إلىروح المعلم محـمــد حـجوم، في ذكرى رحيله غرقا في فخاخ ثلوج جبال الريف بالمغرب.

كاليغولا : ...هي حقيقة بسيطة وواضحة تماما،ساذجة
نسبيا، ولكنها صعبة وثقيلة.
هيليكون : وما عساها تكون هذه الحقيقة، يا قيصر؟
كاليغولا : الرجال يموتون وهم غير سعداء .
مسرحية* كاليغولا*
ألبير كامو
النص الفرنسي، ص :26/27 الساعة الثانية عشر ليلا :

خشخشة المذياع تختلط وارتعاشات ضوء الشمعة الوحيدة لهذه الليلة. لسان الشمعة يحترق داخل دائرة ضوء باهت مقاوما طوق الظلام حوله. لم أعد أطيق النوم في هذه العتمة، فوق طاولات هذا القسم المبني على أنقاض مقبرة عتيقة في هذا الجبل المنسي… كم أخاف هذه القبور حوالي !
أخاف أن ينتفض أهاليها في يوم من الأيام. لابد أنني أزعجهم بحياتي بين موتهم… المدير، صباح هذا اليوم، عزاني في موت زميلي بدر الدين البدراوي وتمنى لي نقاهة طيبة ثم شرح لي صعوبة الحصول على معلم ثان يعوض زميلي المرحوم، ويقتسم معي أفواج تلاميذ هذا القسم/ المدرسة. المدير أوصاني بقليل من الصبر ثم صارحني بعدم إمكانية الإخلال بالسير العادي للمؤسسة وحذرني من مغبة تكرار المأساة :
"الحيوانات في هذه الأرض مجواعة".
أتساءل : لو خطر هذا على بال ذلك السجين الهارب على متن دراجة حارسه، ترى هل كان يحسب للغابة والظلام حسابهما ؟… ربما مثل هذه الحسابات هامشية وغير مجدية حين يتعلق الأمر بطلب الحرية. ولذلك انطلق الهارب من أسوار السجن المجاور تاركا وراءه رفاق السجن في ذهول ورعب يتهامسون في اليوم الموالي أطراف الخبر الجديد : عثور الحراس خلال المطاردة على نتف بذلة السجين الهارب متناثرة على أشواك الغابة حيث لازالت عجلتا الدراجة النارية تدوران ببطء في الهواء قرب آثار جسم آدمي تمرغ طويلا في دمائه قبل أن يندثر …

الساعة الثانية عشر ليلا :

