منذ انصرافه من عند صديقه شعـر بأنه ليس علي ما يرام، وحين عاد إلي بيته أيقـن أنه ليس طبيعـياً، وعندما دخل الحمام ونظر للمرآة تأكد أنه ليس وحيداً... تمعـن النظر لصورته علي السطح المنعكس فتراءت له خيالات تطوف خلفه بعشوائية... أطياف سوداء تتحرك كقماش شفاف يلاعـبه الهواء... لم يصدق ما يراه واعتبره هلاوس إرهاق أو انعكاسات ضوئية تأتي من الشارع خلال شباك الحمام... إلتفت بغته للوراء ليري الأطياف قد تشكلت بهيئة ضبابية لرجل أسود ذو ملامح بشعة، فصرخ بجنون لا بسبب ما هو ماثل أمامه ولكن لأن الكهرباء قد قطعت وأصبح في الظلام مع ما رآه... سارع بفتح الباب ولكن يد قوية خشنة أطبقت علي رسغه... إنتشل يده مرتداً للوراء وواصل الصراخ بجنون، ثم شعر بأن هذا الكائن قد أمسكه بعنف من كتفيه ونظر في وجهه مباشرة، فرآي جمرتين متوهجتين تقتربان منه في سرعة ثم سقـط فيهما ووقع بقـسوة علي أرض متوهـجة، هي أرض جهنم علي ما يظن.
أخذ يعب أنفاسه عباً حين استيقظ من كابوسه وهو ملقي علي الأرض بجوار سريره، ثم قام بصعوبة وهو ينظر بريبة إلي باب الحمام المغلق أمامه... كانت أنفاسه تتلاحق بسرعة ونبضات قلبه تقرع كالطبول... أغمض عينيه للحظات وهو يستجمع قواه ثم انتفض واقفاً واتجه للحمام للاغتسال... فتح بابه وأضاء النور، ترك الباب ولم يوصده ودلف في تردد حتي وقف أمام المرآة... نظر في خوف إلي صورته الشعثاء المنعكسة، ثم فتح صنبور المياه وقام بغسل وجهه بقوة لعـله يزيل آثار هذا الكابوس المزعج... التفت إلي المنشفة ليلتقطها فلم يجدها معلقة علي حاملها... كان أثر المياه في عـينيه فـلم يبصر جيدا... لمح المنشفة أمامه معـلقة في الهواء فارتد إلى الوراء مصعـوقاً... دلـّـك عينيه بقبضتيه سريعا ليتبين ما يحدث أمامه... فوجد يداً كالفحم ممسكة بالمنشفة في الهواء... يد فقط محلقة أمامه... وفي وسط الحمام... اتخذ قرار الفرار عندها حررت اليد المنشفة وسارعت بغلق باب الحمام أمامه في جزء من الثانية... احتبست صرخة في حلقه وبدت علامات فزع مريعة في عينيه... ولكنه ظل صامتاً مرتعشاً... ظلت اليد معلقة في الهواء وفجأة ظهرت عينان معلقتان كالجمرتين أمامه وهنا صرخ مرددا: (يا إلهي!... يا إلهي!... لم يكن حلم إذن!!)... وحاول مرة أخري الخروج من الباب ولكن اليد أمسكت رسغه بقوة قبل أن يهم بفتح الباب فقفز للوراء متقززاَ من ملمس اليد وصاح بانهيار: (من أنت ؟!... وماذا تريد ؟!)... تراءي أمامه تدريجيا ظهور هذا الكائن بالكامل... فظهرت ذراع اليد أمامه ثم الكتف والجذع والذراع الأخرى، ثم ظهرت ساقين بشعتي المظهر تقفان علي أرضية الحمام... وبدت رقبته ورأسه كأنهما تتكونان وتتشكلان أمامه من اللاشيء حتي ظهرت الجمرتين في منتصف وجه كامل بشع... كان الكائن مكون بالكامل مما يشبه الفحم... فارع الطول... مفتول العضـ... مفتول الفحـم... كان كمن هرب من الجحيم تواً... فهذا المخلوق لا يصلح إلا للنار... حتي أشنع الكوابيس تعتبر هذا الشيء مبالغا فيه... تكلم الكائن لأول مرة أمامه من خلال فم يقبع داخله جمر مـتـقـد وقال: (أنا رفيقـه)... كان صوته أشبه بصوت الماء المغلي إذا صح التشبيه... كاد أن يغـشي عليه ولكنه تحامل عندما أيقـن بأنه لا مـفر إلا إذا قرر هذا الشيء تركه... فسأله بفـم شـبه مشـلول: (ر... رفـيـ... رفيـق مـن؟!)... أمسك الكائن بمقبض باب الحمام وأجابه بنفس الصوت المريع: ( رفيق صـديقـك)... فقال له من فوره برعـب: (صـديقي من يا هذا ؟!)... زمجر الكائن وضرب باب الحمام فتهشم فورا، وتحول جسده بالكامل لجـمر أحمر متقـد، وقال لفريسته المسكينة بغضب هـادر: ( قـل لي يا سيدي... اختم كل جملة تخرج من لسانك النيء بكلمة سيدي)... سقط المسكين علي الأرض مغـشيا عليه فما كان من الكائن إلا أن أمسك المنشفة الملقاة بجانبه وحمله بسهولة وألقاه بعنف في البانيو المليء بالمياه، فانتفض الأخير في رعـب وصرخ بجنون عندما وقعت عيناه مجددا علي الكائن ثم عـاد لإغــمائه.
استيقظ من إغماءته مذعـوراً عندما وجد نفسه في صالة منزله راقدا علي الأرض، وهذا الكائن مستقر علي السقف أعلاه تماما دون أي اعتبار لقوانين الجاذبية... كان هذا الكائن يحملق فيه بعيون ملتهبة حمراء بشعة... أوشك علي الإغـماء مجدداً ولكنه تماسك وجلس علي الأرض مرتعـشا منعدم القوي، مثل الذبابة الملتصقة بخيوط العنكبوت الموشك علي التهامها... مالت الأرض وماجت به للحـظات سمع فيها تحرك الكائن حتي لمحه بجانبه علي الحائط... كان منظره يبعـث عن الرعـب والتقزز، ولكن مع مرور الوقت نجح في استجماع بعض قواه ورباطة جأشه... لمح آثارا سوداء منتشرة علي السقف والحوائط والأرض، فأيـقـن من أن هذا المخـلوق قد تمـكن من منزله وعـلم بأدق تفاصيله... ومخارجه... تماسك وهو يحـدث زائره البشع القابع بجانبه وقال له بصوت خـفيض:
- هل أنت جـن؟!
انتفض متذكرا وأكمل:
- يا سـيدي .
تألقـت أعـين الكائن وهو يقول له بنفـس الصوت المـريع:
- نـوع من الجـن يا أحمـق.
ابتلع إهانته مرغـما وهو يسأله بخـوف:
- هل تؤذي بني البشر يا سـيدي؟
ابتسم الكائن وظهـرت الحمـم داخل فـمه وقال:
- وهـل لنا سـوي إيـذاء البشـر.
بلع ريـقه في رعـب وسأله بنوع من الشجاعـة:
- أأنت شيطان يا سيدي؟!
ضحـك الكائن من فوره وقهـقـه بصـوت عـجيب ثم قال له:
- سؤال جـميل كنت أتوقعه منك يا عزيزي، ولكني سأترك الإجابة لتعرفها بنفسك أيها الطيني.
ثم توهـجت عـيناه وارتسمت ابتسامة بشعـة علي وجهه الفحـمي وقال له ببطء وتلذذ:
- لن أتـرك واقـعـك وأحـلامـك أبداً ما دمت علي سطح الأرض.
نظر له متعـجـبا وشرع في الحـديث غـير أن الكائن استوقفه بإشارة من يده وقال:
- لقـد كنت رفـيـق صديقـك لسنوات عــديدة حـتي...
سكت للحظات وهدأت حـدة توهج عـينيه وأكمل:
- حتي بدأ في شيء...
أطـرق برأسه علي نحـو يخالـف هـيئته الشـيطانية وقال:
- شيء أجـبرني عـلي اتخاذ قـرار تـركه.
ونظر إليه بغـتة وقد توهـجت عيناه مجـددا وهو يقول له في انفعال:
- وعندما زرته أنت اليوم... وجـدت بك العـجـينة المثلي للتلبس والاحتواء، خـاصـة وأنك لا تفعـل الشيء الذي بدأ فيه صـديقـك.
ثم ترك الكائن الحائط ببطء ووقـف علي الأرض دانياً من أذنه وهو يقـول له بنوع من التـحـدي:
- ولن تـفعـله .
تراجع المسكين مرعـوبا وسأله لاهثا مذعـوراً:
- فعـل مـاذا؟!... هـل قام صديقي الوغـد يا سيدي بتحضير إبليس نفسه؟!
ابتعد عنه الكائن ومشي علي أربع بهـيئة تـقارب الكلب ثم اتجه لباب الشقة وتأكد من إحكام غـلقه بأن ضربه بقـدمه الأمامية... التف للمسكين فـصـرخ له متوسلا باكـيا:
- ما الذي فعـله صديقي يا سـيدي؟!... وأنا خـادمـك فـي أن يعــود كـما كـان وتحت طوعك.
اقترب منه الكائن مجـدداً بعـد أن عـادت هيئته إلي السيرة الأولي ولكن بعـين واحدة في منتصف جـبهته وقال له بحـقـد دفـين:
- لـقــد بـدأ يـصـلي.