مع صحوة النهار، و"الله أكبر"، وضوء بالماء البارد، ووقوف اتجاه القبلة، صلاة، ودعاء، ووقوف وذهاب إلى العمل، ورسم ابتسامة الأمل.
أرتاح أنا في العمل، ومع أنني -أحيانًا- أدعو على "قاسم أمين" وأمثاله، ممّن دعوا إلى تحرير المرأة، وإنزالها الى ميدان العمل!
أحب الراحة، وأحبّ الشعور بعدم الالتزام، وأكره تحمّل المسؤولية، ومع ذلك رائدة أنا في العمل، وأنجِزُ مهامي بدقّة، وأقوم بمسؤولياتي بإخلاص!
ورُغم ذلك؛ أكرهك يا قاسم أمين! لقد كنتُ اليوم أنعم بالراحة، ومع أنني اعتدتُ على العمل، وهو يقوم بوقايتي من العوز، ومن الفقر، ومن الحاجة، وبه أكون إنسانة قويّة؛ أملك قراري وأملكُ المال، ورغم ذلك أدعو على قاسم أمين!
دعتني صديقة عزيزة لحضور حفل استقبال في منزلها بمناسبة المولود الجديد، حضرت الحفل وإذا به على غير عادة الحفلات المعروفة في أوساطنا هذه الأيام، والتي بدأت تكثر وتتكاثر بسبب ودون أي أسباب، وتتميز هذه الحفلات النسائية (لمن لا يعرفها) بعرض لأثمن الماركات العالمية بين الحاضرات، وسباق لارتداء أغلى وأحلى الفساتين وأكثرها ضيقا وعريا، وطبعا لتسريحات الشعر دور مهم فهي لأشهر الممثلات ويتم تصفيفها في أكبر الصالونات، ولا ننسى للميكياج والاكسسوارات حضوره الطاغي وإن لم يتم دعوتهم رسميا، حتى الهدايا التي تقدم لتلك الروح البريئة الطاهرة في مهادها أصبحت ذات مواصفات قد يصعب على البعض تفسيرها، كل هذا لأن امرأة أنجبت طفلا، وكأنها هزت نخلة تساقط عليها رطبا جنيا، ثم أحضرت المسيح بين ذراعيها بعد عناء وشقاء.
فلنرجع للحديث حول هذا الحفل الذي دعيت له .. ما الغريب والجديد فيه؟ دخلت المنزل ووجدت النساء انشغلن في تلاوة القرآن وفي يد كل واحدة جزء من كتاب الله، استغربت الحدث للوهلة الأولى، ولكن زالت علامات الاستفهام حين أعطتني والدة صديقتي مصحفا وطلبت مني القراءة لأجل البركة، وبعدها بدأت الداعية (أم ابراهيم) بدرس مليء بالعبر والعظات ، تحدثت فيه عن مفاهيم صرنا نفتقدها في عصر العولمة المتقدم ، ووجهت حديثها للفتيات الصغيرات لتحدثهم عن الحياء والحشمة ومعاني الستر ودور البنات أمام السيدة (موضة) والسيد (فاشن)، فخاطبت العقول بعبارات ثقيلة في موازين الكلام عميقة في معانيها وثمينة في قيمتها الاستيعابية، ولفتت انتباهي هذه الداعية المتواضعة بأسلوبها المرن عبارة حفرت في ذهني وبقيت أفكر فيها لأيام حيث قالت: "نحن نتراجع عن دروب الحق لقلة السالكين فيه رغم صحته، ونتوجه لمسالك الباطل المكتظة رغم كثرة الهالكين فيه".
تسير في الطريق الفسيح، وتتمتع بالمناظر الجميلة على جانبيه. تتوقف قليلا لتلوح بيديك لمن تراهم على الجانب الأيمن. فجأة، تحس بأن شيئا يتحرك أسفل قدميك. إنه خُلْد مزعج ظهر من حفرة على جانب الطريق. يطل من الحفرة تارة، ويختبئ تارة أخرى بشكل يفقدك أعصابك ويفسد عليك الاستمتاع بالمنظر. تكتشف أن لديك مطرقة خشبية كبيرة في يدك. تهوي بها عليه، فيرتد إلى حفرته مذموما مدحورا.
تكمل السير، وإذا به يظهر مرة أخرى على جانب الطريق الأيسر، فتعامله كما عاملته من قبل. ثم تكمل مسيرتك ظانا أنه ارتدع. يبدو أنه ارتدع فعلا، إذ لم يظهر منذ مدة. تسير مزهوا بانتصارك عليه، فتجد نفسك تهوي على الأرض متعثرا بشي ما. تعسا! إنه الخُلد المزعج مرة أخرى، لقد ظهر هذه المرة من بين قدميك دون أن تنتبه له، فأسقطك سقطة موجعة.
تنفرد مدينة نابلس (جبل النار) بعادات وتقاليد خاصة بها، أو أنها تتشابه إلى حد ما مع بعض المدن الإسلامية مثل القاهرة ودمشق، وتذكيرًا فقد لقب المؤرخون مدينة نابلس بدمشق الصغرى، ومع ذلك تظل نابلس لها خصوصيتها.
لقد اعتاد النابلسيون على استقبال شهر رمضان المبارك من كل عام هجري بفرح وسرور عظيمين. ولا عجب في ذلك فهو شهر الرحمة والمغفرة، شهر الخيرات والبركات، شهر التوبة من المعاصي والذنوب.
قبل أيام من ثبوت رؤية هلال شهر رمضان المبارك الذي اعتاد المسلمون في كثير من الأقطار الإسلامية أن يحتفلوا به، كان النابلسيون يستعدون لهذه المناسبة الكريمة بما يليق بجلال حلول هذا الشهر المبارك.
كنّا صغارًا ونحن على مقاعد الدراسة ننهل من ينابيع العلم الصافية، عودنا طريٌّ، ضحكاتنا ربيع يزيِّن البيوت وينعش النفوس، أحلامنا إشعاع نوراني شفاّف، أفراحنا حقول مفروشة بالورود والرياحين، ولما شبَّ عودنا وانتفضت قاماتنا، اكتسبنا الكثير من المقولات والمفاهيم، اكتسبنا زادًا يفوق سنَّنا، اكتسبناه من البيت والحي والمدرسة والشارع، التقطنا كالطيور كلَّ كلمة تلامس أسماعنا، لتعبُر عميقًا وتمضي بخيلاء كي تجد مستقرّا لها في قلوبنا وعقولنا. كنّا نُقبل على الحياة بنهم رغم صخبها وقساوتها، لا ندير لها ظهرنا بل نتحصَّن بها، ولكن عندما وقفنا أمام مهمات الحياة ودخلنا معتركها -ومعترك الحياة يدعوك لتوظيف ما اكتسبته وادّخرته- بحثنا عن تلك المقولات التي مازالت تشع في أعماقنا، بحثنا عنها دون كلل، نقبنا عنها في مسامات الصحف والمنابر والأرصفة، استعرنا مواقف مَن درسونا وأعطونا بسخاء وحب، وجدنا متعة لا تجاريها متعة، وشعرنا بنشوة الوقوف والوجود أمام كل المعوقات التي تُرمى في طريقنا.
الصفحة 11 من 53