نفخات الريح المتسلل من شقوق الحائط تعبث بلسان الشمعة. أحيط الشمعة بكفاي. دموعها تنزلق حارة، كبيرة على جوانبها لتجمد على بـــــرودة المنفضة. الشمعة تتضاءل بإصرار. أرش حول فتيل الشمعة حبيبات ملح للحد من ذوبانها. هذه شمعتي الوحيدة والليل مازال طويلا. الحقيقة أن الليل كان دائما طويلا. إنما الأمر كان أهون في السابق. لأننا كنا اثنين، معلمين.
كنا نعمل بالتناوب على هذا القسم المعزول بين هذه القمم الجبلية نربي أطفالا لا يتغيبون إلا أيام الأعراس والحرث والأمطار والفيضانات والثلوج والجنائز… أحيانا كان يأتي أحد الآباء ملتحفا كيس سماد فارغ ليتوسل الإفراج عن أطفاله حين تصادفهم نوبة مطرية قوية وهم داخل حجرة الدرس لأن الخنادق والوديان تفيض فتنقطع الطرق … قساوة الطقس كانت تجود علينا، من حين لآخر، بعطلة استثنائية فنطلق سراح الصغار ونغلق علينا باب القسم ونوافذه لجمع الدفء للمساء. نصفف الطاولات في شكل سريرين عاليين ثم نبسط عليها الأغطية. كأس شاي منعنع قرب الوسادة ضروري لكل دردشة أو نقاش. لكن ليالي الشتاء الطويلة كانت تستنفذ كل مواضيعنا. ولذلك أدمنا على القراءة، قراءة أدب السجون : بشر ينزلون بالمروحيات في معتقلات رهيبة ويتركون للثلوج. حتى إذا حاولوا الفرار، اعتقلوا ثانية واقتيدوا إلى حيث أريد لهم أن يقضوا بقية حياتهم… حكايات تتشابه كثيرا ومع ذلك كنا نقرؤها طول الليل. أحيانا كنا نقرأ نفس الرواية، في نفس الوقت، بصوت واحد. نرفع صوتنا عاليا لنقاوم الصمت والجنون. ذاكرة هذا القسم تشهد أن واحدا من كل معلمين يدخل عالم الحمق من باب هذه المدرسة.
الحياة والعمل بين القبور شيء رهيب: أن تدرس وترغد وتزبد بين بشر يرتاحون إلى الأبد. أموات في مكان ميت وزمان ميت. الصمت شامل. كل الأشياء بلا لسان، بلا صوت، بلا حفيف… ولذلك كنا نترك المذياع مشعولا طول الليل. لا ننام إلا على خشخشته ولا نحلم إلى على إيقاعها. تعلمنا، مع مر الليالي، كيف نحلم نفس الأحلام في نفس الليلة. نستعد للحلم قبل النوم : نحدد موضوعا بتفاصيله وألوانه… وفي المنام، تتوحد مخاوفنا وآمالنا بحلم الهروب من المقبرة إلى حيث يقيم الأحياء… حلم يتكرر ويتكرر إلى أن استيقظنا ذات صبيحة على عزلة جديدة : الباب لا تنفتح.
دفعناها بكل قوانا. ولا نتيجة. اقتلعناها من إطارها كاملة : يا للبياض!… الثلج حتى الركبة، الثلج عتبة بيضاء لا نهائية. صفحة بيضاء تطمس نتوءات القبور حول القسم وآثار العيون والخنادق والطرقات… طالت مدة الثلج وارتفع تهديده بضع سنتمترات فوق الركبة. أصبحنا نخاف أن تغلق علينا الباب بالثلج وتنفذ ذخيرتنا من الغذاء… كان أملنا هو أن يذوب الثلج بعد أربع وعشرين ساعة لكن الأيام ظلت تمر متشابهة:ليل بلا بدر و نهار بلا أفق يفصل بياض الأرض عن بياض السماء.
وفي لحظة ما من يوم ما، لاحت في البعيد خيالات صغيرة حية تخترق البياض وتركز العصي على طول المسلك : أهل القرية، تلك طريقتهم في التأكد من عمق الثلج قبل أن يتقدموا. يغرسون العصي أو القصب في الثلج ويتركونها مغروسة ليتذكروا ممر العودة إلى بيوتهم. بدون تلك الطريقة قد يسقطون بدورهم في فخاخ الثلج. في الخنادق والحفر التي يخفيها تحته. لكن أكثر ضحايا الثلوج هم غرباء لا يعرفون جغرافية المنطقة. وحين ينجلي الثلج، تحفر لهم قبور قرب القسم ثم يدفنون دون مراسيم.

الساعة الثانية عشر ليلا :

الشمعة تتناقص. الدموع الكبيرة تسيل ساخنة على جنباتها لتبرد على سطح المنفضة وتتجمد. الملح غير مجد. لا شيء يمنع الشمعة من الذوبان. هي تقترب من نهايتها، احتراقا. لكنها لا تثير رائحة الحريق. أكره الروائح القوية. حتى رائحة هذا الجير الطري المشخبط على حيطان القسم، تزكمني. تخنقني. تلهب رائحة الحريق في ذاكرتي. وعوض أن تخفي آثار الحريق تحت ضربات الفرشاة، تعود بها من جديد إلى الذاكرة …
كنا اثنين. معلمين. كنا نستيقظ باكرا ونعد وجبة الفطور هنا، في هذه الحجرة، ونتناولها على عجل فوق الطاولات. نعد طاجين الغذاء ونتركه على موقد الغاز في آخر القسم. ننظف المكان قبل دخول التلاميذ ونعيد ترتيب الطاولات في مكانها ثم نجمع أفرشتنا لنخفيها تحت الطاولات عملا بتحذير الإدارة من عواقب السكن داخل حجرة الدرس. في الحقيقة، لو قدر للمدير أن يتحمل مشقة المشي ست ساعات على الأقدام ليزورنا في عالمنا هذا، لوجدنا نطبخ في حجرة الدرس أيضا …
كنا نطبخ خبزنا بأيدينا.بدر يعجن داخل القسم وأنا أطبخ خارجه. أما في فصل الشتاء، فأطبخ الخبز داخل القسم محتميا من البرد والمطر : أضع ثلاث حجرات متكافئة حول حفرة من حفر القسم، وهاهو تنور قادر على رفع المقلاة وطبخ الخبز! وبعد الانتهاء من الطبخ، ألقي ببضعة مسامير على بقايا الجمر اتقاء لشرور الفحم على حياة النائمين… كانت حرارة اللهب المنبعثة من التنور تدفئ القسم وتجعله أهلا للنوم أيام الثلوج والبرد. وألفنا الدفء قبل أن نستيقظ ذات ليلة من ليالي الشتاء على روائح خانقة وألوان حارة تتماوج في كل مكان داخل القسم. شرارات تتطاير في كل اتجاه. لهب يتراقص فوق الطاولات. يقضمها. يلتهمها. ألسنة النار تلعق الجدران. تفحمها. النار تفترس المكان. الخشب يطقطق. يتشقق. يتفجر. يتهاوى على الأرض، فتاتا ملتهبا. تنهار النوافذ ويتدفق الريح إلى داخل القسم. تتأجج النيران. لا وقت للتفكير. بللنا أفرشتنا بالماء لنخبط بها على الألسن النارية. نخبط في كل اتجاه. النار تتسلى بحيرتنا. تخرج لنا ألسنتها، تندرا. نخبط بكل قوانا. الطاولات والنوافذ والباب جمرات كبيرة. نخبط بدون اتجاه. الحمرة حولنا تضعف. نخبط بكل قوانا. نخبط. نخبط … الظلام. أخيرا، ا لظ– لا– ا – ا – ا –م . وفي انتظار الصباح، جلسنا خارج باب القسم نسعل ذخيرتنا من دخان الحريق.
وفي الصباح، عادت الغربان لتنعق فوقنا، فوق القبور. وعاد التلاميذ للمدرسة :سياح. يطلون من آثار نوافذ القسم إلى الداخل. يحاولون التعرف على مقاعدهم من خلال ترتيب هياكل الطاولات المتفحمة :
-"هنا كنت أجلس ، أتذكر؟"
- وأنت ورائي، هناك".
القسم سواد فاحم وكتل فحمية مكمشة في كل مكان. خضر مشوية. قضبان حديدية عارية لطاولات احترق خشبها. فحم. فحم. فحم …
لم نكن مستعدين لقضاء ليلة أخرى هنا رغم تخويف آباء التلاميذ الذين جاؤوا لتهنئتنا على النجاة. ابتسمنا لهم لنقاوم الخوف داخلنا. لكنهم واصلوا الحديث عن شراسة وحوش الغابة ليلا : ذئاب سوداء، جائعة، شرسة، نظرتها حادة، مخالبها حادة، أنيابها حادة …

الساعة الثانية عشر ليلا :

الشمعة ذابت. لم يتبق منها سوى دموع حول فتيل يلفظ آخر طاقاته. الشمعة تحتضر والصباح لازال بعيدا … لا أعتقد أن أحدا يستطيع قضاء ليلة هنا. كنا اثنين وكان الليل يغلبنا. لكن حادث الحريق هو الذي جعلنا نقرر مغادرة مقر العمل. رغم تحذير العارفين من أهل القرية، غادرنا المكان. أن نسافر مشيا علىا لأقدام، شيء عادي. خاصة أيام السوق الأسبوعي حيث تنبض الطريق بحركة المتسوقين. عدا أيام السوق، فالغابة موحشة. صامتة إلا من أصوات طيور مذعورة تفر بين الفينة والأخرى من بين أشجار الأرز الباسقة. الآن، الطريق الطويل ينعرج يمينا. شمالا. يعلو. ينحني. خشخشات الزواحف على جوانب الطريق تضاعف من خوفنا وسرعتنا. نسابق غروب الشمس. التحام الأشجار يحجب الأفق. تفاصيل الأشياء في أرجاء الغابة تبهث شيئا فشيئا. الألوان تتوارى بالتدريج. الخيالات والظلال تنتصب في كل مكان. تكبر. تكبر. يذوب الظل في الظل. يصبح ظلا كبيرا، لونا واحدا : ظــلامـا. أخيرا، ها هو الليل. لا نرى، الآن، أبعد من موطئ أقدامنا. الظلام دامس. سنتيه حتما إذا ما واصلنا الرحلة. مصباح الجيب غير مجد في هذا الظلام الدامس. الظلام المطلق. عجلة السجين الهارب تدور في خيالي. أكاد أسمع أزيز دورانها في الهواء في مكان ما حوالينا. الظلام شديد والطريق لازال طويلا. لابد من التوقف. لابد من الراحة. تهالكت على الأرض. اتكأت على جذع شجرة ألهث عيائي. قدماي تنتفخان حرارة داخل حذائي. النوم يذاعب جفني. النوم على أرض الغابة في ذلك الظلام مخاطرة عظيمة. فكرت : النوم على أغصان الشجر أوفر أمانا من مفاجآت البر. طبعا هي غير مريحة لكنها مجرد ليلة عابرة. تسلقت الشجرة الأقرب إلى ملمسي. تأكدت من متانة أغصانها. ناديت على بدر أسفل الشجرة كي يلتحق بي. رفض. نومه عنيف. لا يستطيع النوم ثابتا. تركته. أضأت له، بالمصباح، دائرة ينام داخلها. نشر سترته البيضاء داخل دائرة الضوء على الأرض. استلقى عليها. كفه اليمنى تحت رأسه واليسرى تسخن بين فخذيه. النوم لا يطاوعه إن ظلت يداه باردتين.شيء ما في سترته كان يعوق راحته. استوى ثانية ليبحث عنه.استله من أحدالجيوب ومده لي: كتيب جامع لحنظليات العلي.عاد ليتوسد بياض سترته ثانية. لكن يديه هذه المرة لم تكد تدفأ حتى ملأت حنجرته الكون صراخا. صراخ عال. حاد. متقطع: "النجدة!". يستغيث . يستغيث. يستغيث …وأنا مندهش فوق الشجرة أضيء بالمصباح دائرة، مسرحا ،حلبة يتخبط داخلها :
الأسود والأبيض
(الشخير والنجدة)
الأسود والأحمر
(الشخير والأنين)
الأسود والدماء
(الشخير والصمت)
من أعلى الشجرة، أتابع المشهد الحي :
سواد متوحش يفترس صديقا مرهقا.
كاتب مغربي
محمد سعيد الريحاني كاتب مغربي، عضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو هيئة تحرير «مجلة كتابات إفريقية» الأنغلوفونية. حاصل على شهادة الدكتوراه في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2021. وحاصل على شهادة الماجستير في الكتابة الإبداعية من كلية الفنون الجميلة بجامعة لانكستر بإنجلترا، 2017.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية