هو اسم عامل البناء الذي وضع حجر قمة الهرم الأوسط الخاص بالملك خفرع في صحراء الجيزة بمصر؟

اتسعت عيون الجميع دهشة... وسقطت الفكوك وتدلــّت... كما ارتسمت ملامح البلاهة على الجميع دون استثناء... وعادت أصوات الهمهمات بين الجمهور، فرفع المذيع يده بحزم وقال بصرامة بادية:

- أرجو الصمت من فضلكم... لقد بدأت المسابقة ولا نريد أي تشتيت لذهن المتسابق...

صمت قليلا وتحولت ملامحه إلى اللين، وأكمل بخبث مبتسما:

- وحتى لا يساعده أحد ويلقنه الإجابة بصورة أو بأخرى.

ضحك الجميع حتي دمعت الأعين من عجب هذا الموقف... وبعد دقيقة من التسمــّر وعودة الجمهور لهدوئه نظر المتسابق للمذيع وقال له بنوع من التردد:

- أطلب السؤال التالي... أنا لا أعلم إجابة هذا السؤال.

تظاهر المذيع بالحزن وهو يقول:

- طار المليار دولار.

قلـّب الورق بيده ووضع الورقة الأولى خلف باقي الأوراق، وبدأ يقرأ بعينيه مافي الورقة التالية كـنوع من زيادة التشويق للجمهور، وتحميل المتسابق المزيد من التوتر الممـزوج بأمـل غامض في أن يكون السؤال التالي في متناوله...

- السؤال الذي قيمته نصف المليار دولار... هـو...

توتر الجميع... وشحب وجه المتسابق حتي أصبح كوجوه الموتى... وسأله المذيع كمن يلقي عليه بقرار إعدامه:

- توماس ألفا إديسون... عند اختراعه للمصباح الكهربائي... في هذا اليوم المشهود تحديدا الذي ختم فيه اختراعه بنجاح، والذي لن أسألك عن تاريخه حتى يطمئن قلبك... في هذا اليوم... ما هو عدد الأشخاص الذين ماتوا بسبب حوادث الطرق في أمريكا؟

تكررت مشاهد الذهول والدهشة والبلاهة... وأصبح المتسابق أصفر الوجه... متحجر اللسان... زائغ البصر... إن قرار إعدامه سوف يكون بالتأكيد أيسر عليه مما هو فيه.

- السؤال التالي من فضلك... هذا سؤال عسير.

- طار النصف مليار دولار... والسؤال الذي قيمته ربع مليار دولار هو...

قــّلب الورق مجددا ونظر للورقة التالية وقال:

- جنكيز خان... قائد مغولي شهير... صِف وجبته الغذائية الأخيرة قبل موته.

- السؤال التالي.

- طار الربع مليار دولار... والآن سؤال المائة والخمسة والعشرين مليون دولار... هناك مراسل برنامجنا الآن يقف أمام موقف السيارات الكائن بنهاية الشارع الذي يقع به هذا الأستوديو... ويخاطبنا حاليا باللاسلكي... قل لي... كم عدد السيارات ذات اللون الأبيض المتوقفة بالمرأب الآن في تلك اللحظة؟

- ههه... السؤال التالي.

................................................................................................................

وتتابعت الحلقات... وتوالت الأسئلة...

- كم خروفا يا سيدتي تم طبخه على الفحم بالمطاعم الأسترالية المسجلة والمرخصة منذ عام 1943 يوم 21 يناير فجرا بتوقيتنا وحتى 23 يونيو ظهرا عام 1975 بتوقيتنا أيضا؟

................................................................................................................

- عندما هبط نيل آرمسترونج على سطح القمر كأول بشري يقوم بذلك في التاريخ... لحظة نزوله... كم كان ضغط دم وعدد ضربات قلب الرئيس الأمريكي وقتها؟

......................................................................................................................

- كم عدد أحجار سور برلين + أحجار سور الصين العظيم؟

......................................................................................................................

- كم عمر أول شخص مر من أمام منزل آينشتين عندما بلغ – الأخير طبعا – الستين من عمره؟

......................................................................................................................

- كم سؤالا يا آنسة تم الإجابة عليه الإجابة الصحيحة في مسابقات الفضائيات الأوروبية منذ عام 2003 ليلة رأس السنة بتوقيتنا وحتى...

ونظر في ساعته وهتف بها:

- وحتى الآن.

هتفت الفتاة بدورها بنفاد صبر وقالت للمذيع غاضبة:

- الإجابة في المشمش على ما أعتقد.

......................................................................................................................

وهكذا... لم يفز أي شخص ممن تقدموا للمسابقة العجيبة... وإستمرت محاولات الناس اليائسة... لعل وعسى يفلح أحدهم في الإجابة على أي سؤال... حتى سؤال الألف دولار... ولكن كانت محاولات فاشلة... حتى أن أحد المتسابقين في إحدى المرات هجم على المذيع بحجة سرقة الأوراق التي بها الأسئلة ليعلم الإجابة حتى لو سجن بعدها... وقام شخص آخر بسب المذيع... وهناك من قام وترك الحلقة دون استئذان... وقام أحد المتسابقين بالرد على أحد الأسئلة على الهواء مباشرة هاتفا أمام الكاميرا:

- من يجب على هذا السؤال سأعطيه نصف المبلغ.

لذا كان هدف السواد الأعظم من المتسابقين هو الظهور فقط في البرنامج كما قالها أحدهم مازحا في بداية المسابقة... الظهور... لا أكثر ولا أقل... وكان هذا في نظرهم هـو المكسب الأكيد... والوحيد... وتزايدت نسبة المشاهدات على القنوات الفضائية لرؤية رد فعل المشاركين المتفاوتة وسماع أعاجيب الأسئلة.

وفي إحدى الحلقات كان المتسابق الذي وقع الاختيار عليه أشيب الشعر... رزين الملامح... هادئا... ثابت النظرات... وقد جلس أمام الكاميرات وتحت الأضواء بعـزة نفس، وبعد الترحيب به عاجله المذيع اللامع بقوله المعتاد:

- والآن نبدأ بسؤال المليار...

اعتدل الرجل في جلسته وبدا عليه التركيز العميق والاستعداد التام... أما الجمهور فبدا أن انفعالاته قد تبلدت وهمدت منذ الحلقات الأولى... فما فائدة القلق على سؤال... بلا جواب... ما الغرض من رؤية مبلغ من المال... في الأحلام.

- السؤال هو... ما اسم سابع شخص استخدم المناديل الورقية في التاريخ البشري المدون؟

نظر الرجل للمذيع بأعين معاتبة... وكأن لسان حاله يقول (يا رجـل!... أهــذا سؤال بالله عـليك؟!)... مرت دقيقة صمت، وكأن نظرات الرجل قد ألجمت المذيع والجمهور على السواء... بعـدها عـلت وجهه ابتسامة صـافية وقال بعـينين ثابتتين:

- الحقيقة.. الله أعلم.

نظر له المذيع وقد علت قسمات وجهه دهشة عارمة، وبادر ضيفه صائحا:

- احذر!... أنت تجيب الآن!... يمكنك أن تطلب السؤال التالي.

اتسعت عينا الرجل ورد عليه من فوره غاضبا:

- قلت لك... الله أعلم... لا يوجد أعلم منه سبحانه وتعالى ليجيب على أسئلتكم تلك!

تردد المذيع وتلعثم وقال له بهدوء مصطنع:

- إذن هذه إجابتك؟!

- نعم.

- الإجابة النهائية؟!

- نعم يا سيدي!... أيوجد خطأ فيما قلته؟!

زاد توتر المذيع وهو يضغط على سماعة أذنه، وهي إشارة إلى إرتباك طاقم البرنامج بأسره... وبدأ الجمهور في التصفيق الممزوج بتعليقات متداخلة وصفير... ثم سـاد هتاف مـوحــّد بينهـم (الله أعلم... الله أعلم... الله أعلم... الله أعلم)... ابتسم المذيع مرغما ورفع يده بحزم طالبا الهدوء من الجميع... اتسعت ابتسامته بعد أن ساد السكون، ونظر للمتسابق القابع أمامه بهدوء وحذر، ثم هتف به:

- مبروك... معنا أول فائز بالمليار دولار.

انتفض المتسابق فرحا رغم سنه ووقاره، ثم رفع كفيه للأعلى شكرا وتضرعا لله تعالى... والتهبت القاعة بالتصفيق الحاد والصراخ والبكاء... وانتهت المسابقة بأول فائز يحصل على المبلغ الأقصى... ولم تظهر حلقات جديدة من هذا البرنامج.

( تمت )

 

 

التدقيق اللغوي: حميد نجاحي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية