مقالي ليس دعوة لإلغاء الجلد والحبس من قائمة الخيارات التعزيرية، بقدر ما هو دعوة للنظر والتأمل، فالأمور تُقَدَّرُ بقدرها ومعيار النظر القضائي يختلف باختلاف الأحوال والقضايا.
انعكس الغنى الفكري الذي كان يعيشه الفقهاء في حُقبة النهضة العلمية، على آرائهم المبثوثة في كتب التعازير والجنايات، وغيرها مما له مساس بحاجيات الناس.

ولكن كما قيل: "الإبداع وليد عصره" ولا يمكن أن نحمل على أسلافنا الفقهاء فيما طرحوه من قواعد عامة للتعازير، ذلك أن الملامة إنما تكون في حق من يُنَزِّلُ حكم الله على المسألة (القضائية) لا على من يُنَظِّرُ لها!!

وبقراءة سريعة لأحكام التعازير الصادرة عن محاكمنا الشرعية، يجد المتأمل فيها الاقتصار على الجلد والسجن، دونما انطلاق لآفاق أرحب وصل إليها القانون الوضعي في عصرنا الحاضر "والحكمة كما قيل: ضآلة المؤمن".

ومن له مزيد اهتمام بالقرارات الصادرة عن المحاكم الأمريكية والأوروبية يجد أحكاماً على وزن: السجن مع وقف التنفيذ، ساعات الخدمة الإلزامية في مؤسسات المجتمع المدن، الغرامات المالية، نشر الاعتذار عن الإساءة في الصحف، إلزام المتهم بالابتعاد 100 متر عن الضحية المعتدىعليها سواءً كحكمٍ نهائي أو إجراء احترازي (إذ كلاهما يحمل معنى التعزير ويفتقر إلى الإجراء القضائي)، وغيرها الكثير من التطبيقات القانونية المسايرة لفقه الواقع.

وهو ما تنبّه إليه المنظم السعودي فعمد إلى سَنِّهِ وتطبيقه في كثير من قوانين اللجان ذات الصبغة القضائية، كاللجنة الجمركية واللجنة العمالية ونحوهما مما يحمل الصبغة الإدارية ممزوجة بالولاية القضائية.

ولكن مع الأسف كانت محاكمنا الشرعية بعيدة عن هذا الحراك القانوني، إذ ضيّق قضاتنا واسعاً عندما قَصُرَتْ أحكامهم على (الجلد والحبس) دون اعتبار لحال المتهم أو حيثيات القضية، رغم مرونة التعزير وتفاوت الجرائم بالشدة والضعف واختلاف الأحوال والأزمان، إذ يتحقق التعزير كما قال الفقهاء بكل ما معناه الزجر كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏ بقوله:‏ ‏"‏وقد يكون التعزير بالنيل من عرضه‏،‏ كيا ظالم‏‏، يا معتدي‏، وبإقامته من المجلس‏ ‏".

مقالي ليس دعوة لإلغاء الجلد والحبس من قائمة الخيارات التعزيرية، بقدر ما هو دعوة للنظر والتأمل، فالأمور تُقَدَّرُ بقدرها ومعيار النظر القضائي يختلف باختلاف الأحوال والقضايا.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية