لم أكن أعلم مدى جاذبية الاستبداد حتى جرّبته .
كنت أعاني من حالة الديمقراطية الشائعة في البيت ، فأتلقّى الشكاوى بصدر رحب ، وأكظم غيظي حتى عندما يقدم الأولاد شكواهم فأحتاج إلى كثير من الصبر والوقت كي أقدم لهم حججاً مقبولة تفسّر أسباب توجيهاتي لهم.
وإذا تخاصم الابنان ، كان عليّ أن أترك أعمالي وأصغي إلى وجهة نظر كل منهما لأحكم بالعدل بينهما ، فألوم المخطئ وأعيد الحق إلى المظلوم . عندما تسلمت إدارة المؤسسة التي أعمل بها لم أشأ أن أمارس القمع الذي نعانيه من رؤسائنا ، لذلك اجتمعت بالموظفين في أحد مكاتبهم ولم ألق خطبة عصماء ولم أتشدق بوطنيات لا تتجاوز اللسان ، ولم أرفع شعارات فضفاضة لا معنى لها ، بل اكتفيت بالقول : كلنا موظفون ، ونعلم مقدار ما يعانيه العاملون في بلادنا ، اعملوا قدر امكاناتكم بمحبة وإخلاص وليختر كل منكم العمل الذي يجد نفسه صالحا له، وسأفعل ما بوسعي للتخفيف من أعبائكم ، ولن أكون في يوم من الأيام عبئاً عليكم ، أو ( بعبعاً) تتحاشون رؤيته في الصباح .

لم تمض أيام على إدارتي للمؤسسة حتى بدأت الطلبات والشكاوى تنهال عليّ .
كل عامل يشي بزملائه ويفضح أخطاءهم، ويراجعني المتخاصمون لأفضّ اشتباكهم . بل لقد تجرّأ بعضهم وراحوا يشيرون علي في ما يجب أن يكون .!!
بعد أسابيع وجدت نفسي واقفا في ( حيص بيص ) بشكل لم يعد سير العمل فيه ممكناً وبخاصة أن بعض العاملين يحرجونني في مسائل مهنية لا أفهم في تفاصيلها ، فاتخذت قراراً أزعجني في البداية ، وهو أنني سأوزع العمل بالطريقة التي أجدها مناسبة ، وأغض الطرف عن تظلمات بعض أصحاب الحق ..
الآن ، بعد ثلاث سنوات من استلام منصبي وفرض طريقتي ، اكتشفت أنها الطريقة الوحيدة الناجعة في مثل هذه الظروف التي تمر بها بلادنا .
صحيح أنني أتجاهل أخطاء بعض الموظفين ، وأتجنب الحديث في الرشاوى التي يُنمى إلي أنهم يتقاضونها من المراجعين ، وأوقّع كشوفات لجنة الشراء من غير تدقيق، وأكبت آراء بعض المخلصين التي أراها تصبّ في المصلحة العامة ، وأوقّع العقوبات والمكافآت بناء على اقتراحات رؤساء الأقسام من غير تمحيص ؛ كل تلك ( البلاوي ) تحدث في مؤسستي ولا أنكرها ، ولكن الصحيح الذي لا يمكن أن أتغاضى عنه ، هو حصولي على راحة لم أكن أحلم بمثلها .
لم تعد تهمني المشكلات التي يعانيها الآخرون ، ما دمت أقبض راتبي ومكافآتي وبعض المنح الإضافية والمصروفات ( المستورة ) .
والأهم من هذا وذاك ، هو رضى رؤسائي عني ، بعد أن غدوت آخذ ممن هم دوني وأعطي إلى من هم فوقي .
صحيح أنني أنصاع لرؤسائي كالنعاج ، ولكنني ـ بالمقابل ـ أحصل على انصياع العاملين في مؤسستي .
وإذا بدا بعض الموظفين غير راضين عن طريقة سير العمل ، فإن ذلك لا يهمني ، لأنني سرعان ما أخاطب رؤسائي ونعمل على نقلهم إلى أعمال نضمن فيها شعورهم بالمهانة والذل ، ونرتاح في إقصائهم كي لا يزعجوا أسماعنا بتذمرهم من استبدادنا في قراراتنا التي لا تقبل المراجعة أو النقاش .
الاستبداد متعة لا تدانيها سواها ، حيث تشعر بأنك الآمر الناهي الذي لا يرد له طلب ولا يُعصى له أمر .
إنه حالة نموذجية للعيش المريح ...

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية