وها هنا تتراود الأسئلة عن طبيعة الصبر ..
عن تعريفه .. عن مصدره وهل كل إنسان يمكن له أن يكون صبوراً أم أن الصبر نعمة تخص فئة دون فئة من البشر . ما هو الصبر في حقيقته .. هل له رائحة أو شكل أو لون ..
هل يولد مع الإنسان في أثناء ولادته .. أم أنه مكتسَب من الحياة والخبرات والتجارب ؟.
كلمة تتردد كثيراً في الأحداث اليومية .. الجدية منها والهزلية ، وهي مسألة بالغة الخطورة والأهمية وتحتاج لدراسات تأملات عميقة تضيء جوانبها . الحديث عن الصبر يكون غالباً بشكل أوتوماتيكي عابر ولكن الصبر في ذاته يحتاج إلى معرفة وإلمام به .. فا الصبر هو عالم مستقل من عوالم المعرفة البشرية ، والصبر ليس كلمة تقال لشخص : /اصبر . فيصبر .. الصبر حالة متقدمة من حالات الوعي والمعرفة ، فالإنسان الصبوريعيش حالة الصبر ويمتع بها عكس الإنسان غير الصبور الغير الذي يعيش حالة إللاصبر ويحترق في جحيم التوتر والعجالة والإضطراب ,والخلاف شاسع بين أفعال الإنسان الصبور وأفعال الإنسان الغير صبور .
إذن الصبر ليس كلمة تُعاز إلى إنسان فيمتثل لها وعندما تقال للإنسان في القرآن فهي كذلك لا تعني توجيه كلمة ولكن تدفع الإنسان إلى عالم الصبر ، إلى حالة الصبر الكبرى فليس مطلوباً منك أن تصوم بالقوة ولا أن تزكي بالتهديد , أو تصلي بحركات ميكانيكية سريعة ولكن أن تعيش معنى الصوم,أن تستمتع بحالة الصوم ، أن تدرك فوائد الصوم ، أن تحب الصوم , أن تحقق شروط الصوم المادية والمعنوية وتصل بنفسك إلى انسجام كامل مع حالة الصوم التي تعيشها ، أي أن تصل إلى قناعة بأنك لابد أن تصوم ولذلك ليس مطلوباً من الطفل أن يصوم ولا من المريض ولا من المسافر .
الصبر هو شكل متقدم من الأشكال الراقية للمعرفة ، عندما ترتقي المعرفة بالإنسان فأنها توصله مرحلة الصبر … والصبر عندها يكون في درجات متفاوتة .. وكلما إزداد الإنسان معرفة ، ازداد نضجاً وهذا النضج يكسبه الصبر الذي يُكسبه الامتلاء بالعالم على نهج مرحلة متطورة من مراحل الكمال الإنساني .
علاقة الصبر مباشرة مع الأعصاب .. والعصبيون يعانون بالدرجة الأولى من نفاذ الصبر لديهم وتأتي مرحلة العقاقير المهدئة لترغم الصبر على الجملة العصبية والحقيقة فإن المهدئات هي شكل من أشكال الصبر القسري على الإنسان لتحمّل الألم والأزمات النفسية ، وأفضل علاج لهذه الأزمات هو الصبر الطبيعي الذي يعكس نتائج طبيعة في العلاج .
الإنسان يولد ولديه بذور الصبر .. لديه طاقة لاكتساب الصبر .. ولكن الجهل يمكن له أن يقتل هذه البذور ، كما أن المعرفة ترويها وتحميها ، فهي بذور تحتاج إلى سنوات من الفصول والتقلبات والأمطار والعواصف
وأن يشقى ويعرق لتحصيلها . وإذا كان الشكل الأدنى من أشكال الجهل , اللاصبر .. فإن الشكل الأرقى من أشكال المعرفة هو الصبر .وإن عظمة الإنسان تظهر عند تحمله للمصائب الكبرى .. والتعامل معها بمفاتيح الصبر التي تكون في جيوب عقله . الإنسان لا يولد صبوراً .. ولكنه يكتسب الصبر ويطوّر طاقة الصبر لديه فالطفل قد لا يصبر على ألم وجوع وخوف وبرد ولكن هذا الطفل عندما يكبر يمكن له أن يصطبر ويحتمل .
الصبر يقترن بالمعرفة والمعرفة مكتسبة ، ومن هنا فإن المشاكل تتفاقم في المجتمعات التي تسود فيها الأمية في حين أنها تتضاءل في المجتمعات المتعلمة وكلما تقدم التعليم تلاشت المشاكل وتوجه المتعلمون إلى التربية والإنتاج والعطاء . حيثما يكون الصبر تنفتح أبواب الحياة .. الأم لا تنجب الأطفال لولا صبرها تسعة أشهر .. الطالب لا يكسب العلم لولا صبره في القراءة والدرس سنوات طويلة .. الطبيعة لا تنجب الزهور والربيع لولا صبرها على قر الشتاء وحر الصيف .. المريض لا يشفى لولا صبره على المرض .. والآباء لا يربون الأطفال لولا صبرهم على سنوات الطفولة . الإنسان لا يستطيع أن يقوم بكل الأعمال دفعة واحدة .. عليه دوماً أن يؤجل البعض للغد .. عليه دوماً أن يترك شيئاً لغيره .. ألم يترك غيره شيئاً له .الإنسان لا يستطيع أن يعطي كل شيء.. لا يستطيع أن يأخذ كل شيء .. إنه يعطي أشياء ويأخذ أشياء .. ودوماً هناك عمل ينتظر إنساناً جديداً هناك فكرةً تنتظر إنساناً جديداً ، هناك خطوة تنتظر أنساناً جديداً .تبقى الحياة مشرقة بالإنسان ويبقى الانسان مشرقا بالحياة .. واذا انطفأ احدهما انطفا الآخر
إذا جاءك آلم ،اصبر .. اذا شاتمك شاتم ، اصبر .. اذا ظلمك ظالم ، اصبر .. اذا فقدت عزيزاً ، اصبر .. اذا احترق بيتك ،اصبر . واعلم انه لولا الصبر لما أنجز الكاتب كتابا .. لما بنى البنّاء بناء ..لما صاغ الصائغ اسورة لما حصد الفلاح سنبلة
وحيثما كنت يمكنك أن تنعم بدفء الصبر .. حيثما كنت يمكن أن يكون الصبر لك ميعنا .
لا تعجل في قول كلمتك ،لا تعجل في شرائك ,لا تجعل في طعامك ، لا تجعل في شرابك في مسيرك ، لا تعجل في زوجك ، لا تعجل في ولدك .
الصبر هو السلام .. الصبر هو الامان ، عندما تكون في الناس لاينفعك غير الصبر .. عندما تكون في عزله لاينفعك غير الصبر ، وعند ذروة الآلام الكبرى التي تقع بغتة كا لصواعق لا يبقى معك الا الصبر .. إنك صامد بمقدار ما لديك من صبر ..إنك قوي بقوة الصبر الكامنة لديك ، وعندما يعجز الآخرون عن تقديم شيء يخفف عنك ، يأتي الصبر ليقدم كل شيء إليك .. عليك أن تكون دائم السعي لاكتساب الصبر ..اكبر قدر من الصبر .. ان تطور طاقة
الصبر لديك .. أن تعزز مكانة الصبر في نفسك لارفيق لك كالصبر لاصاحب لك كالصبر لاقريب لك كاالصبر ، دوماً يأتي الصبر لينير أمام خطوات روحك الدروب الداجية . الصبر غرسه مباركة في حديقة روحك تُروى بنور المعرفة . تعلم كيف تدرب نفسك على احتمال المصائب الكبرى بالصبر ، تعلم كيف تدرب نفسك على استقبال المسرات الكبرى بالصبر.
الإنسان هو أكثر المخلوقات شاعرية لأنه اكثر المخلوقات
حزناً: يأتي الإنسان حاملاً حزنه ومعاناته على أكتافه إنه حمال الأحزان .. كل ذرة تراب
كل ورقه شجرة .. كل منخفض .. كل فصل لهو شاهد على معاناته
عندما يولد،،يقال له أول ما يقال : تذكر أيها الإنسان بأنك فان 0لكنة يصر على الحياة ويقبل
العيش فيها ،لأن الحياة أفضل من العدم .
أجل ألم نفتح عيوننا على معاناة عمر بأكمله ألا نروض
أنفسنا لاحتمال هذه المعاناة والانسجام معها ؟
الإنسان جاء ليعاني ويتألم ويكافح .. لا ليقطف الزهور ويمضي، مايهم هو نجاحك في محاولة الانسجام مع كونك مخلوق حزين ، لا أن تكافح للتجرد من هذا الحزن . إذا حذفت الطبيعة الحزن منك ، حذفت الإنسان منك .. أنت جئت لتضع لبنة في عمارة الحياة.. هذه العمارة التي بنيت بلهاث الإنسان ودمه وعرقه وأرقه . واعلم بأن الصحة العامرة تستقر في لحظات تخالها الأخيرة .. هناك في آخر لحظات الاحتضار لأول مرة تنفتح شهيتك الكبرى على الحياة التي لم تكن رأيتها من قبل وتعانقها بنبضاتك الراعشة الأخيرة عند ذاك، عند ذروة المرض الجسدي عند ذروة المرض الروحي تنفتح عيناك على حقائق أخرى وأنت مطروح في حديقة الموت والاحتضار ، وتتساقط على أسماعك كلمات نورانية: أنت ابن الألم ، الألم هو الذي صنعك، كن على حذر من السقوط أنت مخلوق قابل للسقوط .. قابل للسمو ، قدر رغباتك كما يقود الراعي الماهر قطيعه .. لا تدع القطيع يقود الراعي ، أنت ابن التراب لا تنس للحظة بأنك من صلصال . ليس بالرخاء وحده يحيا الإنسان ، بل بالألم أيضاً ، ليس بالشبع يحيا الإنسان, بل بالجوع أيضاً , ليس بالصحة يحيا الإنسان ، بل بالمرض أيضاً . إن الله أكرمك فلا تذل نفسك ، هيا قم إلى الحياة
هناك في القبر متسع من الموت لن يبقى منك إلاّ ما شيدته روحك ،تدرك معنى الإنسان فيك . وستدرك كل الإساءات التي وجهتها إلى نفسك،
ستدرك كم كنت غارقاً في ظلمة الجهل تواصل : كثيرون يفشلون في مسعى الانسجام بواقعهم فيعيشون في هامش الفعل الحراري للحياة ، هذا الفشل يعكس على مفهوم العام للحياة وعلى هذا المفهوم يهدرون أعمارهم دون أن يقدموا شيئاً .
الشرف الكبير يكون في تقديم الهدايا إلى الحياة من خلال التصارع مع هذا الألم وهناك تبرز
قدرات الإنسان وكفاءاته ويصنع من الألم ملحمة إنسانية كبرى . المعاناة هي شرط وجود الانسان في الحياة وشرط تواصله الإنساني ,إنسان بدون معاناة لهو إنسان ناقص . الإنسان
يحب الحياةفي النهاية ، فهو الذي يبنيها ويجملها ويزرعها ويلطفها وبنجب أطفاله ليعيشوها ،
إنه يؤمن بجدواها ولذلك يعقد فيها الصداقات والعلاقات الحميمة ويصر على السيرة الحسنة والسمعة الطيبة . الذين يبنون الحياة هم أكثر من الذين يدمرونها فإذا عملية بناء مدينة تستغرق ثلاثين سنة فإن تدميرها لا يستغرق ثلاثة أيام ، ومع هذا فإن الأرض عامرة .
وإذا كانت عملية ولادة طفل واحد تستغرق تسعة شهور فإن عملية تدمير آلاف الأشخاص لا تستغرق يومين ومع ذلك فإن مليارات البشر يعيشون ، الإنسان بخير ، الذين ينجبون ويربون هم أكثر من الذين يقتلون ، والذين يبنون هم أكثر من الذين يدمرون ، والذين يهبون هم أكثر من الذين يسرقون .
كل ما حولي يصرخ : قم أيها الإنسان ، عليك أن تقول ما لم يقله غيرك ..
عليك أن تغني ما لم يغنه غيرك .. عليك أن ترى ما لم يره غيرك .. عليك أن تسمع ما لم يسمعه غيرك .. عليك أن تكون ما لم يكنه غيرك .. كل ما فيك يتميز عن غيرك : صوتك
بصمتك .. رؤيتك .. شكلك .. عليك أن تنفرد بتميزك وتتجه إلى ما لم يتجه إليه غيرك
إنها حياتنا الرائعة.. إنها حياتنا السحرية المدهشة التي ستهبنا أسرارها ودفئها وشمسها
ونسيمها وأوراقها . غداً ستنفتح ورودأ كثر أريجاً ..
نرى أنهار أكثر أمناً .. نسكن بيوتاً أكثر دفئا .. نعرف أصدقاء أكثر إخلاصاً ..نستمع أغنيات لم نسمعها من قبل ..نلبس ثياباً لم نلبسها من قبل .. نعيش حياة لم نعشها من قبل .
غداً الذي يكون كله لنا،غداً ننجب أطفالاً لم ننجبهم من قبل
.. نرى أعياد لم نرها من قبل .. ننشد أناشيدا لم ننشدها من قبل .. غداً ستكون الحياة
دافئة أكثر من قبل .. أجل أقول بسرية أسراري كلها أهمسها كما أن لاأحد يسمعها
إنني ما أزال متمسكا بأن الحياة تخفي دفئا .. وأشعر بالتغلب على اليأس النهائي لأنني ما أزال أتمتع بحواسي
وأستطيع أن أميز الوجوه والأشياء حولي .. أستطيع أن أميز الكلمات التي أسمعها ..
أميز المكان الذي أعيش فيه وأحفظ أسماء الأشياء أستطيع أن أفكر وأمشي وأقف وأتحدث وأصمت وأركض وأغتسل وأضحك وأنظر إلى الجهات إنني أستمتع بالنظر والنوم والطعام و المسير وتمييز الأشياء و لحظات الإيواء إلى الفراش ولحظات النهوض منه .
ياه كم تسحرني الحياة إنني ممتلئ بالحيوية رغم كل هذا الثقل من جبل الألم.