(1) تكمّموا، لا تتمسّكوا!
أعجب من ممن يتمسّكون بكلمة "مَاسْك" في حديثهم اليومي. كيف فاتتهم دقة العربية التي تفرّق بين القِنَاع والكِمَام؟ في حين تستخدم الإنكليزية Mask للدلالة على القناع (وهو ما يغطي الوجه كله) والكِمام (وهنو ما يغطي الأنف والفم).
أمّا الكِمام، فقد جاء عنه في لسان العرب: "الكِمَام، بالكسر، والكِمَامة: شيء يُسدُّ به فم البعير والفرس لئلا يَعَضّ." ثم تغيّرت دلالته وصار يستخدم للكِمَام الطبي المعروف. ولاحظوا أن الميم غير مشدّدة، فلا يصح أن نقول كمّام أو كمّامة.
وفي الزمان الغابر، كان العرب يتّقون الغبار بالتلثّم. وهذه كلمة جميلة، ونستخدمها في لهجتنا الكويتية فنقول مثلا: "فلان متلثّم بغترته". جاء في اللسان: "اللِّثامُ: ردُّ المرأة قِناعَها على أنفها، وردُّ الرجل عمامته على أنفه". مهلا، هل قرأتم "قناع المرأة"؟ نعم، فالقِناع والمِقْنَعة عند العرب قديما هو "ما تتقنَّع به المرأة من ثوب تغطّي رأسها ومحاسنها" كما يقول المعجم. إذًا، كان القناع يُستخدم لما يُغطّى به الرأس تحديدا لا الوجه، وفي هذا شواهد عديدة، ليس هذا مجالها. ثم تغيّرت دلالة الكلمة (ورصد التغيرات الدلالية مبحث لطيف)، وصارت تدل على ما يُغطّى به الوجه -لا الرأس- لغرض الحماية (كأقنعة الحماية من الغازات أو أقنعة الأكسجين)، أو اللهو (كأقنعة الحفلات والأطفال)، أو أقنعة التمثيل، أو حتى أقنعة اللصوص!
"ضع هذه، واضحة أكثر". "نعم، صحيح. أفضل من سابقاتها". "اللباس ملفت". "لنجعله أقصر والنحر أوسع". "رائع ولكم الشكر. اتفقنا وتستحقون المبلغ".
ويطبع إعلان دقيق التفاصيل فيأتي الاعجاب، ويتكرر الشكر، ويبدأ طوفان التهافت على الاعلان.
"تصوير مصنع وخط انتاج وحده لا ينفع". "هذه إضافة ضرورية؟". "صحيح. وفيها تمثيل حي مؤثر". "نعم. مقطع ملفت جدا". "وهو مغرٍ ويجذب الأبصار". "الزوايا البارزة والتقاسيم المزينة. رائع". "فلننتج ونسلمه للقنوات".
ويظهر مقطع إعلان يقتلع الأعين من المحاجر ويحرك الضحكات والغمزات ثم يستدر الجيوب.
تعلمت من أمي وأبي رحمهما الله رحمة واسعة وجعل قبرهما روضتين من رياض الجنة درسين مهمين للحياة:
أولهما- الوسطية في كل الأمور وخاصة في الدين فلا إفراط ولا تفريط:
فقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولنْ يشادَّ الدِّينُ إلاَّ غَلَبه فسدِّدُوا وقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، واسْتعِينُوا بِالْغدْوةِ والرَّوْحةِ وشَيْءٍ مِن الدُّلْجة".
كما قال عليه الصلاة والسلام: "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون".
لا تستغرب أيها الطبيب القارئ لهذه الرسالة، فعنوانها (الأبيض) لا ينفي حزننا وشقاء بعضنا من بعضكم.. وإن كان الشقاء يشفع له عطاؤكم وإنجازاتكم العظيمة في تخفيف آلام كثير من المرضى، لكن هذا لا يمكن أن نرى دمعة الحزن فيمن كان مصابه نتيجة خطأ، من بعضكم حيناً، أو إهمال وتسرع وعدم اكتراث من بعضكم الآخر، وإن كانوا قلة ولله الحمد والمنة.. ولا تحسب أيها الطبيب القارئ أنك على العموم متهم ما دمت طبيباً، ومن منا لا يخطئ، لكني أتحدث عن الخطأ الواقع لأسباب لا يمكن أن يقبلها عقل عاقل، ولا فهم فاهم.أنت تعمل أيها الطبيب الشهم مقدار ما تخلفه من فرحة وسعادة في قلوب الناس الذين يشفيهم الله على يديك.. لكن هل تعلم في المقابل مقدار الحزن الذي تورثه لمن يقع ضحية بين يدي بعض زملائك.. لا تقل إن في هذا الكلام تجنياً عليهم.. لا وربي.. ولست أنا من يحب التجني، وقد سمعت يوماً من طبيب مشهور قولاً مثل قولي، ورأياً مثل رأيي.. حتى في نفسه.. ودون أن ننسى فضل الأطباء على الناس، لكننا في المقابل لا بد أن نذكر أن أطباء اليوم لا يتنافسون على دخول كليات الطب من أجل الإنسانية، لكن باعتبارها كليات النخبة التي تضمن لصاحبها مالاً وفيراً ومقاماً رفيعاً.. وما من أب وأم اليوم - إلا من رحم ربي - يشجعان أبناءهما على دراسة الطب ويدفعانهم فقط ليكرسوا أنفسهم خدمة للبشرية جمعاء، وكل الناس - إلا ما ندر منهم – يؤملون أنفسهم بالثوب الأبيض كمهنة إنسانية، لكننا أيها الطبيب ما عدنا نجد ذلك في معظم الأحيان، فالطب بات كسائر المهن، كلما دفع المريض أكثر كلما نال من العناية أكثر، ولا يخفى على الناس كما تذكر الصحافة في بعض البلاد وفاة مريض على باب الطوارئ لأنه لا يملك دفعة على الحساب، ومن ذلك ولادة حامل على رصيف مستشفى رفض استقبالها..
