كان ضعيف السمع ، قد تجاوز السبعين من عمره ، قد اصطبغت لحيته بلون الثلج ، وقد عاد ابنه من الحج ، فذهبت مع من ذهب لنبارك له بأداء مناسكه وبعودته سالماً إلى أهله وأسرته .
وجلست مع من جلس ، وجوه كثيرة لا أعرف منها إلا القليل .
وساد هرج كثير بين مجموعات كثيرة من الجالسين إلا أن الشيخ التفت إلى أحدهم وكان يعرفه جيداً وسأله قائلاً : - أبوك عنده خيل؟
- فأجاب : نعم .
لم يسمع الشيخ الإجابة فقال بصوت عال : ماذا تقول ؟.
وكان للشيخ أخ يصغره بقليل ويجلس قبالته ، فأجابه بصوت عال : يقول لك نعم ، أيوه .
سمع الشيخ الإجابة وعاد ليسأل نفس الشخص :
- كم رسناً عند أبيك ؟
- فأجابه : ثلاثة .
وهنا ارتفع صيوان أذني اليمنى ، وتزاحمت بعض الكلمات في حلقي ، كم رسناً ؟ ماذا ؟ يعدون الخيول بالأرسان ؟
ولم انتبه إلا والشيخ يكرر جملته المألوفة : ماذا تقول ؟ فيجيبه أخوه الذي يجلس قبالته : يقول لك ثلاثة .
يهز الشيخ رأسه ويقول : آه ، ثلاثة ، ويوميء برأسه إيماءةً تدلّ على أنه قد فهم الإجابة .
- وماذا فعل أبوك بالفرس الزرقاء ؟
- ويجيبه : لقد باعها .
- ماذا تقول ؟
ويرفع الرجل قامته بعض الشيء ويشير بيده ويقول بصوت عال : أقول لك لقد باعها .
ويعود الشيخ ليسأل :
- وهل ولدت الفرسُ الخضراء ؟.
- فيجيبه بصوت عال : أي نعم ، ولدت مهرة شقراء .
لم أتمالك أعصابي ، اعتدلت في جلستي ، توجهت نحو الشيخ وأشرت إليه : ماذا يا شيخ فرس زرقاء ؟ وفرس خضراء وفرس شقراء ، لم أر في حياتي مثل هذه الألوان .
ساعدني أخو الشيخ في نقل تساؤلاتي إلى أخيه ضعيف السمع .
ابتسم الشيخ وقال لي : الفرس الزرقاء هي الفرس السوداء اللون ، والعرب تكره أن تقول سوداء لأن لون السواد غير مرغوب لديهم ، وهم يتشاءمون منه لأنه يدل على الحزن والغم والبين والفرقة ، ولشدة حبهم لخيلهم كرهوا أن يقولوا عنها سوداء ، بل قالوا عنها زرقاء . هل فهمت .
ارتسمت ابتسامة عريضة على أطراف فمي ، وماذا عن الخضراء ؟ .
انتبه بعض الناس إلى فضولي ، ولكنني كنت مصراً أن أعرف .
وأكمل الشيخ حديثه ، أما الفرس الخضراء فهي البيضاء اللون ، ولحبّ العرب للون الأخضر الذي يدلّ على الخصب والربيع والكلأ ، ويدلّ على الجد والوقار أيضاً من أجل ذلك قالوا عن الخيول البيضاء خيولاً خضراء .
وأكمل الشيخ : ألم تسمع الناس يتفاءلون باللون الأخضر ويقولون لمن يشتري فرساً جديدة ، أو يتزوج من إمرأة شابة ، يقولون له بصيغة الدعاء : جعل الله كعبها أخضر عليكم .
ترسخت كلمات الشيخ في ذهني ، بردت ثورة انفعالي وهدأتُ قليلاً ، ولكن الشيخ أراد أن يعلمني البقية الباقية ، فقال : أما الفرس الشقراء فهي ذات اللون البني الفاتح الذي يميل إلى الحمرة ، وأما ذات اللون البني الغامق الذي يميل إلى السواد فهي الدهماء .هل فهمت .
اعتدلت في جلستي ، وارتخت أعصابي المتوترة ، وعاد إليّ هدوئي وأجبته راضياً :
- أجل قد فهمت ..
- قد فهمت .