كلمة ( ألم) مكوّنة من ثلاث حروف أفقي ,
يقابلها كلمة (أمل ) من خمس حروف عامودي !!
اكدحُ ذهني .
اللعنة على هذي الكلمات المتقاطعة !
إنّها تستحوذ على أفكاري , تستنفذ كلّ طاقاتي.
تتزاحم الكلمات في رأسي تتضافر لتتقاطع صورا على صفحة الذاكرة.
أحبسُ أنفاسي. أتنهدّ ...
أنتقلُ لصفحة الاعلانات عن وظائف شاغرة , ربما يحالفني السعدُ اليوم
فأعثر على لقمة تكفيني سدّ عوز عائلة تتعلّق بعنقي كحبل المشنقة.
تطاردني رائحة عفونة .
ألقي بالصحيفة فوق الأرض.
أعود فأتنهدّ .
أبحثُ عن نافذة . يستهويني منظر الثلج وهو يتساقط بخفّة كأنّ أسرابا من السنونو
خلعت عنها ريشها ونثرته في الفضاء.
يستهويني صخب الأطفال وهم يركضون حُفاة ً تحت الثلج دونما شكوى , يتنافسون
على بناء رجال من الثلج .
هؤلاء هم المحكومون بالأمل...!
نحن المحكومون بالألم ..!
تحرّكَ الحنينُ داخلي إلى مرتع الطفولة , إلى أيد صغيرة تتسابق لتصطاد
العصافير من أعشاشها , لتزج بها بفرح داخل الأقفاص الصغيرة , وتروح ترقبها
بفضول .. وشيئا فشيئا تذبل اللهفة حين تدرك أن العصافير لا تغرد إلا على شجر
... !
ألقيتُ حقيبتي المدرسيّة فوق عتبة المنزل .
الباب موصد . لمحتُ والدتي وأنا في طريق العودة من المدرسة
تدخل الجامع بخطوات مُتثاقلة .
لا بُدّ أن أنتهز بضع دقائق لأستردّ الشمس في عروقي .
خلعتُ حذائي وواريتُ جواربي المثقوبة في أقصى نقطة منه .
طفقتُ أنبشُ حفرة على طول جسدي النحيل داخل تلال الرمل .
ببرود هبطتُ داخلها . طمرتُ جسدي حتى عنقي.
الشمس في منتصف الحلم وأنا بحاجة للدفء .
أغمضتُ عينيّ ورحتُ ارتفع ,
أر
ت
ف
ع
.
.
هكذا سأبقى في ارتفاع دوما ..
لا أخشى إلا أن يذوب الصمغ عن جناحيّ وأنا أقترب برشاقة
من الحقائق .
تمطّى ظلّ قربي وارتفع صو ت ينخر ضميري:
_ هشام ....؟!!!! عدتَ لنبش الحفر ...؟
امتدّت ذراعاها نحوي لتنتشلني من مرتع أحلامي.
ارتعدتُ .
سقط منديلها المبرقش فوق يدي . بانت ضفيرتها الشائبة .
تلوّى فستانها الأسود المطرّز بقطب فلاحيّة بالية ,
وهي تنحني لتنتشلني من الحفرة .
انحسر فمها عن أسنان متهالكة ..
-يا قلبي لمَ تهوى المشاكسة ... ؟؟؟
كالمعتاد جاء حرف القاف عميقا .....
مضمخا بالنبرة الفلسطينيّة ...التي تطرب قلبي ..
وكأنّها صوت ناي من ضفاف بعيدة.
جحظت عيناي على فم أكل الحزن عليه وشرب.
تراها تعفو هذه المرّة أم تعاقب؟
قالت بحنوّ وأنا انتصب كشجرة نخل في جنتها :
_ يا صغيري .. هيا إلى طشت الماء .
طفقتُ أتهادى بفرح أمامها كجندي المشاة في يومه الأوّل .
نظرتُ عبر زجاج النافذة.
الشمس محتجبة منذ سنوات.
سأنتهز بضع دقائق لأستردّ ها في عروقي .
فتحتُ الباب برويّة وخرجتُ .
في السماء غيوم خبيثة تلهو بانعكاسات الظل.
في القلب ثلاث ورقات .. ورقة أولى للأمل .. ورقة ثانية للألم ..
ورقة ثالثة ما زالت تحمل بياضها وفراغها.. وفي المعدة أكثر من خواء.. لكل
شيء..
رحتُ أتناول الثلج وأكدسّه كومة فوق كومة .
سأبني رجلا من ثلج..هذا الذي طالما راودني في منامي ووهبني قصفة حبق
تُعطّرُ عفونة شتاتي .. تجعل للمنفى طعم وطن.
أشرقت ِ الشّمسُ في عروقي .
سأضع له عينين من خرز..
وأذنين من خشب ..
وفم من صوّان..
وسآتيه كلما اشتدّت وطأة الغُربة على قلبي .
انتهيتُ .
ها هو كما دوما تخيلته ..كما أراه في منامي وصحوي يترصدني أينما توّجهت ..
رجل من ثلج !
_ هشاااااااااااام !!
حاصرني صوتها وكأنّه الماضي المستمر .
وقفتْ قربي مذهولة ً . تارة ً تتأمل رجل الثلج وأخرى تتملّى ملامح وجهي.
تراها تراني مشاكسَا بعد مرور اكثر من عشرين سنة على أعراض الطفولة؟؟
انتصبَ الرعبُ ككوز من الصبّار في جوف حنجرتي .
ابتسمتْ برقّة . .. قهقهتْ بصخب ..
حاصرني حنانها من شرقي إلى غربي:
_ يا ابني ألم تكبر على اللعب بأعصابي؟
تحرر قلبي من قبضة الرّهبة .
واصلتْ القهقهة ...
أصابتني العدوى ..
قهقهتُ ..
ههه .. على جرح وطن سليب ..
هههههههه...... على ضياع هُوية ....
ههههههههههههه ............ على رجال من ثلج على امتداد خارطة الأوطان
العربيّة ههههههههههههههههههههههههههههههه................... ...!