قد تبدو الكلمات غريبة بعض الشيء، لذا دعوني أخبركم عن معنى هجين في المعجم العربي، ولن أتطرق لكل المعاجم، إلا أن الغالب حول معنى تلك الكلمة هو أنها نتاج زوجين أو صنفين مختلفين من أي مادة، قالت العرب: الولد الهجين هو من كان أبوه عربياً وأمه أعجمية، وكان ذلك عيباً عند العرب، والأمر مختلف بالطبع الآن، و قالت أيضاً: اللبن الهجين هو اللبن ليس بصريح و لا لبأ، يعني بين بين، والهجين من الخيل: هو ما تلده برذونة من حصان عربي(لسان العرب).
أما العربيزي، فكما ترون أنها منحوتة والنحت في اللغة هو الاشتقاق واختيار حروف الأصل من عدة كلمات ودمجها في كلمة واحدة فنقول: البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، والحوقلة: لا حول ولا قوة إلا بالله، والحيعلة: حي على الصلاة..إلخ.
"فاشِنستا"، اللفظة قديمة، وتعود لعشرين عاما تقريبا. الأصل في Fashionista (المسبوكة من كلمة إنكليزية ولاحِقة إيطالية) أن تُطلق على المتعلّقين بآخر طرازات اللباس، أو الموضة. وهذه ظاهرة أقدم من هذه الكلمة بطبيعة الحال. لكن منذ بضع سنين، في عالم وسائط التواصل الاجتماعي، اكتسبت الكلمة معنى جديدًا وذا زخم.
ثقافة الاستعراض
في العالم كلّه، صارت وسائل التواصل الاجتماعي المعتمدة على الصُور (مثل الإنستغرام والسنابتشاب) وسيلة للاستعراض البصري. وهذا لا يقتصر على بقعة أو فئة معينة. فنجد ثقافة الاستعراض هذه باديَة، حتى صار الأطفال يفتحون قنوات على اليوتيوب ويستعرضون فيها يومياتهم، وآخر ما اشتروا، وأحدث ما صنعوا. صار لكلٍّ منبر، ولكلٍّ منصّة في سوق كان في يوم ناديًا حصريّا لأهله المُختارين.
نظرة الإنسان الغربي إلى الحياة نظرة غايتها الرفاهية، المتمثلة في الاستمتاع بالأكل والشرب والجنس واللهو فقط، وتسخير العلم والطبيعية وكل الوسائل المتاحة لتحقيق هذا الغرض، في غياب إدراك غايات الإنسان الحقيقية المتعلقة بمعرفة سبب وجوده ومبدئه ومنتهاه؛ مما يسبب في هلاك الحرث والنسل والبيئة، وخراب البلدان ونهب ثروات الشعوب وإبادتهم عن طريق الحروب أو المجاعات المترتبة عنها، وكل ذلك من أجل أن يحقق الإنسان الغربي هذه الرفاهية ويعيش حياة الترف.
وحتى قيم العدل والمساواة والنظام وتطبيق القانون الموجودة في بلاد الغرب؛ إنما هي تطبيقات منحصرة داخل جماعاتهم، وقد أملتها عليهم ضرورة العيش لتحقيق الرفاهية المتمثلة في الاستمتاع بالأكل والشرب والجنس واللهو فقط؛ ولو على حساب مقدرات الشعوب الأخرى وحقهم في الحياة، فتطبيق بعض الفضائل داخل مجتمع وجعلها ضمانة لاستمرار الرفاهية مع فعل الشرور في حق مجتمعات أخرى ونهب خيراتها؛ لا يعني أن ذلك المجتمع مجتمع فاضل، بل يعني أن تلك الفضائل فضائل نفعية قائمة على تحقيق المصلحة والمنفعة الآنية لأفراده، فهي هدنة وسياسة داخلية يقوم بها الأفراد في المجتمعات الغربية ليتحقق لهم الاستمتاع بالحياة على الوجه الأكمل، حتى إذا خرجوا من حدود بلدانهم أنكروا ما تعارفوا عليه داخل بلدانهم من عدل ومساواة ونظام وتطبيق القانون؛ فيستعبدون الشعوب الأخرى استعبادا وينهبون خيراتهم، فنظرتهم الفلسفية للحياة نظرة برغماتية قائمة على المنافع والمصالح الفردية وتحقيق الرفاهية والترف، وهي خاضعة إلى السياسة أكبر من خضوعها إلى المنطق والفلسفة.
الصفحة 3 من 53