هل أحبكِ.؟
أحلمُ… أحلمُ..!
أم هو الهذيان.؟
ذات صباح، حَمَلَتْ أنّات غروري المجروح زقزقة عصفور..
لست أدري لمَ اختار شرفة بيتي يمارس عليها طقوسه الغريبة، حسبته للحظة أنه يسخر مني، يهزّ ذيله، ويمسح بمنقاره الدقيق ريشات جناحيه واحدة واحدة.. وينقر صدره الموشى بدائرة رمادية داكنة.. كأنه يختال بعنفوان ذكورته.؟
وقد رأيتها أيضاً..
أنثى تقف على فرع شجرة قريب، تطل برأسها الصغير من بين الأوراق، ترنو إليه بصمت.. تدعوه في سرّها، وتشدّ عزم جناحيها لتطير وتماحكه ساعة يحث خطاه إليها..
يا إلهي..
من جاء بي إلى هذا المكان، وكنت أحسب أنني لفظته ولفظني إلى الأبد.!
أسمع دقّات قلبي، وأكاد أعدّ أنفاسي المتلاحقة.. لا شئ حولي غير فراغ، وأفق ضيّق..
سرير يطبع أنينه البارد.. المتوحّد على جدران برّاقة لكنّها تلفظ أنفاسها.. ونافذة وحيدة لا تستطيع حملي إلى فرح هذا العصفور الهزيل..
ذات صباح، أيقظني حلم..!
بعد لحظات أدركت أنه هذيان..
هذان الذراعان اللذان ما ضمّا إلا نساء مثل كل النساء. وصدري الذي دفن مئات التأوّهات.. كلها تلاشت.. حملت ظلالها ورحلت.. حتى خيالاتها التي حسبتها طبعت ذاكرتها في ذاكرتي، ونسجت ألوانها الحمراء على صفحات غروري.. انطفأت في اللحظة التي قادتني شجاعة مفاجئة لأقترب أكثر من شلاّلات أنوثتكِ.. لم أعد أذكر من أيّ الجهات تدفّقتْ..؟
من جنون شعركِ..؟ أم من بريق عينيكِ..؟ أم من رقّة الجدول الدارج على شفتيكِ..؟
أذكر أن رموشي ألقت مراسيها على شاطئ بحرٍ جديدٍ صبّ عليّ عسله مرّة واحدة..
فأغرقني..
هي أرض فرشتها أبسطة نَجيل.! تلاحمت عند المساء مع شفق السماء.. فولدتْ في عينيكِ ألوانها الساحرة.. فأسرتني..!
من منكم غاص في عيون عسليّة.. ونجا..؟
ضجيج الناس أبعدني أكثر عن زحمة نفسي..
بحثت في كل ركن..؟
عشرات العيون تحمل طيوف ألوان خضراء وزرقاء وقزحيّة..
كلها.. كلها لم تكن مثل تفتّح وريقات الدفلى في صباح نديّ..؟
صرت أراها في كل مكان أقصده..
ربّاه: كيف أنجو من نفسي.؟
هل أحبها.؟
وكيف يكون الحب.؟
جسدان.. أم ذراعان.. أم عيون تتلاقى وتفترق.؟
ثم تتلاقى ولا تفترق.!
أنثاه خَرَجَت من بين الأوراق، ورفّت بجناحيها.. اقتربت من مملكته الصامتة، فأثارت فيه ألف شوق وألف شهوة..
هؤلاء الصغار يفهمون الحياة أكثر منّا.. لا يقدرون على تحمّل النزيف الذي نتحمّله ونحن نواري رغباتنا وراء ستائر الخوف والرهبة والهذيان..
تراه هذيان هذا الذي يلج صدري.؟
لحظة قبضَ عليها.. استسلمتْ..!
فردت جناحيها، واستكانتْ.. تنتظر بلهفة تسلّقه الحبيب، وتفسح للبقعة الرمادية الداكنة التي تتوّج صدره مكاناً مريحاً على ظهرها يتّسع لكليهما، يكتبان سطراً في نسغ الحياة..
حلم.. هو حلم حملني في بهيم ليل، ورماني على عتبات موحشات.. ظننت أنه القضاء..!
نسيت أن أقول إنني اقترفت ذلك الإثم.. !
صدّقيني.. أعترف إنني ارتكبت ذلك الإثم لحظة شدّتني عيناكِ إليكِ.. لم تمرّ تلك اللحظة في خيالاتي لحظة فحسب، بل نَقَشَتْ لحمها ودمها على أيقونة عمري، واقترفتُ إثم الولوج إلى جنّات سخيّات دافئات لم أعرف اسماً لألوانها الدائرة حولي..
أهطلتْ فوقي أقواساً مرمريّة.. فضيعتني.. وبتُ أنتظر العقاب..
يا عمري المسفوح بين جدران صاخبة.. صاخبة لكنّها موحشة وباردة.!
وقفا.. عصفور وعصفورة على ذات الفرع.. تعانقا، وهمسا بمنقاريهما كلمات ما فهمت منها غير فسحة جديدة لوصال جديد.. ثم قفزا مرة واحدة إلى إفريز شرفتي..
أطلاّ على صمتي ووحدتي.. وسخرا منّي.!
لماذا تقتلعني نفسي من رغبات نفسي.؟
لماذا تقتلعنا الثواني من تحانين اللقاءات.؟ فكيف إذا كانت اللقاءات في طيّ المجهول..؟
أيتها المزروعة في مكان ما، في زمن ما، تحت سماء ما.؟
ضيّعتُ عمري أبحث عن المكان والزمان والسماء، وحين أشرفتُ على العثور عليهم جميعاً.. وعليكِ.. حين أوشكتُ قطع مسافات الرحيل الممتدة إليكِ.. منكِ إليكِ.. منكِ إليكِ.. ما بين فرع شجرة باسقة، وشرفة غرفة باردة..
حين أوشكتُ القبض عليكِ.. أيقظني الحلم..!
قلتُ:
هو هذيان أيها الأنا المغرور..؟
فلتبقَ بين جدرانك الصمّاء.. تراقب من جوف الصمت تفاريح الحياة.. وتتفرّج.!
هذه الطيور الضئيلة تحملك كل لحظة إلى ضفاف حقيقة جليّة صادقة، تنقلب في لحظات وجلك وضعفك إلى حلم..
حلم تغمض عينيكَ وتمضي فيه.. تتنكّب شراع حبّها المبحر إلى حدود الشفق..؟
تحملها وتحملك كيفما تشاء وتشاء.. لكنك قبيل لحظة الإغفاءة السحرية.. تصحو على خيبتكَ..
سألَتْني نفسي:
هل أنتَ.؟
قلتُ: أنا..!
وضاعت من بين شفتي مفردات الكلام..
هل أحبُكِ..؟
صرخا وهما يبتعدان في عناقهما الحميم:
ـ أيها المغرور قلها..
وهل تصدقين إذا قلت إنني.. إنني..
أحبـــــ....!
ع.ك