كانَ منظرُها يجْلِدُ بصيرتي كُلما تعثّرتْ بيَ الخُطوات على أرصفةِ تِلك المدينةِ المنْسيّة، مدينةٌ تعْتاشُ على الجوع وتَتَسربَلُ بالفاقَةِ وتعايش الحرمان، مدينةٌ تَشهقُ الذُلّ وتزفُر الضَنَك، أراني أنقادُ جبرًا إلى حيثُ الزاوية المُتربة القذرِة التي تحتويها مع طِفلها العليلِ الشاحِب. ولستُ أدري سِرّ هذا الإقبال على تِلك المخلوقةِ البائِسة، ولا خفايا غَشَيانيَ الدائب لرُكنها التعِس، فالسلائِقُ جَرَتْ أنْ نَفِرُّ مِمّا يُنفّر، ونزوغُ عمّا يُؤثّر، وفي العادة نصُمّ آذاننا عن كلّ صُراخ يؤذي أسماعنا ونُغلق عيوننا دونَ كلّ مشهدٍ يجرَح أنفسنا.
لئن كانت الأرض بفجاجها لنا، نسلكها وغيرنا من خلق الله، إلا أن لأرواحنا فجاجًا ليست لهم، تُطل منها مسافات على الآخر، نراه كما هو، أو كما يحلو لنا أن نراه، فتنقلب المعاني والصور ببعد المسافات وقربها.
ومن ذلك قول شاعر المدينة وزاهدها "مسكين الدارمي" في القرن الثاني الهجري بشأن ذات الخمار الأسود:
قل للمليحة بالخمار الأسود... ماذا فعلتِ بناســـــــــــك متعبد
قد كان شّــمر للصلاة رداءه ... حتى خطرتِ له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامـــه... لا تقتليه بحق دين محمـــــــــد
على عتبات تهاويل الخيال تجمح بالمرء درجة من الجنون، وصورة الماضي درجة من درجات الواقع مفروضة تشده إلى الأرض والعقل، ومستقبل يقود الحقيقة العاقلة والجنون يتردد صدى وصوت وأحلام وواقع واجترار لجملة أنا كنت.....؟ واقتناص لأخرى أريد أن أكون! هنا تعددت معاني الموت والحياة في خيالات الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، في داخله يركن ماضِ فسيح لمُلك وفتح وثورات وثوار وبناء وازدهار ودعة ملك ونعيم حياة... وانتبهت عينه الغافية، وما كان لها أن تغفو وهي العاقلة لمعرفة العقل بتقلب ساعات الحياة على قضاء قَلب كل الصور التي أثبتتها الصفحة السابقة له، انتبهت عينه وقلبه على ما يفوق خيالات الضياع، ومعان لا تنتهي من ألوان الموت، ذاك درس من الحياة، ولها دروس تصعب على أفهام الألباب وحجج العقول، إلا من أحضر فهمه، واستجمع له السمع والبصر، وعزيمة لا تزلزلها الانكسارات، وتربو بصاحبها، وتفتح له طيات انتصارات القدر. سقطت دولة بني أمية، قوم الرجل في دوي هائل أسمع ما بين السماء والأرض وتتبع المسقطون لها "العباسيون" أفراد البيت السابق بالقتل والإبادة، فانطلق الشاب الأمير يقطع الدولة غربًا، موغلًا في البعد عن الشرق، مركز الدولة القادمة، إلى أن عبر مضيق جبل طارق، لينتهي به المطاف في الأندلس، حيث العصبية القبلية تهد أمن البلاد، وتعصف باستقراره، وعدو للدين متربص بالمسلمين، يأخذهم كلما حانت له فرصة اختلاف بينهم يتبعه ضعف. والضعف يغري بالعدوان! والنفوس إن جُبلت على الملك استحال عليها الالتحاف إلا به تحت سماء تُظل الأرض.
إذا تدرجنا من إشكالية الرواية العربية المعاصرة، واستحقاقيتها لأن تكون الجنس الأدبي الأقدر على التعبير عن علاقات الإنسان الحديث المعقدة، سواءً على صعيد الذات أو على صعيد فهم الآخر والكون؛ يتوجب علينا الخوض في عدد من التساؤلات التي تتزاحم بذهن القارئ، من مثل: هل الأنا العربية تتناقض مع الآخر؟ هل الأنا تمثل الصديق، والآخر يمثل العدو؟ هل هناك صراع حتمي بين الأنا والآخر، أم تآخٍ وتكامل بينهما؟
يبدو -من الوهلة الأولى -أن الرؤية ما تزال تغشاها ضبابية حتمية، حيث الأنا لم يلبث يبحث له عن وجود في الآخر، سيما وأن "الأنا" لا تتجلى ذاتيته إلا بوجود الآخر، فالصراع أو –بالأحرى- اللقاء بين"الأنا" و"الآخر" يظل حتمية قائمة في ظل الـ"هنا" والـ"هناك"، حيث يبقى هذا اللقاء رهين إحساس مزدوج (الانجذاب/النفور)،(التوافق/الاختلاف).
اضغط عل الصورة لتكبيرها.
نشرت في مجلة الوعي الإسلامي، العدد 559، ربيع الأول 1433/يناير/فبراير 2012، صفحة 55.
نشرت في مجلة الوعي الإسلامي، العدد 558، صفر 1432/ديسمبر-يناير 2011، صفحة 61.
نشرت في مجلة الوعي الإسلامي، العدد 556، ذو الحجة 1432/أكتوبر-نوفمبر 2011، صفحة 57.
الصفحة 11 من 45