التعليم المغربي في غرفة العمليات من جديد
الفهرس:
- الواقع الموجود.
- المستقبل الموعود.
- بواعث وخلفيات.
- تعليق وأمنية.
- محض تساؤلات.
- ختامه اقتراحات.
- الواقع الموجود:
يقول المثل العربي:"استقبال الموت خير من استدباره"، ويبدو أن النظام المغربي قد استوعب هذه الحكمة وعقد العزم على الأخذ بمحتواها، وذلك من خلال الاعتراف بأن سكتة قلبية جديدة تصرع تعليمنا المغربي منذ أمد مستطيل متماد، بلغت به حد الموت الإكلينيكي الذي يقتضي دخولاً مستعجلاً إلى غرفة الإنعاش، وتدخلاً جراحيًا عميقًا ودقيقًا، وذلك استنادًا إلى توصيف أعلى سلطة في البلاد - انطلاقًا من الخطابين الملكيين لعشرين غشت من سنتي 2012 و2013 – لتعليمنا بأنه قد ارتد وانكفأ وساء وانحدر إلى دركة وضيعة استدعت تعبيرًا قويًا وحادًا من قبيل:"إن ما يحز في النفس أن الوضع الحالي للتعليم أصبح أكثر سوءًا مقارنة بما كان عليه الوضع قبل أزيد من عشرين سنة" (خطاب 2013).
بالرغم من الإصلاحات الكثيرة المتعاقبة والقياسية بالنظر إلى المساحة الزمنية التي استوعبت هذه الإصلاحات التي انطلقت منذ 1957 مرورًا بإصلاح سنة 1960 - 1964 ثم إصلاح 1966، ليعقبه إصلاح 1985 في إطار تطبيق سياسة التقويم الهيكلي التي انطلقت سنة 1983، وجاء بعده الميثاق الوطني للتربية والتكوين الممتد بين 1999 و2009 ليأتي بعده المخطط الاستعجالي 2009 - 2012، وبعده برنامج عمل وزارة التربية الوطنية 2013 - 2016، الذي أعلن عن نهايته بتبني الرؤية الإستراتيجية 2015 - 2030.
وبعد كل هذه الإصلاحات وما رصد لها من اعتمادات مالية وما بذل فيها من مجهودات بشرية، وما بدد فيها من أوقات غالية، لم تفلح هذه الإصلاحات ولم ترفع للأمة لواء ولا منارًا ولم تعظم لها شعارًا، بل كانت النتيجة بعد كل ذلك خفي حنين، وكان التقييم النهائي بصيغة التحقير "أكثر سوءًا" ما يعني أن هذه الإصلاحات قد أفرزت عكس ما كان مأمولاً ومنتظرًا منها، ورجعت بالتعليم القهقرى أزيد من عشرين سنة إلى الوراء، بما يفيد أن الإصلاحات تقول ما لا تفعل، وقديمًا قال جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعًا ** أبشر بطول سلامة يا مربع
لاشكّ بأن كل منا يُدرك - إلى حدّ ما - ما يترتب على الحروب التي يشنّها البشر مهما كانت دافعها وتبريراتها، من جور، ومن مظالم، ومن دمار في البُنى التحتية والاقتصادية ، وكذلك من فساد أخلاقي وانتهاك لجميع المعاني الإنسانية. كما أن كل منّا يعرف جيداً ما تسببه الحروب من كوارث وويلات.
وانطلاقاً من التجربة الشخصية التي أمرّ بها حالياً في وطني فقد رأيت بأن عليّ أن أبين للقارىء ما نمرّ به في هذه الحرب الجائرة على الرغم من أنني لو أردت أن أعدّد البعض فقط من الآثار الفتاكة، والويلات التي تنجم عن الحروب، خاصة في هذا العصر الذي شهد - مع كل أسف - تطوراً كبيراً في آلة وترسانة الحرب وفي أسلحتها المدمرة، لكان علي أن أكتب صفحات وصفحات، سوف تضع القارىء في النهاية في متاهة ولابدّ أن تجعله ينظر إلى عالمنا نظرة تشاؤمية ويفقد الأمل في كل ما هو إنساني، ويعتبر بأننا بعد أن وصلنا إلى هذا القدر من الحضارة والتطوّر، قد عدنا إلى عصر شريعة الغاب، وأن يعتبر بأن المفاهيم الإنسانية قد تغيّرت بحيث أصبحت الحياة للأقوى وليس للأصلح.
مدخل
لئن كانت قيم التعايش وخلق التسامح تكسب صاحبها مفتاح قلوب الناس، وتضفي على المتسامح حلة من القبول والهيبة والتقدير مثل كل القيم الخلقية الأخرى، ولاسيما ذات البعد الاجتماعي منها، فإن أثر هذه القيم الإنسانية وإشعاعها يتفاوت حسب مواقع الناس من المسؤولية، و باختلاف مكانتهم من المجتمع، وحجم دورهم الإشعاعي فيه.
بيد أنها تدرك أوجه وتبلغ أشدها وكمالها في رسل الله وأنبيائه، بوصفهم الوساطة بين الله وبين خلقه في نقل خطابه إليهم، ثم تتدرج نزولاً إلى من هم دونهم لتبلغ حدها الأدنى في الإنسان العادي.
والرسل أنفسهم، ليسوا في الفضل سواء، قال تعالى: }تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض{ [سورة البقرة الآية 253]، فقيم التعايش الإنسانية في أولي العزم أقوى منها في غيرهم، لكن محمدًا خاتمهم ذهب من هذا الخلق بأوفى حظ وأوفر قسم، وبشهادة القرآن الكريم الذي قال فيه: }وإنك لعلى خلق عظيم} ]سورة القلم الآية 4].
إن هذا الرصيد الضخم من الثروة الأخلاقية التي جعل الله ذات المصطفى وعاء لها ومستودعًا لاختزانها، مستمد كله من القرآن الكريم، تمثله رسول الله وترجمه إلى سلوك عملي متحرك ملموس، كان أرقى نموذج لسيرة نبي، و تسامح رسول.
لذلك كانت الأخلاق السمحة صفة لصيقة بالإسلام الذي جاء به رسول الله، وصفة واقعية، تجسدت في أمته وحضارته وتاريخه، ولم يكن مجرد مثاليات استعصت على التطبيق.
وسأورد هنا أهم النماذج في تاريخ البشرية التي تبين مدى رقي العهد النبوي وتحليه بمبادئ الوسطية والاعتدال وخلق التعايش والتسامح، وسأكتفي في هذه المقالة الأولى بالنموذج الأول الذي وسمته بـ "وثيقة السلام، أنموذج لدستور الدولة في مجتمع متعدد الثقافات والأديان"، على أمل الانتهاء من النموذج الثاني والثالث بحول الله.
هذه اللحظات تشهد أنّك ما تزال تحت ثقل اختبار قاسٍ، ليس بمقدورك أن تهرب منه إلى الظل البعيد! ولا أنْ تقبعَ في حجرة نائية تعيش وحدك كي يكون العذاب سراباً بالعزلة؛ لأنّك لا تقدر في هذه الساعة أن تعيش لنفسك فترصد من الهواء المتحرك عطراً زكياً تتنشقه وحدك، وتمنع غيرك من الاقتراب منه!
فلولا المشقة يا صاحبي، ساد الناس كلّهم، ولكنّ الجود يُفْقر والإقدام قتّالُ!!
إن التصور الأسلم لما ينبغي أن تكون عليه علاقات المسلمين مع غيرهم من أبناء إنسانيتهم المواطنين، من النصارى واليهود، أو غيرهم من أهل الملل الأخرى؛ مغاير تماما لما هو عليه واقع الدول العربية والإسلامية في الوقت المعاصر، فالواقع شيء والتصور الأمثل لهذه العلاقات شيء آخر، والعمل على تنزيل هذا التصور الراقي في التعامل مع المختلفين يحتاج إلى استيعاب هذه الرؤية ومحاولة فهمها، وفهم مقاصدها الدينية وأبعادها الوطنية؛ والتي من شأنها أن تسهم في الحد من الاستقطابات العنصرية سواء أكانت دينية أم سياسية أم عرقية؛ في كثير من الدول التي تكثر فيها الأقليات الدينية المختلفة.
أحيانًا تحاولُ ألاّ تكتب، تحاول أن تلزم الصمت، أو الحياد بلغة العامة، ولكنّك تشعر بدافع كبير، يشدّك من لسانك، ويدفعك للحديث، كما يدفع بك الظمأ السير للماء! وهناك من تكون حاجتهم للحديث أشدّ من حاجتهم للماء؛ لأنّ الحياة عندهم تكون بمقدار ما يفعلون لا بمقدار ما يشربون.
إنّ الذين لا يستمعون للحديث، ولا يروق لهم التفكر والتدبر في مظاهر الحياة ومواقفها اعتادوا دون شكّ أن يعيشوا لذاتهم، فيفكروا فيها فقط، ويحلموا لها، ويعملوا وفق ما تشتهي، لا وفق ما ينبغي. أولئك اعتادوا أن يسيروا عكس التيار دائماً، ويعتقدون أن الأمر كله يملكونه. وأنّ الدنيا حبالها بأيديهم، يشدونها متى شاؤوا، يخلون سبيلها عندما يطيب لهم ذلك.
ولن أستقصي كثيرًا، فالداء الذي استوطن عقولنا يأبى الرحيل، وقلوبنا في حالة رقص، أشدّ ما يكون الرقص جنونًا، ولا يكون ذلك وفينا قليل من عافية، أو ضمير نسمح له أن يقول كلمة الفصل!
ماذا كان اسمها؟ تلك الأم التي أحنت ظهرها في ذاك المصنع المشنوق بالزحام والمخنوق بالدخان وروائح الأصباغ؟ تلك التي أمسكت بالأكواب الخزفية وأخذت تلوّن الشخصيات الظريفة، والمقابض المزودة بكائنات محببة. ولماذا كانت تفعل كل ذلك؟ على أمل أن تراها امرأة ما في العالم السعيد فتبتاعها لأبنائها، فتعود تلك ... تلك الأم التي لا أعرف اسمها إلى بيتها ببضعة يوانات لأبنائها.
ترى، هل حظي أي من أبنائها بكوب ظريف مصبوغ يدويا؟ لا، هذا ترف لا تقدر عليه لا يحق لأبنائها. لا تنفك صورتها المتخيلة مطبوعة في رأسي. أشعر بأني رأيتها من قبل، وجهها الذابل، التجاعيد التي على شكل مروحة المحيطة بعينيها، نابها الأيمن الأكثر اصفرارا من بقية أسنانها. آه، لو أستطيع أن أعرف اسم تلك المرأة التي تستعمر تفكيري منذ رأيت تلك الأكواب!
الصفحة 7 من 53