خرجت مبكراً ذلك الصباح إلي الحقل ، دون أن أتناول طعام إفطاري لقد كنت غاضباً من أمي التى أخذت الأجرة كلها دون أن تعطني منها شيئا ، علي الرغم من أنها ظلت تقنعني طوال الليل بأنها فى حاجة إلي هذه الأجرة كي تكمل بها ثمن كيلو اللحم الذي ستشتريه غداً من السوق بمناسبة موسم عاشوراء ، حتى نكون مثل بقية الخلق فلا يتطلع أحد من أخوتى الصغار إلي الناس ورغم اقتناعي وفرحي باللحم ، إلا أنني ركبت رأسي ، وفى النهاية رضخت فانسللت من المنزل قبل شروق الشمس آخذاً الطاقية وشمرة القطن .. وجدت نفسي وسط حقول القطن البيضاء قبل أن يصل أحد من الأنفار ، كان الحقل الذي سأعمل فيه اليوم بالقرب من شجرة الشيخ علي ، وهي شجرة صفصاف عارية من الأوراق دائما ، يعتقد كثير من الناس أنها مبروكة وحتى هذه اللحظة لا أعرف سر الارتباط بين شجرة الصفصاف والشيخ علي الذي يرقد فى مقامه الفقير عند مدخل العزبة ، والغريب أن الناس يعتقدون فى الشجرة أكثر ما يعتقدون فى المقام.
كانت الشمس علي وشك الولادة من رحم الجانب الشرقي ، أخذت أتأمل هذه الكرة الملتهبة وهي تميل قليلاً إلي الصفرة ، ( لم تكن المرة الأولي التى أشاهد فيها شروق الشمس ) وفجأة قطع هذا التأمل تأوهات وربما همسات أنصت جيداً ، وأنا أمد بصري إلي بياض الحقول الشاسعة من حولي ، صوت امرأة ، أدعية تنتهي بعبارة الشيخ علي ، التفت علي الفور نحو شجرة الشيخ علي التى لم تكن بعيدة عني ، وجدتها أمامي عارية كما ولدتها أمها ، فكانت قد انتهت لتوها من وضع جلبابها فوق جذع الشجرة ، ثم جلست القرفصاء رأيت ظهرها الأبيض يلمع تحت قطرات الماء الذي تصبه من إبريق أسود فخاري وهي تتمتم بالدعاء ، انتابني فى البداية خوف ماذا لو التفتت ورأتني أراقبها ؟ حاولت أن أبعد نظري بعيداً ، فلم أستطع ؟ هل كنت مأخوذاً بذلك البهاء الجسدى ؟ وإذا بها تلتفت ناحيتي ، ربما أحست بوجودي ، إنها تناديني ، تطلعت إلي الشمس التى ارتفعت قليلاً الآن ، فعادت تنادي من جديد ، ولكن فى صوت ودود مما أشعرني بالطمأنينة :

- تعالي يا حبيبي .. قرب مني .

كالسائر نائماً اندفعت نحوها ، ناولتني الإبريق بيد ، فى الوقت الذي وضعت فيه يدها الأخرى فوق قُبلها وقالت :

صب الماء فوق رأسي وأوعي تنسي تسمي ثم أردفت ..

- أوعي تقول لأمك يا حسين

فتذكرت علي الفور أمي ، ماذا لو عرفت ؟ كانت أمي تخشى من عين زينب ، وتعتقد أنها حسودة ، لذلك كانت تدعي أمامها أنني مريض وتمنعني من الذهاب إلي بيتها ، وعندما تقبلني تكتم غيظها وهي تتمتم ببعض كلمات من سورة الناس ، وقلت فى انقياد :

- حاضر .

ثم نفذت ما أرادت ، لم يستغرق الأمر دقائق ، وعندما انتهيت أخذت تتأملنى ، ووجدتني لأول مرة أتطلع إلي عينيها ووجهها ، كانت الدموع تنسكب بغزارة علي وجنتيها ، وكان صوتها مختنقاً بالبكاء :

- يارب .. يارب أطمعني .. قل معي يا حسين

بكيت مثلها و كأنها نسيت نفسها أسرعت إلي الجلباب وارتدته علي الفور وهي تقول :

- لا تخف يا حبيبي

قلت :

- مش خايف .. لكن الأنفار نزلوا وخطي سيتأخر فضحكت، وهي تقول :

- ولا يهمك سأساعدك .. المهم لا تقل لأمك شيئا ثم أخذتني في حضنها وأخذت تقبل خدي ، وعند ذلك سمعت صوت المقاول الأجش يصيح فى غضب :

- ولد يا حسين .. تأخر - خطك

أسرعت إليه وأنا أداري خجلي ولم أسلم من سخريته :

- ماذا كنت تفعل مع هذه المرأة المجنونة ؟

لم يدعني أجيب ، فواصل كلامه ، كأنه يعلم أنني لن أستطيع الرد:

- كنت بتحميها .. ما استحمتش معها ليه ؟ .. مدد يا شيخ علي يا بتاع النسوان .

وأطلق ضحكة عالية فجة ، تطلعت حولي فى سرعة ربما كنت أريد أن أتأكد من خلو الطريق أمامي ، وبأقصى ما أستطيع ملأت فمي باللعاب وقذفته فى وجهه ، فألجمته المفاجأة ، وعند ذلك أطلقت ساقي للريح ، وبد خطوات سمعت صوته صارخا :

- الأجرة يا ابن الكلب .. سآخذها من دمك

لم استطع أن أذهب إلي البيت خوفاً من أمي ، وكدت أرجع إلي الحقل ، وقفت وسط الطريق الزراعية أتدبر الأمر ، هل أعود ؟ ولكني خفت أن يضربني المقاول .

عرفت فيما بعد أن زينب ذهبت لتساعدني وعندما لم تجدني وعلمت ما حدث ، نزلت مكاني وعملت بدلاً مني طوال ذلك اليوم .
كاتب مصري
ليسانس آداب – قسم اللغة العربية- كلية الآداب /جامعة الزقازيق/مايو 1985م. ماجستير في الآداب كلية الآداب - لغة عربية - /جامعة الزقازيق/مايو 1991م. دكتوراه في الآداب – تخصص الأدب الحديث - كلية الآداب / جامعة المنصورة 2001م. له مجموعة من المؤلفات الأدبية والأكاديمية منها: لن أقلع عن هذه العادة (مجموعة قصصية)، شعراء حول الرسول صلى الله عليه وسلم (دراسة أدبية)، الفن القصصي عند فاروق خورشيد.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية